في ظل تصدر سوريا قوائم البؤس والفقر والبطالة خلال السنوات الماضية، بالإضافة إلى ندرة فرص العمل لخريجي الجامعات السورية، يلجأ الشباب السوري، وخاصة الفتيات، إلى مِهن تبدو غريبة على المجتمع السوري، مثل بيع البنزين أو الخبز على الطرقات، بالإضافة إلى انتشار أعمال أخرى لم تكن موجودة من قبل، وكل ذلك من أجل تأمين سُبل عيشهم وتغيير واقعهم الاقتصادي الهشّ إلى مستويات تتناسب مع الواقع المعيشي المتدهور.

كما أنه بسبب الغلاء الجامح وتدني مستوى الرواتب والأجور الشهرية، فإن العديد من العائلات تبحث عن عمل لفتياتها من أجل مساعدتهنّ في مواجهة مصاعب الحياة التي ترهق جيوب السوريين، خاصة وأن نسبة كبيرة من هذه الأُسر فقدوا أبناءهم من الشباب وأزواجهم خلال سنوات الحرب.

سوريات يمتهن بيع البنزين

في هذا الصدد، أفاد تقرير لموقع “أثر برس” المحلي، اليوم الثلاثاء، بأن فتيات يقتحمن سوق بيع البنزين في دمشق. تقف عبير “اسم وهمي” بالقرب من سيارة قديمة مغلقة في أحد شوارع دمشق، وتشير إلى السيارات العابرة بـ “قمع ملء البنزين”، كمؤشر على أنها تبيع مادة البنزين. عند الاقتراب منها، يتضح أن السعر الذي تبيع به أغلى من سعر البائعين الذكور بنحو 5000 لكل عبوة تحتوي على 9 لترات من “بنزين لبناني” مهرّب ولا تقبل “المفاصلة”.

الفتاة تقول للموقع المحلي، إنها امتهنت بيع البنزين خلال الشهر الماضي كـ“شغيلة” لصالح “صاحب الرزق”، الذي يؤمن بضاعته من السوق السوداء، وتضيف “أعمل لما بعد منتصف الليل، ومن الطبيعي أن أتعرض للتحرش ومحاولات الإغواء، خاصة أن الكثيرين يقفون ظنا منهم أني أعمل بالدعارة أساسا وأن البنزين مجرد تمويه”.

إلا أن هذه النظرة المجتمعية الخاطئة بالنسبة لعمل المرأة في بعض المِهن والأعمال الأخرى، تؤثر على الحالة النفسية للفتيات، وتؤدي بالبعض إلى الجلوس في المنزل أو الرغبة في الزواج لأول شخص يتقدم لهن، وهو ما ينتج عنه العديد من المشاكل الاجتماعية والنفسية.

كما أن عمل المرأة ليس عيبا، وخاصة في ظل هذه الظروف الصعبة في سوريا، من غلاء المعيشة وإلى عدم توفر فرص عمل جيدة، وأغلبية النساء اللاتي يعملن في مِهن كبيع البنزين والخبز على الطرقات مجبرات، نظرا لأنهنّ المعيل الوحيد لأسرهنّ والحرب أفرزت أسوأ ما لديها على هذه البلاد، والفقراء هم الضحايا الرئيسيون.

هذا وتتراوح أسعار البنزين في السوق السوداء، ما بين 90-95 ألف ليرة سورية، لكل عبوة بسعة 9 ليترات، ما يعني أن كل 18 ليتر تباع على أنها “تنكة بنزين” بسعر يتراوح بين 180-190 ألف ليرة.

طلبة الجامعة يعملون

في منطقة المزة بالعاصمة دمشق، تقف فتاة أخرى وتقول للموقع المحلي وهي ترتدي ملابس لا تدل على أنها مجرد بائعة بنزين، تعرض بضاعتها للزبائن بسعر أعلى بنحو 7000 عن المعتاد، وتبرر ذلك بالقول “الدنيا أعياد وما في بنزين بالبلد”، وعن سبب مبالغتها باللباس تجيب بأن “أكيد رح يوقف لي زباين أكتر من غيري وصاحب البسطة هو اللي اقترح هذا النوع من اللباس لألفت نظر الزبائن”. هذا يعني أنه ثمة استغلال من قبل بعض تجار المحروقات لأوضاع هذه الفتيات الصعبة، وليس أمامهنّ خيار سوى تأمين لقمة عيشهن ولو بأثمان لا تناسبهم.

يذكر أن “بسطات” بيع المحروقات “بنزين – مازوت – غاز منزلي”، تتواجد في بعض مناطق دمشق وريفها بشكل علني ودون أي تحرك من قبل الجهات المسؤولة عن ضبط الأسواق، كما توفر ذات “البسطات” مواد أخرى مثل “زيت المعونة”، والمقصود هنا الزيت النباتي المخصص للطبخ والذي من المفترض أنه موجود ضمن سلال المعونات الغذائية.

في سياق عمل الفتيات، بحسب شهادات بعض الطالبات الجامعيات لموقع “الحل نت”، فإنهن يعملن في بعض المطاعم أو محال الألبسة ومستحضرات التجميل، أو حتى في بعض الأماكن الأخرى، مثل مكاتب الحوالات المالية أو مراكز التجميل أو عيادات الأطباء والمهندسين، أو حتى تقمن بإعطاء دروس خصوصية لطلاب المدارس، إلى جانب دراستهن الجامعية، نظرا لأن التكاليف الدراسية باتت تفوق مستوى قدرة أهاليهن، وسط تدني مستوى الرواتب والأجور.

