خشبة وكواليس وجمهور يتفاعل مع الممثل والنص والإخراج على الهواء مباشرة أثناء رواية الحكاية، تعريف من عشرات التعريفات الفنية العلمية للمسرح الذي قدّمت له سوريا، خلال سنوات طويلة، وحتى عام 2010، الكثير من النصوص والنظريات والعروض التي شكّلت قيمة مضافة للمسرح في العالم العربي، بالإضافة إلى الكٌتّاب الكبار كـ سعدالله ونوس وفواز الساجر وغيرهم.

منذ سنوات طويلة، تراجع دور المسرح في سوريا وصولا إلى عام 2011، ومع اندلاع الحراك الشعبي، وتردي الوضع الأمني واشتعال المعارك لاحقا، وجد عشرات المسرحيين أنفسهم مضطرين لمغادرة البلاد إلى بلاد أخرى، حاولوا خلالها إنتاج عروض مسرحية جديدة بفضاء وتقنيات جديدة مختلفة تماما عما اعتادوا عليه وصنعوه في بلدهم الأم، لرواية الحكاية من جديد.

هذه العروض لها صعوباتها، من ناحية اختلاف الجمهور أولا والتقنيات المسرحية ثانيا، وربما لا يمكننا اليوم أن نطلق عليها “حركة مسرحية سورية في المهجر”، لكن في المقابل تضيف التجارب الجديدة إلى رصيد الممثل والمسرح عموما.

عن اختلاف تقنيات التمثيل بين سوريا والمهجر

يُعدّ نوار بلبل أحد الممثلين السوريين أصحاب التجربة الطويلة في المسرح السوري، وشاركت عروضه المسرحية في عشرات المهرجانات في أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية كذلك، غادر سوريا بعد عام 2011، ويقيم اليوم في فرنسا.

يقول نوار بلبل لموقع “الحل نت”، إن الفارق الجوهري بين تجربة المسرح في سوريا وبين فرنسا هو ما يصفه بـ”ديكتاتورية الحريّة”، أو بمعنى آخر، غياب الرقيب الكامل يفتح الباب أمام الممثل لخوض تجارب لم يحلم بها في سوريا سابقاً، وهذا الأمر بحد ذاته تحد كبير.

وأوضح بلبل أنه في سوريا “هناك رقيب دائما وسقف منخفض للحديث، وبالتالي فإن النصوص والعروض واضحة المساحة، لذا فإنتاج العروض ضمن هذه الحدود يبدو أسهلا، لكن الأمر يختلف تماما عندما يختفي السقف ومعه الرقيب”.

ويضيف بلبل “عملت في المسرح منذ عام 1998 وخضت تجارب مسرحية كبيرة مع فرقتي وعرضنا المسرحيات في أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها، كسوري عربي لديك جناح مكسور وسقف محدد، لذا عليك أن تلعب ضمن المتاح لتستطيع أن تقول جزء بسيط مما يدور في رأسك، وتعتقد أنك تتجاوز الرقيب وكنا نقدم شيئا مقبولا، حتى في المنطقة العربية هناك رقيب دائما لذا فالحال لم يختلف عندما ذهبت إلى الأردن، الرقيب يختلف شكله لكنه حاضر وموجود، لكن عندما تذهب إلى أوروبا، في فرنسا حيث أقيم، هناك ديكتاتورية الحرية، لا سقف للكلام، وهذا ما يعني أن صعوبة مختلفة، كيف يمكن أن تكون حاضرا على المسرح في شكل مختلف تماما! تكتشف أدواتك من جديد”.

من جهة أخرى، وإذا تحدثنا عن الناحية التقنية للتمثيل، أي أداء الممثل واستغلاله لأدواته، لا يرى الممثل السوري، بسام داوود أن الفارق بين التمثيل “كتقنية” بين سوريا وأوروبا كبير جدا، بل بالعكس.

ويقول داوود لـ”الحل نت”، “وصلنا في سوريا إلى مرحلة جيدة من التقدم في هذا المجال، لدينا حياة في التعاطي مع الشخصيات أكثر مما هو في أوروبا، لكن التقنيات التكنولوجية، كمعدات، مختلفة بالطبع وبشكل كبير من المحزن أن لا تتواجد هذه التقنيات سوى في مكان واحد فقط هو دار الأوبرا”.

لكن التحديات التي تقف أمام المسرحيين السوريين في أوروبا، لا تتوقف على فوارق الإمكانيات والأداء بينهم وبين نظرائهم من ممثلي المسرح الأوروبيين، فالمنافسة لها شروطها أيضا، خاصة إن كان الجمهور صاحب لغة وذائقة مختلفة، وفي هذه النقطة يقول بلبل “الجمهور هو الجمهور، مع اختلاف ذائقته الفنية، وهناك أيضا آلاف المسرحيين، لذا فالسؤال هنا كيف يمكن أن تكون أنت وتثبت نفسك”.

الجمهور هو الجمهور!

وبالحديث عن الجمهور، فإن ما يشعر به الممثل على خشبة المسرح، لا يشعر به في مكان آخر، إذ أن وجود الجمهور يعطي للمثل بُعدا آخرا في اكتشاف أدواته والتعامل معها، وفهم ذائقة الجمهور كذلك، والتعامل معه باللغة نفسها يختلف بطبيعة الحال عن التواصل عبر المترجم.

ويشير بسام داوود إلى أنه على الممثل السوري الذي يقدّم عروضا مسرحية لجمهور مختلف تماما أن “يفهم رموز هذا الجمهور وفكّها، بعكس الجمهور السوري، بالإضافة إلى أن الجمهور هنا يتعاطى مع المسرح ومع الممثل بطريقة مختلفة أصلا مع اختلاف الثيمات وعدم فهم بعض التفاصيل الصغيرة، فتضطر لشرح ما تقول”.

ويضيف داوود “هناك شعور بالغربة بالتعامل مع جمهور لا يفهمك تماما، لذا أشعر بالألفة عندما يكون هناك حضور سوري كبير يعرفني ويفهمني”.

ولأن العلاقة بين الممثل وجمهور المسرح، تختلف عن العلاقة بين الجمهور وأي فن آخر، يربط نوار بلبل هذه العلاقة مع جمهور أوروبي، يختلف عن الجمهور السوري بنقطتين، الأولى هي “القناعة التي يملكها الممثل بأن الآخر (الجمهور) متقبل لكل الثقافات ضمن درجات وحدود مختلفة، وهو يحضر المسرحية مع معرفته سلفاً بأن العرض مختلف”، وهذه نقطة قوة وفقا لبلبل لأنه يقدّم لونه وشكله وتفكيره هو لا المفروض عليه، وبالتالي يمكنه التفاعل والتعامل مع الجمهور، بحسب رأيه.

في ضوء الوضع الحالي.. ما هو مستقبل المسرح؟

مع اختلاف ظروف المسرح بين دولة وأخرى، إلا أن السؤال حول استمرار المسرح وصموده أمام التطور التكنولوجي للفنون الأخرى المنافسة (الأفلام والمسلسلات تحديدا، وخاصة مع انتشار منصات العرض الإلكترونية على مستوى العالم)، واستمرار الممثل المسرحي وقدرته على العيش من المسرح تحديدا، يُطرح باستمرار.

يرى نوار بلبل أن الإجابة لها شقين، يرتبط الأول بعدم قدرة أي وسيلة ترفيه موجودة، بما في ذلك المنصات الإلكترونية والدراما والسينما “اغتيال المسرح” الذي بقي حاضرا بحسب رأيه.

ويقول بلبل “ربّما المسرح حاضر بجمهور أقل، ولم ينجح غول الانفتاح باغتياله، أكبر دليل على ذلك مهرجان فيون الدولي الذي يقدّم 1700 عرضا، عدا عن المهرجانات الأخرى”.

ويتابع “أما الشق الثاني من الإجابة، فطالما الممثل قادر على تنفيذ الاتفاق الضمني الغير معلن مع جمهوره بأنه يقدم المادة الجميلة والمرجوّة من قبل الجمهور وأن يأتي الأخير ويحضر العروض، يعني أن هناك قدرة له على العيش من المسرح”.

من جهته يرى بسام داوود، أن “مستقبل الممثل المسرحي غائم، المسرح في كل العالم ليس مصدر رزق إلا إن توظفت في مسرح ما يمكن أن تتفرغ له، ولكن إن عملت كمستقل، فهذا يعني أن تستمر في محاولة تأمين التمويل، لكن من استطاع اتقان اللغة سينجح في مدن أوروبية ذات كثافة فنية غير كبيرة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.