قبيح أن أسير إلى الموت بدون عيون عراقية في الشبابيك

مظفر النواب

عن عمر 88 عاما، رحل الشاعر الثوري وشاعر القصيدة المهربة، مظفر النواب، بعد صراع مع المرض، في الاغتراب خارج وطنه العراق. مات في الشارقة بدولة الإمارات.

حزن عراقي قل مثيله، ومواقع “التواصل الاجتماعي” تكتظ بمقاطع فيديوية لأشعاره وقصائده ومحملة بصوره، ومطالبات بتنكيس الأعلام وإعلان الحداد في البلاد.

هو رمز من رموز البلاد، أحد أعمدة الشعر العراقي، ولذا فليس بالمستغرب أن يحظى بنعي رئاسي ووزاري، وسيتم تشييع جنازته بشكل رسمي قريبا.

رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، الذي نعاه، وجّه بجلب جثمان مظفر النواب بالطائرة الرئاسية من الإمارات إلى العراق، لإقامة مراسم رسمية تليق بقيمة الشاعر الراحل.

وزارة الثقافة بشخص الوزير حسن ناظم، اقترحت أن يتم دفن مظفر النواب في ساحة القشلة بشارع المتنبي، عند نهر دجلة من جانب الرصافة.

قبل شهر، شُيّدت جدارية للنواب في جانب الكرخ ببغداد من قبل الفنانة التشكيلية وجدان الماجد بالتعاون مع أمانة بغداد.

اليوم قال أمين بغداد السابق، علاء معن في تديونة عبر “فيسبوك”، إنه كان يحس بقرب رحيل النواب، ويتوقع بقائه في المنصب لن يطول، لذلك قرّر تشييد جدارية للراحل بالتعاون مع الماجد.

نظرة على مظفر

مظفر النواب، هو شاعر يساري، اشتهر بشعره السياسي المنتقد بقوة للأنظمة العربية، وكذلك بقرضه الشعر العامي. عاش تجربة الاعتقال وقضى معظم عمره شريدا في المنافي. وذاع صيته من خلال الأمسيات الشعرية المسجلة.

ولد النواب عام 1934 في الكرخ بالعاصمة العراقية بغداد، لعائلة أدبية ثرية تنتمي إلى البيت الهاشمي، ويمتد نسبها إلى الإمام موسى الكاظم.

غلب على عائلته لقب “النواب” الذي قد يكون جاء من “النيابة” أي النائب عن الحاكم، إذ هاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق (موطنها الأصلي) بضغط من سلطات الاحتلال الإنجليزي بالهند بسبب مقاومتها للاحتلال.

نال النواب شهادة البكالوريوس من كلية الآداب بجامعة بغداد، وفي فترة لاحقة، انتسب إلى جامعة فانسان الفرنسية وسجل رسالة ماجستير كان موضوعها “باراسايكولوجي” أو “القوى الخفية في الإنسان”.

نمت موهبة النواب الشعرية بفضل ما كان ينشده إياه جده الشاعر في منزلهم من قصائد ومختارات أدبية، وفي الصف الثالث الابتدائي بدأ نظم الشعر حين كلفه أحد أساتذته بإكمال بيت أعطاه شطره الأول، وكان -وهو في المرحلة الإعدادية والثانوية- ينشر قصائده في المجلات الجدارية المدرسية.

النواب والسياسة

سياسيا، انتمى مظفر النواب إلى “الحزب الشيوعي” العراقي وناضل في صفوفه، خاصة بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958، واضطر في عام 1963 إلى مغادرة البلاد باتجاه إيران إثر اشتداد الصراع بين الشيوعيين و”حزب البعث”، الذي وصل إلى الحكم بانقلاب نفذه في نفس العام.

إبان حكم الشيوعيين للعراق من 1958 وحتى 1963، عُيّن النواب مفتشا فنيا في وزارة التربية، ثم فقد وظيفته بسبب خروجه من البلاد.

أواخر عام 1963، سلّمت السلطات الإيرانية، النواب إلى السلطات العراقية، ليتم زجه في السُجن فترة، تمكن خلالها من الهرب والاختفاء بجنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية، وفي عام 1969 صدر عفو عن المعارضين فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم مرة ثانية.

لفت مظفر النواب الأنظار إليه منذ عام 1969 بقصيدته “قراءة في دفتر المطر”، وقد عرفه الجمهور العربي من خلال ملحمته الشعرية “وتريات ليلية” التي كتبها خلال 1972-1975، وظهر فيها ملتزما بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.

اشتهر منذ أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض والموغل في نقد الأنظمة العربية الحاكمة نقدا لاذعا، يصل أحيانا مستوى “الوقاحة”، حتى لقبه بعضهم بـ “الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي”.

فرضت على النواب قصائده السياسية الهجائية أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش 4 عقود طريدا بين المنافي العربية والأجنبية، متوزعا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وفيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وفنزويلا والبرازيل وتشيلي.

دأب النواب على تنظيم أمسيات شعرية للجاليات العربية بالعواصم الغربية، ولا سيما لندن، بألقى فيها قصائده الكثيرة التي خصصها للقضية الفلسطينية وانتفاضتيْها 1987 و2000، والحث على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة قصيدته “القدس عروس عروبتكم”.

بداية عزلة مظفر النواب

بدأت عزلة مظفر النواب، عندما اختار دمشق مُقاما له آخِر تسعينيات، بمعاش خصصه له الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، واتسعت عزلته منذ ذلك الوقت، فاكتفى بداية بالجلوس في مقهى الهافانا بشارع 29 أيار مرتين أو 3 أسبوعيا، ثم أصبحت مرة يتيمة قبل أن يعتزل نهائيا في بيته الذي لا يفارقه إلا ليلتقي القليل من الأصدقاء في أوقات متباعدة.

البعض من النقاد العرب، يرى أن النواب تنبأ بـ “الربيع العربي” وما أعقبه من تداعيات دامية بقوله في مجموعته “وتريات ليلية”: “سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. سيكون خرابا.. هذي الأمة لا بد لها أن تأخذ درسا في التخريب”.

أقام النواب عدة أمسيات ابتهاجا بسقوط نظام صدام حسين في 2003، كانت إحداها في مدينة أبو ظبي في عام 2005. كما ظهر على شاشات الفضائيات العراقية والعالمية وهو يدلي بصوته في الانتخابات العراقية، عام 2010.

في مايو/ أيار 2011، عاد النواب -المريض بمرض الشلل الرعاشي (باركنسون)- إلى بلده العراق بعد 40 عاما من الغياب قضاها في المنافي، وقد استقبله الرئيس العراقي الراحل حينها، جلال طالباني في مكتبه بقصر السلام في العاصمة بغداد.

طالباني أشاد وقتئذ، وفق ما نقلته صحيفة “الصباح” الرسمية بالنواب، وخاطبه قائلا: “لنا أن نفخر بك. وللشعب أن يعتز بك رمزا في الإبداع وفي النضال (…) إن شعرك مدرسة تربّى على قيمها الثورية الفلاحون والعمال والطلبة وسائر فئات الشعب”.

اشتهر النواب بقصائده المسجلة بصوته على أشرطة (كاسيتات) خلال أمسياته الشعرية، نظرا لطريقته الخاصة في أداء أشعاره، بحيث تتحول أبيات قصائده إلى ما يشبه المسرحية، لكنه رغم جماهيريته الواسعة لم يطبع شعره في ديوان يجمعه، ما عدا شعره الشعبي الذي جُمع في ديوان “الريل وحمد”، ويقال إنه طبِع دون علمه.

أشهر القصائد

يعزو النواب سبب عدم طبع شعره إلى أسفاره الكثيرة وإحجام دور النشر عن التعامل معه لما يحمله شعره من نقد لاذع للحكام العرب. وهو يرى أن شعره أكثر بكثير مما ألقاه على المسارح وسُجل في الأشرطة.

كما تحدث مظفر النواب ذات مرة، عن ضياع عشرات القصائد الطويلة؛ بسبب عدم تدوينها ولفقدها في حادثة غرق باخرة ليبية كانت تحمل مكتبته وأشعاره.

ومن قصائده الشهيرة باللغة الفصحى: “قراءة في دفتر المطر”، و”وتريات ليلية”، و”وطني علمني كل الأشياء”، و”رحيل”، و”في الحانة القديمة” و”تل الزعتر”.

https://youtu.be/gS_MNJNYOUE

أما أشهر قصائده باللهجة العامية العراقية، فهي “روحي ولا تكَلها: شبيج وانت الماي”، و “مو حزن لكن حزين..
مثل ما تنقطع جوّا المطر شدّة ياسمين”، و”الريل وحمد.. مرّينه بيكم حمد، واحنه بقطار الليل”.

وفي عام 1996، طبعت “دار قنبر” بلندن كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل مظفر النواب”. أما شعره فقد ألف عنه كتابان صدرا في دمشق، هما: “مظفر النواب حياته وشعره” لباقر ياسين عام 1988، و”مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية” لعبد القادر الحسيني وهاني الخير 1996.

رفض النواب على الدوام تخليد سيرة حياته في فيلم سينمائي، فلم يلبّ رغبة الشاعر والمخرج السوري علي سفر والكاتب السوري إبراهيم الجبين في إنتاج شريط وثائقي حول تجربته، كما رفض عرضا مماثلا من القناة الفرنسية الخامسة قدمته له بداية عقد التسعينيات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.