إحداهن وهي طالبة في كلية “الآداب” بجامعة دمشق، تقول إنها تعمل بدوام لمدة 9 ساعات في محل لبيع ألبسة النساء في العاصمة دمشق، نظرا لأن والدها لا يستطيع تأمين مصروفها الجامعي الذي يبلغ شهريا ما لا يقل عن 350 ألف ليرة سورية بالحد الأدنى، وهي تسكن في “السكن الجامعي” وتشير هنا إلى أنه لو كانت مستأجرة منزل مثل بعض زميلاتها في الجامعة، لكان مصروفها أكثر من المبلغ المذكور.

الطالبة ذاتها والتي فضلت عدم الكشف عن اسمها، أردفت أن معظم الطلبة الجامعيون يعملون، سواء شباب أو فتيات، فبغير ذلك لا يستطيع أحد منهم تأمين مصروفه الجامعي، والنسبة القليلة التي لا تعمل هم أما أبناء الطبقة الغنية أو لديهم أقارب في الخارج وهم متكفّلون بمصروفهم حتى التخرج.

كما جاء في تقرير نشره مؤخرا موقع “سناك سوري” أن فتاة تبلغ من العمر 26 عاما تعمل في بيع القهوة في شوارع دمشق من أجل إعالة نفسها وسط ارتفاع الأسعار وعدم وجود فرص عمل جيدة لها. حتى أنها تعمل لساعات طويلة حوالي 13 ساعة، وهو أمر مرهق، ولكن لا خيارات أمام الشباب في ظل الأوضاع الصعبة بسوريا.

البؤس يجتاح سوريا

وسط الارتفاع المهول في الأسعار، وفي ظل تدني الرواتب والأجور، لجأت نسبة كبيرة من العائلات السورية إلى مِهن علّها تنتشلهم من الفقر الذي يلف معظم السوريين اليوم، مثل “تعقيب المعاملات”، وانتشار ظاهرة “المطابخ المنزلية” بالإضافة إلى التسويق الإلكتروني والعمل من داخل المنزل، من أجل تأمين لقمة عيشهم.

 فتاة تبيع القهوة بحب وابتسامة في دمشق- “سناك سوري”

في الآونة الأخيرة، برزت أعمال جديدة لجأ إليها المواطن في سوريا من أجل تحسين دخله المعيشي، ومن بين تلك الأعمال مهنة بيع النباتات الطبية والعطرية والأعشاب المعروفة التي تنمو في بعض المناطق، بجانب التسويق الإلكتروني، وبعض الأعمال الأخرى التي أنتجتها الأزمة على مدى السنوات الماضية، مثل لجوء الشباب إلى العمل في تنظيف البيوت وشطف البنايات.

يبدو أن ثمة مِهنٌ أخرى ما زالت الأزمة السورية ستكشف عنها في الفترات المقبلة مع تدهور الوضع الاقتصادي الذي ليس هناك ما يؤشر بوجود تحسّن أو انفراجة فيه. كذلك، تواكب الإناث سوق العمل الرائج الحالي، لذلك خصصت بعض الفتيات ركنا صغيرا في منازلهن لعرض مستحضرات التجميل والسلع النسائية برأس مال صغير وخطوات ترويجية بسيطة مؤمنة بصفحتها على منصات التواصل الاجتماعي مثل “انستغرام” و”فيسبوك”، بهدف تأمين نفقاتهم الشخصية سواء كُنّ طالبات جامعيات أو غيرها ولكي تؤمنّ بعضا من الدعم لأسرهم، بحسب بعض الآراء من الداخل السوري.

في حين يزداد تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا، يتصاعد مستوى الفقر الذي يشكل نحو 90 بالمئة من السوريين، فضلا عن ارتفاع مستوى البطالة على الرغم من أن الحكومة لا تصدر إحصاءات دقيقة بهذا الخصوص، ففي العام الماضي كشف “مركز الإحصاء المركزي السوري” عن انخفاض نسبة البطالة من 31.2 في المئة عام 2019، إلى 20.9 في المئة عام 2020، لكن الباحثة الاقتصادية رشا سيروب، تساءلت في حزيران/ يونيو 2021، عن كيفية انخفاض معدلات البطالة، رغم وجود كل مقومات التدهور الاقتصادي خلال 2020، مثل الحظر الكلي والجزئي، فضلا عن تدهور قيمة الليرة السورية ومعدلات التضخم مؤخرا.

مؤخرا، تصدرت أربع دول عربية قائمة “مؤشر البؤس العالمي” عام 2022، الذي يصدره سنويا أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة “جونز هوبكنز” البروفيسور ستيف هانكي. وجاءت سوريا ولبنان والسودان واليمن، في صدارة أول 7 دول أكثر بؤسا، وفق المؤشر الذي يصنف 160 دولة ويحدد مركزها في تصنيف التعاسة بناء على 4 معايير هي، نسبة البطالة، ونسبة التضخم، ومعدلات الإقراض، ونمو الناتج المحلي.

مؤشر البؤس السنوي يحدد مركز كل دولة عبر معادلة حسابية تعتمد على مجموع البطالة في نهاية العام مضروبة في اثنين، والتضخم، ومعدلات الإقراض المصرفي، مطروحا منه النسبة المئوية للتغير السنوي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد.

تصدرت سوريا المركز الثالث في قائمة “مؤشر البؤس العالمي” عام 2022، الذي يصدره سنويا أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة “جونز هوبكنز” البروفسور ستيف هانكي، الذي يصنف 160 دولة في قائمة التعاسة.

طبقا للمؤشر، فإن زيمبابوي هي الدولة الأكثر بؤسا في العالم. تلتها فنزويلا، ثم سوريا التي تصدرت قائمة دول العرب بسبب زيادة معدلات البطالة بها نتيجة الحرب، وفي المرتبة الرابعة لبنان، وبعدها مباشرة السودان، ثم الأرجنتين، فيما احتلت اليمن المرتبة السابعة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات