حققت الدراما السورية منذ تسعينات القرن العشرين انتشارا واسعا في المنطقة العربي، جعلها منافسا صعبا للمسلسلات المصرية الأكثر انتشارا في ذلك الوقت، وهي صاحبة الإمكانيات الضخمة لوجستيا وبشريا.

ومنذ تلك الفترة (التسعينات)، وحتى عام 2010، تحدث الكثير من الصحفيين والنقاد والفنانين عن أسباب نجاح الدراما السورية وانتشارها، حتى في السنوات التي “شهدت أزمات” طالت هذه الصناعة، سواء ما أطلق عليه “أزمة النص”، أو أزمة المقاطعة الأولى في أعقاب “حرب تموز”.

لا يناقش هذا التقرير أسباب نجاح أو فشل الدراما السورية وتراجعها، بقدر ما يسلط الضوء على نقطة يعتبرها البعض أساسية في النجاح الذي حققته المسلسلات السورية على مدى سنوات، وهي صفة وميزة لازمت بعض هذه الأعمال، وهي أن الدراما تميزت بروايتها لحكايات “واقعية” تمس نبض الشارع العربي ومشاكله الاجتماعية المتشابهة.
ومسألة “واقعية الدراما السورية”، هي إحدى أكثر النقاط الخلافية بين النقاد السوريين والعرب، على اعتبار أن الدراما، كأي فن آخر في سوريا وفي العالم العربي لا تملك حريتها الكاملة للتعبير، وعانت وخاضت معارك كثيرة مع السلطات الرقابة.

واقعية أم لا؟

يعود مصطلح “الواقعية” في الأصل إلى السينما، وتحديدا مع نشوء “الواقعية الإيطالية” و”الواقعية الفرنسية” بعد الحرب العالمية الثانية لعشرات الأسباب التي لا يمكن ذكرها هنا، ومن الضروري أيضا الإشارة إلى أن مصطلح “الواقعية” في الدراما السورية لا يرتبط بالمصطلح نفسه المرتبط بالسينما الإيطالية والفرنسية وغيرها، بقدر ما يرتبط بأنه يروي “حكايات الناس الاجتماعية في الشارع”، ومن هنا يبرز السؤال، هل نجاح الدراما السورية لسنوات ومن ثم تراجعها يرتبط بغياب هذه الواقعية؟ وهل الدراما السورية لم تعد تملك القدرة على سرد حكايات الناس بقالبها الاجتماعي أو مس مشاكلهم كما فعلت في مسلسلات “زمن العار” أو “ليس سراباً” أو غيرها من الأعمال.

الكاتب المسرحي والناقد الفلسطيني، سلام أبو ناصر، يرى في حديث مع موقع “الحل نت”، بأن مفاتيح نجاح أي عمل درامي يرتكز إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي برأي أبو ناصر كادر يتقن عمله من ناحية الإنتاج والإعلام والتسويق، وبيئة مناسبة تلبي حاجة العمل، وقضية (والمقصود بالقضية النقد والتحليل)، وبالتالي فإن غياب واحد من هذه العوامل أو حدوث خلل فني يعني فشل هذا العمل برأيه.

ويرى أبو ناصر أن المشاهد العربي عموما والسوري خصوصا “اعتاد على الخلطة الدرامية للمنتَج السوري، وصار يفضلها على غيرها من الأعمال الاجتماعية المطروحة في الأسواق، وسبب ذلك لا يعود إلى نجاح في تطبيق تلك العوامل الثلاثة فحسب، فالركيزة الفكرية والفنية التي طبعت واقعية المشهد الدرامي في الأعمال السورية كانتا العامل الأهم في انتشار الدراما السورية ونجاحها بهذا الشكل، طبعًا قبل بداية الحرب عام 2011″، بحسب رأيه.

وأضاف “تبقى أعمال مثل “زمن العار” و”الفصول الأربعة” “وأبناء القهر” و”الانتظار” وغيره من المسلسلات المطبوعة في ذاكرة المشاهد ووجدانه أعمالا ناجحة لخصوصيتها الظرفية والإنتاجية والجمالية. ما نشاهده من أعمال في وقتنا الحاضر ما هو إلا محاولات لاستعادة بريق تلك الأعمال و”المحاولة” تعني في حد ذاتها استمرارا، بغض النظر عن ماهيتها وأبعادها وظروفها”.

“الدراما لم تكن واقعية”.. نقطة الخلاف الأساسية؟

برغم أن رأي أبو ناصر يتقاطع مع آراء الكثير من الفنانين والنقاد والصحفيين المختصين بالشؤون الفنية والمتابعين للدراما السورية، إلا أن نقطة “الواقعية في الدراما السورية” تمثل نقطة خلافية كبيرة، إذ لا يتفق الجميع بطبيعة الحال على أن المسلسلات السورية صُبغت بالواقعية إلا في أعمال قليلة، معتمدين على فكرة أن الأعمال التي حققت الانتشار والنجاح خارج حدود سوريا كانت بالأساس الأعمال التاريخية (ثلاثية الأندلس للراحل حاتم علي على سبيل المثال)، وأعمال الفانتازيا التاريخية في التسعينات لنجدة أنزور (الجوارح والجزئين اللاحقين)، وأعمال البيئة الشامية عموما.

ويرى المتخصص بالنقد الفني، عمر بقبوق، إن الدراما السورية “لم تنطلق من الواقع ولم تكن واقعية يوماً”.
وقال بقبوق لموقع “الحل نت” إنه “في فترة الثمانينات وما قبلها، كانت المسلسلات تصور في الاستديوهات، ثم خرجت منها مع المخرج هيثم حقي، الذي يعتبره البعض رائد الواقعية في الدراما السورية، لكن هل يكفي أن تخرج الدراما من الاستوديوهات إلى الشوارع لتصبح واقعية؟ إذا كان هذا هو المعيار، فإننا بالتالي ننفي وجود مسرح واقعي، لأننا نربط بين الواقعية ومكان التصوير، بدلا من فهم الواقعية على أساس المحتوى. لذلك لا يمكن القول أن كل مسلسل يتم ضمن سياق اجتماعي معاصر ويتم تصويره في فضاءات المدن السورية العامة أنه واقعي”.

وينطلق بقبوق في نفيه لوجود “الواقعية” في الدراما السورية من نقطة “لو كانت الدراما واقعية لانعكست عليها الأحداث المحلية والعالمية بشكل أوضح، لم نرى مسلسلا يعكس واقع ما حصل للسوريبن يوم وفاة حافظ الأسد أو عند استلام البعث السلطة، ذلك لم يحدث رغم أن هناك معارضة تقدم أعمالا يقال عنها واقعية”.

وأضاف “الدراما لم تكن واقعية يوما، تصور في الشوارع “للاسترخاص”، ولأنها تحكي قصصا تدور أحداثها زمانيا ومكانيا في دمشق، لكنها لم تحاول حقيقية أن تقدم صورة حقيقية عن الواقع، سواء بمفهوم الدراما الواقعية الذي عممته أمريكا بمسرحها وفي السينما، أو حتى الواقعية الاشتراكية التي تتحول فيها الشخصيات لأنماط اجتماعية تختزل الواقع. الواقعية في الدراما لا تنطبق على أي حكاية تدور في زماننا والمكان الذي نعيش فيه”.

ولا ينفي بقبوق في حديثه وجود الواقعية في أعمال درامية سورية بشكل مطلق، لكنه يربطها بأعمال قليلة جدا. فيقول بقبوق “هناك بعض المسلسلات التي يمكن أن نقول عنها واقعية وهي قليلة جدا. حسن سامي يوسف نقل الواقع من خلال تجربته الشخصية في بعض المسلسلات، وتحديدا عندما تحضر شخصيته في العمل عبر إحدى الشخصيات، كمسلسل زمن العار على سبيل المثال، هناك مسلسلات أخرى حاولت أن تكون كذلك كأحلام كبيرة وزمن العار لكن الباقي ليس كذلك”.

وبالتالي لا يتفق بقبوق بأن هناك “واقعية في الدراما السورية”، وإن كان مفهوم الواقعية يعني أن الأحداث تدور في دمشق في الوقت الحالي، فهذا يعني أن الأعمال التي أُنتجت بعد عام 2011 واقعية أيضا، وهي ليست كذلك بحسب رأيه.

ومنذ التسعينات قدمت الدراما مئات الأعمال، جزء منها أحداث معاصرة زمانيا ومكانيا، لامس بعضها الواقع كمسلسل “زمن العار” أو “ليس سرابا” وكذلك مسلسل “الانتظار” و”عصي الدمع” وغيرها من الأعمال التي حققت نسبة مشاهدات عالية داخل وخارج سوريا.

دور شركات الإنتاج والمنصات في “غياب الواقعية”

من المعروف أن الشركات ومنصات العرض، تتحكم بشكل كامل في الأعمال المعروضة، وبالتالي تملك القدرة على تحديد شكل وموضوع العمل الفني وشرائح المشاهدين المستهدفة، وبالتالي لديها القدرة بشكل مباشر على التحكم بنمط المسلسل والأفكار التي يحملها ويقدمها للمشاهدين.

ويرى الكاتب المسرحي والناقد الفلسطيني، سلام أبو ناصر، أن المناخ السياسي والأمني في سوريا كان لهما دورا أساسيا؛ ليس فقط في غياب الرؤية الواقعية فحسب، بل بتشويه مصداقية هذه الرؤية في الأعمال الدرامية التي شاهدناها خلال عقد ونيف من الزمن.

وأضاف “إذا أردنا وزر دور المنصات الجديدة التي أخذت تحتل سوق العرض والطلب في السنوات الأخيرة ومزاحمتها للشاشة، فلا بد لي أن أشير أيضا إلى تأثير ما يعرف “بالدراما المشتركة”، حيثيات هذه الصناعة كان لها الدور الأكبر في ضعف الدراما السورية وتشتيتها، إلى جانب تشتيت المشاهد السوري والعربي، وبالتالي ستضعف طردا كل المحاولات الجادة في طرح رؤية واقعية معاصرة”، بحسب رأيه.

يبدو أن خلاف الرأي بين النافين أو المؤكدين لوجود “الواقعية” في الدراما السورية يتمحور حول شكل هذه الواقعية وعناصرها، ويبقى الخلاف دائرا إلى حين إنتاج أعمال جديدة ضمن ظروف إنتاجية مختلفة تُعطي شكلا مختلفا وعمقا أكبر للأعمال الدرامية السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة