يعتبر الجسد هو الأداة الأولى التي يتفاعل معها الإنسان ويفعّلها لتشكل جزءا من هويته الذاتية ووجوده، لوقت طويل مورست على جسد المرأة عمليات متتالية من الإخضاع والهيمنة ليتحول مع مرور الوقت لجسد سياسي اجتماعي تفقد المرأة سيطرتها عليه لصالح السلطة بمختلف أشكالها، عمليات متكررة من النفي والمنع لتحويل جسدها لموضوعة، جسد لا تملكه ولا تستخدمه بل هو ملكية للجميع وأول ما يستخدم ضدها في تحولاته وحركته الحيوية داخل مجتمع الأجساد المقموعة سياسيا واجتماعيا، فكيف تحول جسد المرأة لجزء خارج عن ذاتها لا تملكه أو تملك حق التصرف به؟.

ملكية جسد المرأة

تساهم في تشكيل جسد المرأة وهويته مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والسياسية، وهو يفقد صفاته البيولوجية الخاصة ويتم إلباسه مجموعة من الصفات الثقافية الخاضعة للهيمنة الذكورية التي تغطي حقيقته الحرة كجسد إنساني وتضعه في مواقع وأطر معينة يكون فيها فعالا ومنتجا لصالح هذه الهيمنة وعدم فاعليته في هذه الأماكن يعني عطالة هذا الجسد وفقدانه لقيمته.

في المجتمع السوري كما أغلب المجتمعات العربية النساء لا تمتلك أجسادها، فالخوف والأوامر بالمحافظة من جهة التي تشكل مرجعيتها العديد من العوامل الاجتماعية والدينية، والحداثة ومجتمع الاستهلاك الحديث والصورة النمط من جهة أخرى، وهنا تتأرجح حياة المرأة ضمن الشكل المادي لوجودها فقط، فهي جسد له خصائص تشكل قيمتها بين العفاف والإغراء، الجمال المنمط أو العادي، تصبح هذه العوامل محورا تدور حوله حياة المرأة، عبر السنوات اختلفت الجهة التي تمتلك هذا الجسد وتتحكم بطاقته، فمن جسد خاضع لأحكام العشيرة والعائلة، طاقته ملك لها وحركته خاضعة لرغبتها في استغلاله بالمنزل والعمل والزواج، إلى جسد داخل الفضاء العام وفق أحكام متشددة تضبط عفويته وتلقائيته. جسد المرأة هو منتج ثقافي يصنعه المجتمع الذي تنتمي إليه هذه المرأة، ويعيش وفقا لأحكامه، تنتقل ملكيته بين الأب و الزوج ومن ثم يتحول إلى معطى ثابت تتحكم به الوظيفة الإنجابية وتوابعها.

هذا بما يخص شكل الجسد الخارجي وحركته وتتبع ذلك إخضاعات فرعية متمثلة بالاستخدامات لأجساد النساء فجميع القوانين والأحكام التي تخص جنسية هذا الجسد خصوبته ومصيره ومناقشة العمليات التي يخضع لها من إجهاض وتحرش، تكرِّس حالة من التقييد عليه وتنفي عنه الحرية والخصوصية ليصبح جسدا مستهدفا بالعنف، عدا عن الاستخدامات السياسية له ففي الحروب تستخدم أجساد النساء كسلاح ضد العدو بالاغتصاب والأسر وهذه الأفعال جميعها أشكال من ملكية عنيفة لجسد المرأة تضطهده وتجرده من إنسانيته، بالإضافة للوظيفة الإنجابية التي استخدمت ضد هذا الجسد، فالمرأة التي تنجب هي أعلى قيمة من تلك التي لا تنجب، وبهذه الحالة تصبح ملكية الجسد الذي لا يحقق الوظيفة الإنجابية عبئا محددا بقواعد أكثر صرامة وظلما له.

القيود الفكرية والجسدية والنفسية

تشكل الأفكار القاعدة الأساسية التي تنبع منها سلوكياتنا كبشر، تتبنى النساء منذ طفولتهنًّ لا شعوريا مجموعة من الأفكار والقواعد الضابطة لأجسادهنّ يتلقينها في كل مكان كالمنزل ومن ثم المؤسسة التربوية والمجتمع. هناك سلسلة طويلة من الأوامر التي تحرك النساء والتي تصبح مع الوقت جزءا من طبيعتهن. كيف ينظرن ويتحركن ما المسافات الآمنة لهنَّ وتلك المحرمة عليهنَّ بسبب جنسهنَّ فقط، ماذا يلبسن وكيف يتحدثن، مجموعة كبيرة من الضوابط التي تحولهنَّ إلى نساء يفتقدن للأصالة الفردية، يُفرض عليهنَّ رفض الاعتراف بالرغبات الجسدية وتحول طاقتهنَّ الجنسية باتجاهات أخرى تسمح بالتحكم بها، فالحياة الجنسية للمرأة خاضعة لسيطرة خارجة عنها تتمثل بالعائلة والسلطة والدين.

مع الوقت تتولد حالة من القطيعة بين الذات والجسد ليصبح الأخير مقولبا لا يعبر عن المرأة وذاتيتها، بالإضافة لذلك تفرض على النساء حالة من الجهل بأجسادهنَّ أو قوننة لمعرفته، فعمليات المنع عن السؤال بخصوص هذا الجسد والنواهي التي تشكل حركته تحولهنَّ إلى نساء يعانين الاغتراب عن أجسادهن، وتصبح أية محاولة لفهم الجسد وتجريده من القمع هي حالة شذوذ عن الأخلاق تعامل بالاستنكار والإدانة.

تسبب هذه الموانع والغربة عن الجسد مجموعة من التأثيرات الفكرية والنفسية، فهنَّ مشغولات بالقيام بأفعال ليست أصيلة بل ردود أفعال فقط وسلوكيات نابعة عن الكبت والحرمان لا تعبر عن ذاتهنَّ الحقيقية، ويؤدي ذلك إلى انخفاض التركيز لديهنَّ والتشويش الفكري وآثار نفسية مختلفة وعن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة.

المعالج النفسي أنس الحلبي يتحدث حول ذلك لـ “الحل نت” بالقول: “غالبا ما يتم تطويع جسد المرأة لتلبية رغبات الرجل وتجهَّز المرأة منذ صغرها على أن رغبتها يجب أن تصب في خدمة الرجل، العمل في المنزل أو الخدمات التي تقدمها هذا نوع من (GBV) أي العنف القائم على أساس الجنس، فالمرأة أحيانا تعمل خارج المنزل وداخله أما الرجل ففي الخارج فقط”.

ويضيف “هناك جانب آخر بخصوص جسد المرأة ورغبته، فالمرأة في مجتمعنا يتم تلقينها كيف تلبي حاجة الرجل جسديا وتصبح مع الوقت تشعر بأن تلبية رغبتها تتحقق بتلبية رغبة الرجل، وهذا نعيده لنوع من المازوشية، فالمرأة نسبة المازوشية لديها أعلى من الرجل الذي يمتلك نسبة أعلى من السادية، ونحن نتحدث هنا عن النسب الطبيعية وليس عن الميل المازوشي والسادي، وهذه الحالات موجودة لدى غالبية البشر ولكن التربية والبيئة تفعلها لتتحكم بحياة الأفراد، والزواج ضمن مجتمعنا له طابع مازوشي سادي فطبيعة العلاقة فيها نوع من الخضوع والسيطرة قد يكون فيها الطرفان راضيان، أو من الممكن أن تتطور هذه النسب لتسبب عنفا واغتصابا، فقد تكون المرأة مجبرة على هذه العلاقة، أو تقوم بها بفعل الخوف من الدين أو المجتمع أو عواقب الرفض كالطلاق والعنف، وهذا يجعلها غير حرة بامتلاكها لجسدها ورغباته”.

القانون والملكية المؤسسية “الزواج”

يبدو الزواج في الظاهر وكأنه شراكة بين شخصين راشدين يقرران بناء أسرة والعيش معا، إلا أنه فعل اجتماعي ينطوي في أعماقه على ممارسات تحد من إمكانيات المرأة وتخضعها جسديا ونفسيا.

على أي فتاة تريد الزواج أن تمتلك قائمة بمجموعة من المقومات التي تؤهلها لتحظى بقبول الرجال، إحدى هذه المقومات وأهمها، القدرات الجسدية ولها شكلان، الأول هي فاعلية جسدها فيما يخص أعمال المنزل والوظيفة الإنجابية وغيرها من الوظائف التي تؤمن راحة الرجل، والثانية هي امتلاكها لمجموعة من الصفات الجسدية التي تحفظ انجذاب الرجل لها وإغرائه، وتنتفي الشراكة في مؤسسة الزواج في المجتمع السوري لتحل محلها حالة من التملك تدعمها أعمال عنفية نفسية وجسدية تتمثل بالاستغلال والحرمان والتحكم بقدرات المرأة، وفي الكثير من العائلات تعتبر المرأة شيئا ممتلكا مثل الأرض والمكتنزات الأخرى ويدافع عنها بنفس الطريقة وتعتبر رمزا للشرف أو العار بحسب سلوكها وبالأخص الجسدي.

فيما يتبدى التملك في الزواج بأشكال مختلفة فجسدها وسيلة لإمتاع الرجل وتمنعها عنه أو رفضها يؤدي إلى خلافات أقل ينتج عنها عنف وتحقير، ومع المحاولات النسوية للمطالبة بتحسين القوانين السورية بما يخص ذلك إلا أنها لا زالت قاصرة عن تحقيق المساواة للمرأة وقدرتها على امتلاك جسدها.

وعما سبق يتحدث المحامي حسان الشحف، لـ”الحل نت” بالقول: “على الرغم من أن الدستور السوري قد نص على المساواة بين الرجل والمرأة إلا أن اعتماد مبدأ الشريعة الإسلامية والعرف كمصادر للتشريع أفرغ هذه المساواة من مضمونها، حيث أن حرية المرأة في جسدها مرفوضة في العادات والتقاليد التي أصبحت عرفا، وكذلك هي في جميع النصوص الدينية، وقد جاء التشريع السوري منسجما مع هذه الأعراف والنصوص، المثال بسيط على حق الزوج بجسد زوجته، هو ما نص عليه قانون العقوبات السوري عندما عرف الاغتصاب في المادتين 489 و 490 فقد نصت المادة 489 فقرة 1 على (من أكره غير زوجه بالعنف أو التهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة على الأقل)”.

ويضيف “كما نصت المادة 490 على (يعاقب بالأشغال الشاقة تسع سنوات على الأقل من جامع شخصاً غير زوجه يستطيع المقاومة بسبب نقص جسدي أو نفسي أو بسبب ما استعمل نحوه من ضروب الخداع). لا يعطي القانون السوري للمرأة الحق في التحكم بجسدها فهي وطالما أصبحت زوجاً لرجل تصبح مكرهة على تلبية رغبته، دون أخذ العواقب النفسية التي قد تطالها جراء ذلك”.

ويتابع الشحف “لما كان الأصل في الأشياء الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فإن إكراه الزوجة على الجماع حتى وإن كانت تعاني من نقص جسدي أو نفسي أو كانت عرضة للخداع غير مجرَّم في القانون السوري وهو حق مباح للزوج”.
وفي قانون الأحوال الشخصية فإن أحد أسباب سقوط حق الزوجة في النفقة هو منع نفسها عن زوجها وفق ما نصت عليه المادة 73 (يسقط حق الزوجة في النفقة عند عدم وجود المسوغ الشرعي في الأحوال الآتية – إذا منعت نفسها عن زوجها).

أما بالنسبة للمرأة غير المتزوجة فإن قانون العقوبات لم يجرم ممارسة الجنس بين العازبين البالغين، إلا أنه عاقب المرأة كفاعل إذا مارست الجنس جهاراً مع رجل متزوج في بيت الزوجية أو اتخذها خليلة جهاراً، وعاقب الرجل كشريك إذا مارس الجنس مع امرأة غير متزوجة. وهنا التشريع السوري قد خطى خطوة نحو المساواة إلا أنها كانت ناقصة، وفق حديث الشحف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.