“ليس بوسعكم المساواة بين المرأة والرجل. فهذا الأمر مغاير للفطرة الإنسانية”. العبارة رددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أعوام، منتقداً أو على نحو أدق يواصل شن هجماته ضد الحريات، ومنها الحقوق النسوية. ليس هذا وحسب إنما يواصل خطاباً متشدداً يحرض ويزيد من إغراءات العنف ضد النساء في تركيا والتي تبدو أوضاعها تسوء يوما تلو الآخر.

ومع خطاب أردوغان السياسي الذي يوفر مظلة وبيئة تحتضن العنف ضد المرأة، والتوحش بحقها، طالما ذلك يترافق مع سياساته التي تستهدف جذب القوى السياسية القومية والدينية الراديكالية، فإن الموقف ضد المرأة بتركيا يزداد تعقيداً وقد ارتفعت حالات العنف في فترة ولايته لمستويات غير مسبوقة وتبدو ممنهجة. كما تتعرض أجساد النساء إلى التعذيب والضرب حد القتل. هذا فضلاً عن التحرش والإيذاء بمختلف أنواعه. يضاف لذلك، انحسار دورها السياسي وفي المجتمع المدني في ظل الحصار المفروض ضدها والتضييقات البالغة.

المرأة والعنف ضدها بتركيا

الرئيس التركي منذ الانقلاب المزعوم والفاشل في تموز/ يوليو 2016، خاض حرباً شرسة ضد المعارضة ومؤسسات الدولة، منها الجيش والقضاء والصحافة، فضلاً عن منظمات المجتمع المدني الحقوقية والأحزاب السياسية، بهدف فرض إرادته وهيمنته التامة وعدم السماح بأي هامش حرية. 

انسحاب أردوغان من الاتفاقية الدولية لحماية النساء من العنف له وجه من ناحية توظيف القاعدة الاجتماعية والسياسية والحزبية المؤيدة لنبرة الخطاب الإسلاموي المتشدد- “أ ف ب”

وفي هذا الفصل الاستبدادي والديكتاتوري بوجهه المتشدد وعبر التحالف مع قوى قومية ودينية تحمل التوجه ذاته العنيف، تفاقم مشهد العنف ضد المرأة والذي أضحى مثل منحدر بلا قاع أو نهاية. فالعنف ضد النساء هو جزء من تركيبة السلطة التي تحتقر الفئات التي تصنفها ضمن الأقليات وتحاول التمرد والخروج عن السيطرة. فالنساء التي تطالب بحقوقها وكرامتها وترفض أن تهمش في حدود الأسرة ولا تنافس الرجال على مقاعد الحكم والسياسة، وتقف في صف المعارضة التي تفضح التجاوزات القانونية والحقوقية تطالها عصا “أردوغان”.

لذا، تزامن إعلان انسحاب الرئيس التركي أردوغان من اتفاقية دولية معنية بحماية النساء من العنف وهي “اتفاقية إسطنبول”، مع خطوات سياسية أخرى لها نفس الميل التعسفي والقمعي، حيث إقالة رئيس البنك المركزي، ناجي إقبال، على خلفية الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة أمام العملة الأجنبية لمستويات غير مسبوقة، فضلاً عن الهجمة العنيفة ضد “حزب الشعوب الديمقراطي” واتهام المدعي العام بتركيا بأنه على صلة بـ”جماعة كُردية مسلحة” في إشارة لـ”حزب العمال الكردستاني”، وهي المزاعم التركية التقليدية للعنف ضد أي معارضة أو خصوم سياسيين محليين وإقليميين.

انسحاب أردوغان من الاتفاقية الدولية لحماية النساء من العنف أيضاً له وجه من ناحية توظيف القاعدة الاجتماعية والسياسية والحزبية المؤيدة لنبرة الخطاب الإسلاموي المتشدد، للاصطفاف مع مشاريعه ومغامراته والإقليمية، خصوصاً بعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن للحكم وتراجع العلاقة بينهما وتوترها لدرجة غير مسبوقة، لا سيما بعد فرض عقوبات أميركية على أنقرة نتيجة حصولها على منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-400). بالتالي، كان أردوغان في ظل توتراته الخارجية وخصوصاً مع الغرب وواشنطن مع إلحاحه الانضمام للاتحاد الأوروبي دونما جدوى يرفع من جرعة الخطاب العدائي ضدهما، والميل بخطاب إسلاموي له صبغة سياسية مباشرة.

“تأثير الحركات الإسلامية”

تاريخياً، سعى مصطفى كمال أتاتورك بعد إعلان الجمهورية التركية في عام 1923 إلى تحسين وضع المرأة من خلال وضع قوانين علمانية تعزز من المساواة بين المرأة والرجل في شؤون الزواج والطلاق والإرث. كما روج أتاتورك إلى أفكار تحرر المرأة، ودفع المجتمع إلى قبول وضعها الجديد، بعد أن دخلت ميدان السياسة، وخرجت من عزلتها السابقة، وبدأت تدخل الجامعات ودوائر الدولة التي كانت محرمة عليها، كما فُتحت المدارس والجامعات والوظائف والأعمال الحرة أمام المرأة التركية، فانطلقت تدرس الطب والهندسة والفنون والآداب، حسبما يوضح مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”.

ولكن لم يستمر هذا الوضع، وتعرضت المرأة التركية إلى هجمة شرسة وطالتها التغيرات الثقافية والمجتمعية والسياسية بعد رحيل أتاتورك، خاصة مع اتساع تأثير الحركات الإسلامية في المجتمع التركي، وفق “مركز المستقبل”، لافتاً إلى أنه في منتصف الثمانينات، صعدت الحركات النسوية الإسلامية لانتقاد حكم أتاتورك العلماني والدعوة إلى العودة إلى الأصول الإسلامية من أجل الالتزام الديني والأخلاقي. وفي عام 2002، وصل “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم، معلناً ليس فقط انتهاء الحكم العلماني، بل وإعادة أوضاع المرأة للوراء، وتغير وضع المرأة التركية بشكل كبير.

وتابع: “تبنى حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، بعض السياسات التي تحفز المرأة على الإنجاب وتشجعها على لعب دورها بالأسرة باعتباره “الدور الأساسي” للمرأة وفقاً لمنظور الحزب، وفي المقابل تراجع ظهورها في المجال العام، وكأن المجتمع رجع إلى ثنائية المرأة لها المنزل، والرجل له لعمل. وتم السماح بارتداء الحجاب في البرلمان والجامعة والمدرسة وغيرها من الأماكن الرسمية، وفي المقابل كثر الاعتداء على المرأة في الآونة الأخيرة. تعاني تركيا مؤخراً من انتشار ظاهرة العنف ضد المرأة، وتتعدد أشكاله، ومنه ما هو علني ومباشر، ومنه ما هو مستتر، ولهذا يوجد الآلاف من المنظمات التي تهتم بشؤون المرأة في تركيا، وهو ما يُعد مؤشراً على وجود مشكلات جذرية تعاني منها المرأة التركية وتحتاج لمن يتصدى لها”.

من هنا، لا ينفصل الموقف من المرأة وتنامي العنف ضدها في فترة حكم أردوغان عن مجمل سياسته والتي هي تشكل بنية عامة بالمجتمع تتوافر فيها كل فرص قمعها وتهديد أمنها وسلامتها، فضلا عن إهدار حقوقها السياسية والمجتمعية في الفضاء العام كما في دائرتها الشخصية والأسرية.

وسبق للرئيس التركي في الاجتماع الرابع لترويج خطة العمل الوطنية بخصوص مكافحة العنف ضد المرأة أن قال: “لن تبدأ معركتنا ضد العنف ضد المرأة باتفاقية إسطنبول، ولن تنتهي بانسحابنا منها. الطريقة الوحيدة للنجاح في هذا المسعى هي مشاركة جميع شرائح المجتمع”.

وسبق أن تم اتهام الاتفاقية بأنه قد “اختطفتها مجموعة من الأشخاص الذين حاولوا تطبيع المثلية الجنسية وهو ما يتعارض مع القيم الاجتماعية والعائلية في تركيا” على حد تعبير المتحدث باسم الرئيس أردوغان، فخر الدين ألتون.

خلال 15 عاماً، كان العام الوحيد الذي انخفض فيه عدد جرائم قتل النساء هو عام 2011، وهو العام الذي تم فيه اعتماد “اتفاقية إسطنبول”.

كما أن وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية، زهرة زمرد سلجوق، غردت في حسابها الموثق بموقع التواصل الاجتماعي “إكس” (تويتر سابقاً) قائلة: “ضمان حقوق المرأة هو القواعد الحالية في أنظمتنا الداخلية، وفي المقام الأول دستورنا. نظامنا القضائي ديناميكي وقوي بما يكفي لتنفيذ اللوائح الجديدة كما هو مطلوب”.

من هنا، يبدو حتماً أن تلقى سبع نساء حتفها في يوم واحد. هذا العدد المخيف والذي يكشف عن توحش غير عادي نتيجة مقتل سبع نساء في يوم واحد على يد أزواجهن الحاليين أو السابقيين كما ذكرت منصة “خبر تورك” التلفزيونية مسار حتمي وطبيعي لسياسة العنف الممنهجة والمتصاعدة في تركيا. وقالت القناة: “في المجمل، قتلت سبع نساء بوحشية في إزمير وبورصة وسكاريا وأرضروم ودنيزلي وإسطنبول”. موضحة أن: “المشتبه بهم إما أزواجهم الحاليين أو أزواج انفصلوا عنهن”.

فيما نقل موقع “الحرة” عن القناة إشارتها إلى أن “النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 32 و49 عاماً، تعرضت لإطلاق النار أو الطعن حتى الموت. وقد انتحر ثلاثة من المهاجمين على الأقل، وتم القبض على اثنين منهم، وتوفي آخر أصيب أثناء احتجازه في وقت لاحق. ولا يزال مصير السابع، الذي هرب من السجن لقتل زوجته، غير واضح. 

