تأسست علاقات تركية روسية منذ ما ينوف عن عقد من الزمن، على تاريخ حافل بالنزاعات والخلافات، رغم وجود بعض من المصالح الإقليمية والاقتصادية المشتركة، والتبادل النفعي البيني بينهما، ضمن حيز جغرافي واحد، وفي كل الأحوال لايمكن أن ترقى الى علاقات ودية طبيعية بين جارتين، وفي أتون تفاعلات دراماتيكية جيوسياسية تتمظهر بين الحين والآخر، صعودًا أو هبوطًا حسب انجدال المصالح أو تراخيها وانفلاته. ولأن تركيا تسعى لصعود إقليمي متسع وفق سياسات حزب (العدالة والتنمية) الحاكم والمتطلع إلى دور أكبر وأوسع يخرج من عنق الزجاجة التي تم وُضع تركيا فيه إبان الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وصولا الى الحاضر، وفشلت سياستها التي اعلنها حزب العدالة والتنمية أبان استلام الحكم (مشاكل صفر)، وباعتبار أن السياسة البوتينية/ الروسية الخارجة من تقوقع الدب الروسي المنطوي على نفسه، وفق معطيات ما بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، متحفزة إلى ما هو أبعد من الواقع الداخلي الروسي ومنغصاته الاقتصادية، وما يلوذ بها من تفاعلات داخلية وإقليمية، كانت قد انحصرت بمكونات دول الاتحاد الروسي، وبعض الدول المنضوية تحت مايسمى (الدول المستقلة) التي تكونت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأمام السياسة العالمية والتي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية أو على الاقل تلعب فيها دورا محوريا، وترهل (القارة العجوز) وعدم قدرتها على لعب الدور المنوط بها إقليميًا، فقد راحت العلاقات البينية تتوسع قليلا بين روسيا وتركيا، وتتجاوز بعض المخمدات التي يمكن أن تعتري مسار العلاقات أو تقلل من وصولها إلى الحيز الأعلى، فقد تكونت العلاقات بينهما تسمى (علاقات شراكة) لم ترتق يومًا إلى أن تكون علاقة تحالفية على الإطلاق، لأسباب كثيرة منها، وجود تركيا كعضو أساسي في حلف الناتو، بينما روسيا تعتبر من بقايا (حلف وارسو) المضمحل والمنتهي مفعوله منذ عام 1991.وكانت العلاقة، وعلى الدوام، تتطور إلى درجات أعلى وأعمق بالتزامن مع ما كانت عليه العلاقات التركية الأميركية تشوبها مصاعب وخلافات كثيرة لا تصل إلى القطيعة، بل إلى مماحكات سياسية وعقوبات في بعض الأحيان، ترسلها الإدارات الأميركية كرسائل احتجاج على علاقات بينية بين تركيا والروس، وصلت في بعض الأحيان إلى مستويات عالية بعد صفقة صواريخ (إس_400) بين تركيا وروسيا.

في الحالة السورية فقد كانت العلاقات بين الدولتين ذات طابع عدائي و تصعد وتهبط ضمن خط الشراكة واللاتحالف، وحسب التوتر الحاصل بينهما واختلافها بالسياسات المتناقضة فيما يتعلق في الموقف من نظام الأسد، ودعم الأتراك لأطراف من المعارضة السورية، في وقت باتت فيه روسيا، بوجود قاعدة حميميم، بعد أيلول/سبتمبر عام 2015 وولوج القوات الروسية إلى سورية، أكثر قدرة ومصلحة في التحكم في مسار الأحداث داخل سورية، وهي التي توعز لنظام الأسد بالانقضاض على ريف حماة أو إدلب أو حلب، وتشاركه في الكثير من حالات القصف العدواني على الشعب السوري/حاضنة المعارضة.

لكن ذلك لم يمنع ابدًا كلا الدولتين من أن تكونا عرابتا أي اتفاقات أو تفاهمات في سورية، وخاصة اتفاق 5 آذار / مارس 2020، وما سبقه من اتفاقات عام 2018 ثم ما لحق به من تفاهمات في سوتشي.

هذا الوضع في الشمال السوري الذي تَحُفُّ وتمسك به حالة الاشتباك المؤجل بين الروس والأتراك، خلق حالة من التوازن النسبي أبقت على الوضع في إدلب والشمال على ما هو عليه بعد جملة التفاهمات والاتفاقات، وهو ما حرصت روسيا على تسميته بالوضع المؤقت، ولم تقبل أبدًا أن يكون دائمًا، حتى لو طال الزمان.

أما اليوم وبعد أن تحركت جحافل القوات الروسية لغزو دولة مجاورة هي أوكرانيا، وهو الخروج الكبير من القمقم الروسي إلى فضاءات إقليمية توسعية أخرى تهدد أمن وسلامة الأوربيين وحلف الناتو برمته، بما فيه بالضرورة الدولة التركية المنتمية إليه. باتت العلاقات التركية الروسية مفتوحة على متغيرات جديدة قد تؤدي إلى تسوية حسابات أخرى في الجغرافيا السورية، وبالتالي فإن انشغال الروس بالوضع الأوكراني قد يلجم الروس عن التحرك الأوسع في الشمال السوري، لكنه لن يمنعهم أبدًا من الخوض في عمليات جراحية لا تفجر الوضع، لكن دون أن تبقيه ساكنًا. وهو ما حاول الأتراك منع وقوعه مؤخرًا عبر سياسات جديدة أمسكت العصا من المنتصف، وتلعب سياسيا، لتحول دون أن (يقتل الذيب أو تفنى الغنم)، حيث حاولت هذه السياسة وما زالت التحرك وفق دينامياتها المتبدلة عبر انزياحات لتكون الوسيط هذه المرة بين الأوكران والروس، ولتلبي رضى الغرب والأميركان في نفس الآن، حتى لو لم يغير بوتين كثيرًا من سياساته تجاه المسألة الأوكرانية، لكنها استطاعت جمع الطرفين في أنطاليا، ولأول مرة بعد الحرب على مستوى وزراء الخارجية.

تحاول تركيا خلال الأزمة الأوكرانية أن تظهر نفسها على أنها تمسك العصا من المنتصف، في محاولة منها، لكسب الطرفين، ولتكون وسيطًا ممكنًا ومقبولًا بينهما، ومن ثم إرضاء السياسات الأميركية والأوربية، دون إزعاج الشريك الروسي.

السياسة التركية وهي العضو الأساسي والأصيل في حلف الناتو لا يمكن ان تبقى متوازنة في المسألة الأوكرانية، وما برحت تحرص على أن تكون الاتفاقية التي تسمح لها دوليًا بغلق المعابر البحرية المؤدية إلى البحر الأسود، شاملة للطرفين ولكل الدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود حتى لا تشكل خطوتها هذه إزعاجًا لأحد الطرفين. وهي في ذلك تمشي الهوينا في سياق التوافق مع مصالحها الإقليمية كدولة مستوردة للغاز الروسي، ومستقبلة للسياح الروس والذين ينشطون مرافقها السياحية، والكثير من العلاقات التجارية البينية بينهما، التي تجاوزت عتبة 25 مليار دولار في العام الفائت، لكن كل ذلك دون جدوى تذكر .

من هنا فإنه لا يمكن لتركيا ولا روسيا حسب القراءة المتأنية بأن تحافظ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا الإبقاء على علاقة لا عدائية بين الدولتين روسيا وتركيا، وقد يكون من صالح روسيا أكثر في هذه الحرب أن تبقي العلاقة جيدة مع تركيا، حتى تخفف نسبيًا من حدة وتأثير العقوبات (التاريخية) الكبرى التي باتت تتصاعد كل يوم وتقع فوق رؤوس الروس، من قبل دول العالم وعلى رأسها الدولة الأميركية العظمى والاتحاد الأوروبي.

لكن يبقى السؤال ماثلا إلى أي حد وأي مساحة سوف تتطورفيها العلاقة بين الدولة التركية وروسيا وباتجاه عداوة أكثر أم أقل وبطبيعة الحال لا يمكن أن تبقي على علاقات جيدة وحسنة، والتفاهمات القائمة في سورية وغير سورية بين روسيا وتركيا، يبقى مصيرها مجهولا فلا يمكن لتركيا أن تتسبب أي أذى و إزعاجًا للسياسات الأوربية والأميركية، وقد تكون الأميركية هنا بالنسبة للأتراك أكثر أهمية. وهل سيؤول الأمر إلى ترحيل الخلافات القائمة بين الطرفين منذ بدايات مسار أستانا ومناطق خفض التصعيد المختلف عليها، وكذلك التفسيرات المختلفة والمتباينة لكلا الدولتين في الوضع السوري، وخاصة اتفاق 5 آذار/مارس وما استتبعه من بعده، وتوقف الدوريات العسكرية والتنسيق المشترك بينهما، وعدم انسحاب بعض الفصائل من جنوب الخط   M4وهو ما تعتبره روسيا بمثابة عدم التزام بالاتفاق المشار إليه، علاوة على ما لدى الأتراك من اعتراضات وتحفظات على دور روسيا المتماهي مع ما يفعله نظام بشار الأسد من انتهاكات يومية ومستمرة لكل هذه التفاهمات والاتفاقيات في إدلب وسواها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.