لم تعد الآثار والنتائج المحتملة للتغيرات التي حدثت في السنوات الماضية تثير الكثير من التساؤلات، ولا سيما حول الطبقة المتوسطة، ونسبة “الحيتان” في السوق السورية، إنما بات الشغل الشاغل لدى العامة، هل يمكن أن يتدخل البنك المركزي السوري من أجل كبح تدهور الليرة السورية.

يبدو أن توجه الحكومة السورية المتكرر خلال السنوات السابقة لضبط سعر صرف الليرة السورية، ذهب أدراج الرياح، إذ مع طرحها لمشروع الموازنة العامة للدولة، وإرساله إلى مجلس الشعب للنظر فيه قبل إعادته إلى الرئاسة لإصداره بمرسوم قبل نهاية العام، كان اللافت هذه المرة هو تنبأها بسعر صرف جديد لليرة السورية، بارتفاع 20 بالمئة، عن سعر الصرف الحالي، ما يشير إلى تراجع الليرة خلال العام المقبل.

السعر الجديد، أثار ضجة في سوق الأموال، حيث ارتفع سعر صرف الدولار في دمشق، بمقدار 40 ليرة، خلال ساعات أي بنسبة تقارب 0.89 بالمئة، واستقر عند سعر شراء يبلغ 4500، وسعر مبيع يبلغ 4540 ليرة، للدولار الواحد، الأمر الذي دعا المركزي لإصدار بيان تهديد يحمّل فيه المضاربين مسؤولية انهيار العملة المحلية، ولكن هل ينجح المركزي في كبح تدهور الليرة، أم أن بياناته لن تتعدَ سوى أن تكون إبر تخدير للمواطن؟

المضاربة بالعملة

التّقلبات التي حدثت لسعر صرف الليرة السورية، خلال الأيام الماضية ليست أزمة نقدية قصيرة الأجل بنظر خبراء السياسات الاقتصادية، بل إنه يعكس تدمير الأسس الاقتصادية في سوريا.

يوضح الباحث في سياسيات النمو الاقتصادي، ديف فالير، خلال حديثه لـ”الحل نت”، إجبار الحكومة، المضاربين وشركات الصرافة المحلية على بيع الدولار بدلا من الاحتفاظ به، وممارسة الأجهزة الأمنية السورية ضغوطا على المستغلين الذين تربطهم صلات وثيقة بالحكومة للمشاركة بفعالية في الحملات التي تدعم العملة المحلية، ليست سوى حلول قصيرة الأمد ولا جدوى منها.

وطبقا لحديث فالير، فإن هذا التقلب الشديد في أسعار العملات وشن حرب على ما تطلق عليهم الحكومة بالمضاربين، سيؤدي إلى خفض الثقة النقدية بين المتداولين، وبالتالي يزيد من احتمالية حدوث انخفاضات أخرى في قيمة العملة المحلية في المستقبل القريب، كما يحدث في لبنان حاليا.

وبحسب فالير، قد تكون المضاربة على العملات، السبب وراء التقلبات العالية لليرة السورية، ومع ذلك، فإن الانخفاض في سعر الصرف يسير في سوريا باتجاه عمودي تصاعديا، وبشكل مستمر منذ عام 2011، لذا فإن المشكلة ليست بالأسواق، بل في سياسيات المصرف المركزي في سوريا، وإذا استمرت، من شأنها أن تؤدي إلى هيكلة الاقتصاد السوري المتبقي.

الجدير ذكره، أنه منذ عام 2011 أصدر البنك المركزي السوري سلسلة قرارات ساهمت في إضعاف الليرة السورية. على سبيل المثال، حتى عام 2015، اعتمد البنك سياسة بيع العملات الصعبة لشركات الصرف الأجنبي المحلية. وأدت هذه السياسة إلى استنفاد احتياطاته من العملات الأجنبية بنحو 1.2 مليار دولار، دون أن يوقف تدهور الليرة. كما قام البنك بزيادة المعروض النقدي؛ مما تسبب في ارتفاع التضخم، وانخفاض قيمة العملة.

أزمة نقدية طويلة الأجل

لا شك أن الانخفاض المستمر في قيمة العملة المحلية، أدت إلى تفشي التضخم في سوريا، وتفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي المرتفعة بالفعل، مما دفع المزيد من الناس إلى براثن الفقر. حيث ساهم الصراع والنزوح، وانهيار الأنشطة الاقتصادية، والخدمات الاجتماعية في تدهور الرفاهية لسكان سوريا.

وفي جولة سريعة حول الوضع الحالي في سوريا، يقول الباحث في سياسيات النمو الاقتصادي، ديف فالير، لـ”الحل نت”، أنه بين عامي 2010 و2022، تقلص الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لأكثر من النصف، وأدى انخفاض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في سوريا، إلى قيام مجموعة البنك الدولي بإعادة تصنيف سوريا كدولة منخفضة الدخل.

وبحسب فالير، فقد ساهم الصراع، والنزوح، وانهيار الأنشطة الاقتصادية، والخدمات الاجتماعية في تراجع الرعاية الاجتماعية حتى من قبل الحكومة السورية، فقبل عام 2011، كان 1.90 دولار أميركي تعادل القوة الشرائية للمواطن في اليوم، أما اليوم وبسبب انهيار العملة فهذا المبلغ لا يكفي لشراء وجبة إفطار لعائلة.

ويعتقد فالير، أنه نظرا للاعتماد الكبير على الواردات، أدى انخفاض العملة إلى ارتفاع الأسعار المحلية بسرعة، مما تسبب في تضخم مفرط، واستجابة لارتفاع التضخم، أدخلت الحكومة زيادتين على أجور العاملين في القطاع العام خلال أقل من عام، لكن هذا لم يكن كافيا للتعويض عن تآكل الدخل الحقيقي.

المركزي يخدر المواطنين

في حديثه لإذاعة محلية، أكد الدكتور شفيق عربش، الأستاذ في كلية الاقتصاد والمدير السابق للمكتب المركزي للإحصاء، الجمعة الفائت، أن نسبة الفقر في سوريا لا يمكن أن ترتفع أكثر من ذلك، لأن المجتمع مقسّم إلى نصفين.

وبيّن الأستاذ في كلية الاقتصاد، أن الطبقة الوسطى في المجتمع السوري اختفت، حيث أن الطبقة الأولى، التي تمثل 93 بالمئة، هم من غالبية السكان، ويعيشون ضمن الفقر المعتدل إلى الفقر المدقع. أما “حيتان” الأسواق والتجار، وهم الطبقة الثانية، والتي نشأت بعد عام 2011، وتشكل نحو 5 إلى 6 بالمئة من السكان.

وقال الدكتور عربش، “بالنظر إلى واقع الموظفين قبل سنوات نجد أننا فقدنا أكثر من 96 بالمئة، من القوة الشرائية، واليوم الناس هم من ينفقون على الحكومة، وأفضل خدمة تقدمها هي أن تستقيل”. كما أبدى ملاحظة مفادها، أن هناك شماعة تضع عليها أسباب جميع القرارات، وهي ارتفاع تكاليف النقل والشحن.

من جهته، وبعد أن حدد مجلس الوزراء في الموازنة العامة للدولة لعام 2023 أسعار صرف الدولار الأميركي بـ 3000 ليرة سورية، واليورو ب 3041 ليرة سورية، على أن يسري هذا القرار في الأول من كانون الثاني/يناير 2023، أصدر البنك المركزي السوري، يوم الاثنين الفائت، بيانا مقتضبا، حمّل فيه “المضاربين”، مسؤولية انهيار سعر الصرف، متوعداً بالتدخل.

وبعد يومين، قال مصدر في المركزي، لصحيفة “الوطن” المحلية، إن المركزي ينتظر الوقت المناسب لإعادة الاستقرار إلى سوق الصرف. مشيرا إلى أن “المضاربة” الحاصلة منذ أيام، هي فعل “ممنوع”، في تلويح بـ “الحل الأمني”. كما أنه ألمح إلى المزيد من تقييد الاستيراد.

في الأيام التالية، تبنت بعض التحليلات التي نشرها الإعلام الموالي، رواية المركزي عن سبب تدهور الليرة، مطالبةً باستهداف شبكات المضاربين الكبار. ولم تتطرق تلك التحليلات إلى دور المركزي ذاته في دعم “المضاربين الكبار”، بأساليب عديدة، أبرزها، إتاحة استلام الحوالات المصرفية لما فوق الـ 5 آلاف دولار، بالقطع الأجنبي، فيما يتسلم السوريون البسطاء، حوالاتهم الصغيرة التي يعتاشون عليها، بالليرة السورية، حصرا.

ومن المتوقع، أن تستمر الحكومة السورية، في اعتماد ذات السياسات التي اعتمدتها خلال العام الجاري، لتمويل العجز في الموازنة بشكل عام، من ذلك الجباية الضريبية الفوضوية، التي كانت سببا في مغادرة مئات وربما آلاف الصناعيين والتجار لسوريا، خلال العام 2021.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.