وفي عام 2023، سجلت المنظمة غير الحكومية المعنية بحقوق المرأة (We Will Stop Femicide) “سنوقف قتل النساء”، 315 جريمة قتل لنساء، قتلت 65 بالمئة منهن في منازلهن. ونسبت جماعات نسوية 248 حالة إضافية من “الوفيات المشبوهة”، التي وصفتها السلطات بأنها “انتحار”، إلى طرف ثالث، ولاحظت ارتفاع حوادث الإلقاء من النافذة في تركيا.

وألمحت المنظمة الحقوقية المعنية بحقوق النساء إلى أنه “خلال 15 عاماً، كان العام الوحيد الذي انخفض فيه عدد جرائم قتل النساء هو عام 2011، وهو العام الذي تم فيه اعتماد اتفاقية إسطنبول”.

انتهاكات ضد المرأة بتركيا

وفي تقرير “هيومان رايتس ووتش”، مطلع العام الماضي، والذي وصف حكومة أردوغان بأنها “استبدادية”، قال إن انسحاب تركيا في 2021 من “اتفاقية مجلس أوروبا للوقاية من العنف ضد النساء والعنف الأسري ومكافحتهما”، المعروفة باسم “اتفاقية إسطنبول”، ما يزال يواجه معارضة صريحة من قبل جماعات حقوق المرأة في تركيا. في يوليو/تموز، رداً على الطعون القانونية المتعددة التي قدمتها الجماعات النسائية والأحزاب السياسية المعارضة، أصدرت أعلى محكمة إدارية في تركيا قراراً مثيراً للجدل خلُص إلى أن الانسحاب من الاتفاقية بموجب مرسوم رئاسي كان قانونياً. 

أشخاص يشاركون في احتجاج على انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول، وهي اتفاقية دولية تهدف إلى حماية المرأة، في أنقرة في 20 مارس 2021. (تصوير آدم ألتان / وكالة فرانس برس)

وفي يوليو/تموز الفائت، دعت “لجنة الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” (سيداو) الحكومة إلى التراجع عن قرارها، مشيرة إلى أن انسحابها “يزيد من إضعاف الحماية للنساء”. بعد زيارة إلى تركيا، قالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد المرأة إنه بالإضافة إلى الحماية الآخذة في التقلص، فإن الانسحاب من الاتفاقية “شجّع الجناة” وزاد من خطر تعرّض النساء للعنف.

وتابع: ” تنعكس التحديات في توفير الحماية الفعالة للنساء في تركيا اللواتي يُبلغن عن العنف الأسري في ارتفاع عدد جرائم قتل النساء، حيث أفادت وزارة الداخلية أنه من بين 307 نساء قُتلن في 2021، تلقت 38 منهن أوامر حماية من الشرطة والمحاكم. دعت لجنة سيداو تركيا إلى ضمان الالتزام بأوامر الحماية، بما في ذلك من خلال محاسبة السلطات على عدم تنفيذ الأوامر أو تسجيل شكاوى العنف الأسري”.

هناك تمييز كبير ضد المرأة في تركيا, وبخاصة في المجال الحقوقي والقانوني. 40 بالمئة من النساء تتعرضن للعنف.

وفق الأمم المتحدة، عام 2022، فإن ريم السالم، المقررة الخاصة المعنية بمسألة العنف ضد المرأة بالأمم المتحدة، قالت في نهاية زيارتها (رسمية وبدعوة من الحكومة) لتركيا، وهي زيارة تتزامن مع صدور التقرير الأممي السنوي والذي يقدم للجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، بدعوة من الحكومة، بهدف تقييم حالة العنف ضد النساء والفتيات في البلاد “أقرت بالسياق الصعب الذي تتعامل فيه حكومة تركيا وأصحاب المصلحة الآخرون مع قضية العنف ضد النساء والفتيات”.

وذكرت أن “القضية تفاقمت بسبب الوضع الاقتصادي في البلاد والآثار المترتبة على الاستضافة السخية لما يقرب من أربعة ملايين لاجئ – معظمهم سوريون يخضعون للحماية وقالت المقررة الخاصة إن مقدمي الخدمات الذين التقت بهم أشاروا جميعا إلى نقص حاد في الملاجئ الملائمة، في جميع أنحاء البلاد، التي توفر ملاذا آمنا للنساء والفتيات ضحايا العنف، لا سيما في المناطق الريفية والنائية”. مشيرة إلى أن “استمرار الحواجز الهيكلية التي تحول دون المشاركة في الحياة السياسية والعامة أمر مثير للقلق، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمفاوضات السلام”.

وفي دراسة لمعهد “جورج تاون لدراسات المرأة والسلام والأمن” تضمن أوضاع المرأة في نحو 153 دولة، فقد وثق أن تركيا تأتي في الترتيب 105 وهي الأكثر سوءاً بشأن حقوق المرأة. وتابع: “هناك تمييز كبير ضد المرأة في تركيا, وبخاصة في المجال الحقوقي والقانوني. 40 بالمئة من النساء تتعرضن للعنف، وهنّ مرغمات على العيش مع هذا العنف. تتلقى المرأة المعاملة العنيفة، بشكلٍ أو بآخر من قبل زوجها أو أي شخص آخر”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات