الاستدارة التركية نحو دمشق، هو الحدث الأبرز الذي شغل الرأي العام السوري خلال شهر آب/أغسطس الجاري، منذ أن بدأها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بالكشف عن إجرائه محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في تشرين الأول/أكتوبر الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد.

وقال جاويش أوغلو، إن روسيا تريد من تركيا أن تجري اتصالات مع دمشق، وأنها اقترحت عقد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، دون أن يكشف رد بلاده على هذا المقترح، مشددا على ضرورة تحقيق مصالحة بين المعارضة والحكومة السورية بطريقة ما، ومبيّنا أنه لن يكون هناك سلام دائم دون تحقيق ذلك.

تصريحات الساسة الأتراك مؤخرا، والتي وصلت إلى رأس هرم السلطة، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والذي قال فيها إن بلاده “ليست لديها أطماع” في أراضي سوريا، وأوضح أنه لا يستبعد إجراء محادثات بين أنقرة ودمشق وليس هدف بلاده هزيمة الأسد، تشير إلى أن أنقرة ماضية في ملف إعادة فتح قنوات التواصل مع دمشق بأسرع وقت ممكن، وفي الوقت ذاته، هو تحول جوهري لم يتسرب إلى آذان المعارضة السورية التي تحتضنها أنقرة طوال السنوات السابقة.

تطور العلاقات بين دمشق وأنقرة، كان مساره الزمني متصلا بعض الشيء رغم عدم وضوحه للعيان، حيث أسست تركيا أرضية حوار كان بدايتها باختلاق مسار “أستانا” عام 2017، بالتعاون والشراكة مع روسيا، والذي بموجبه تم إيجاد اتفاقات تسوية سلمت فيها عدة مناطق إلى حكومة دمشق وبرعاية غير مباشرة من قبل الأتراك سواء في حلب أو حمص أو ريف دمشق، لتصل أنقرة في نهاية المطاف لإعلان الاستعداد للحوار السياسي والدبلوماسي علانية مع دمشق، بعدما تجاوز الطرفين مرحلة الحوار الأمني الاستخباراتي في وقت سابق. فكيف حصل ذلك.

“أستانا” بداية خسارة المعارضة؟

كان التدخل الروسي في سوريا عام 2015 سببا في التمهيد لبدء التواصل غير المعلن بين دمشق وأنقرة، حيث إن العلاقات بين الروس والأتراك بعد أواخر عام 2015، والتي شهدت تغيرا مفاجئا غير مفهوم أدى إلى خلق مسار “أستانا”، فتركيا التي كانت تقدم منذ عام 2011 دعما سخيا للمعارضة السورية بدأ دعمها يتخذ اتجاها دراماتيكيا بعد عام 2015.

فبعد عام 2015، وبينما بقي الدعم المذكور قائما وبشكل معلن مع اختلاف موازين القوى على الأرض، تحوّل الموقف إلى مرحلة جديدة مع نهاية عام 2016 وبداية 2017، في أثناء انطلاق مسار “أستانا”.

منذ تأسيسه في بداية العام 2017، لم يتمكن مسار “أستانا” بقيادة تركيا وروسيا وإيران من تقديم الملفات التي كان من المفترض التعامل معها أو تمهيد الطريق لإيجاد حلول سياسية للأزمة السورية، بل كان مدخلا واسعا للروس والإيرانيين لنزع أوراق القوة من يد المعارضة السورية، من أجل فرض التسوية السياسية التي تبقي الحكومة السورية في السلطة، وهنا كانت البداية التي أنتجت لاحقا دعوات التقاء دمشق والمعارضة على طاولة واحدة بحضور أنقرة لـ”المصالحة”.

طيلة 15 جولة من جولات مسار “أستانا”، خسرت المعارضة المناطق التي كانت تسيطر عليها في جنوب سوريا وريف دمشق، وريف حمص الشمالي، وريف حلب الجنوبي، وريف حماة الشمالي، ولم يتبق لها سوى قسم من مناطق الشمال السوري الذي تتشاركها مع “هيئة تحرير الشام” المصنفة على قوائم الإرهاب (جبهة النصرة سابقا)، لتخسر أوراق قوة كبيرة من يدها. كانت الجولة الأولى من مفاوضات مسار “أستانا” قد عُقدت في 23 كانون الثاني/يناير 2017، بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعقب خروج المعارضة المسلحة من أحياء حلب الشرقية وفق اتفاق روسي تركي بحضور أمني لدمشق.

وعقدت الجولة الثانية من مفاوضات “أستانا”، في 15 شباط/فبراير 2017، وتمخّضت عن تشكيل مجموعة عمل ثلاثية (روسية وتركية وإيرانية) لمراقبة وقف الأعمال القتالية، وتشكيل آلية لتبادل المعتقلين بين الجيش السوري والمعارضة المسلحة التي تدعمها أنقرة.

أنشئ مسار “أستانا” لإيقاف إطلاق النار وإيجاد حل سياسي للصراع في سوريا، ولكن يبدو أن الدول الضامنة استنفدت أغراضها منه إلى حد ما، وهي الآن تبحث عن حلول مكملة خارجه، لكن أمام هذا الواقع، كانت أنقرة في أواخر العام 2016 اتجهت صوب موسكو، لتبني على التطبيع الحديث للعلاقات بينهما وبين سوريا، اتفاقا لوقف إطلاق النار يحمي المدنيين وفق تبريرها، إلا أنه تبين بعد 18 جولة أن أنقرة اقترحته كرغبة غير مباشرة للبقاء في رقعة الشطرنج السورية وللوصول إلى الحوار مع دمشق بشكل مباشر.

حدود العلاقات تتفتح

تذرعت تركيا من أجل فتح قنوات التواصل مع دمشق ولو بشكل غير مباشر خلال السنوات السابقة انطلاقا من فكرة المصالح المشتركة، مثل مواجهة مشروع “الإدارة الذاتية” الذي تقوده أحزاب سياسية كردية سورية، وتراه أنقرة وحدها أنه يهدد أمنها الحدود والأراضي التركية.

فكرة المصالح المشتركة هذه، استفادت منها كلا من أنقرة ودمشق حيث اندفعت الأخيرة باتجاه طرح مشروع على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) للانخراط في الجيش السوري على عدة جولات دون نتيجة، كان يراد من التسويق لتلك الحوارات بين دمشق والقائمين على “الإدارة الذاتية “في مناطق شمال شرق سوريا، لتمهيد طريق سريع من أجل فتح قناة حوار بين أنقرة ودمشق، لتكسب الأخيرة ورقة تساوم بها الأتراك عند الجلوس على طاولة الحوار.

وفي المقابل، لم تقف جهود أنقرة عند ذلك، بل استخدمت ورقة “الإدارة الذاتية” للدخول إلى الأراضي السورية عبر عدة مراحل بدأتها عام 2016 بعملية تحت مسمى “درع الفرات” وآخرها عام 2019 تحت مسمى “نبع السلام”، منتزعة بذات الوقت ضوء أخضر من موسكو بتعديل اتفاقية “أضنة” للسماح لها بالتوغل في الأراضي السورية بمسافة 32 كم، بعد أن كانت الاتفاقية تسمح لها بالدخول 5 كيلومترات فقط.

تموضع الجيش التركي في الأراضي السورية وكذلك مشروع عودة/إعادة السوريين المقيمين في تركيا، استخدمتها أنقرة أيضا كورقة من أجل بدء مساومة مع دمشق، الذي لن تتحقق وفق الأعراف الدبلوماسية إلا بجلوس الطرفين على طاولة واحدة، لينتج بنهاية الجلسة اتفاق وتفاهم فيما بينهم.

لعل الدافع الأهم بالنسبة للحكومة التركية هو الرأي السائد داخليا بفوائد التعاون مع دمشق، بما يكفل مكافحة الإرهاب ومنع تقسيم سوريا من جهة وعودة اللاجئين من جهة أخرى. “هذا النقاش تبنته المعارضة التركية لسنوات عديدة، لكن بات يتردد مؤخرا على ألسنة وأقلام مقربة من الحكومة والحزب الحاكم كذلك”، وفق تقارير صحفية.

يرى محللون، أن مكاسب تركيا من التقارب مع دمشق على صعيد ملف اللاجئين ودعم الاقتصاد، ومن خلال تمتين العلاقات مع روسيا، تُعد من أبرز أهدافها الكامنة خلف سياستها الجديدة، بغض النظر عن إمكانية استعادة العلاقات فعليا بين الطرفين.

في شباط/فبراير 2019، قال أردوغان إن “السياسة الخارجية بين تركيا وسوريا مستمرة على مستوى الأجهزة الأمنية”، مشيرا إلى أن تواصل الأجهزة الأمنية مختلف عن الزعماء السياسيين، تصريحات أردوغان أكدت أن التعاون الأمني “غير المنقطع” بين الجانبين يشكل الخيط الوحيد في ما يمكن تسميته اتصالات بين الجارتين.

بينما قال الأسد، في العام ذاته خلال لقاء تلفزيوني مع قناة “السورية” و”الإخبارية السورية ”، “لو اضطررت أنا شخصيا لكي أصافح أو ألتقي مع شخص من جماعة أردوغان أو من يشبهه أو من يمثل نهجه، لن أتشرف بمثل هذا اللقاء وسأشعر بالاشمئزاز”، لكنه أضاف، “لكن المشاعر نضعها جانبا عندما تكون هناك مصلحة وطنية، إذا كان هناك لقاء سيحقق نتائج، كل ما يحقق مصلحة الوطن لا بد من القيام به وهذه مهام الدولة”.

بينما كشف المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، في مقابلة تلفزيونية سابقة، عن وجود “لقاءات” على الصعيد الاستخباراتي بين بلاده ودمشق “بين الحين والآخر بهدف المصلحة الوطنية”، غير أنه أكد أنه لا يوجد اتصال على المستوى السياسي حتى الآن.

انقلاب في المواقف

كل ما سبق أوحى بأن تركيا تسعى لتطبيع العلاقات بالكامل مع دمشق أسوة بمساعيها مع دول وأطراف أخرى، مثل الإمارات والسعودية ومصر، وحتى “إسرائيل” كما حصل مؤخرا.

ففي شباط/فبراير الماضي، أبدى وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، استعدادا لتطبيع العلاقات مع الحكومة التركية لكن وفق شروط.

جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي في فعاليات منتدى “فالداي” بموسكو، شارك فيه المقداد، وقال، “سوريا وتركيا جيران، ويربطنا تاريخ طويل و500 سنة احتلال، تكفي حتى نفهم بعضنا”. وتابع، “أعتقد أنه إذا التزمنا بنقاط التفاهم حول وجود القوات التركية في سوريا، فيمكن أن تتحسن علاقاتنا”.

أما وزير الخارجية الروسي، فقد قال إن بلاده تعمل على التقريب بين سوريا وتركيا بما في ذلك في إطار مسار “أستانا” على أساس قرارات الأمم المتحدة التي تؤكد الحفاظ على سيادة البلاد ووحدة أراضيها.

وتوقيت هذا الإعلان ليس من قبيل المصادفة، إذ أعقبه تصريح جاويش أوغلو، الشهير والذي قال فيه “علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلّا فلن يكون هناك سلام دائم”، وخلاصة القول إن هذه الكلمات القليلة من الوزير التركي تعكس تحولا جوهريا في سياسة تركيا تجاه سوريا.

شروط أم بوابة للجلوس على الطاولة؟

بعد إطلاق مسؤولون أتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سلسلة تصريحات، عبروا من خلالها عن رغبة معلنة لتقدم مسار التطبيع مع سوريا، أفرد الإعلام التركي بشكل يومي يفرد مساحة واسعة للحديث مجددا عن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وذلك في ظل تسابق كل من الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، لاستغلال هذا الملف للفوز به بعد أن بات المسار متاحا علانية، فيما تحدثت صحف تركية عن شروط وضعها الجانبان لعودة العلاقات.

صحيفة “جريدة تركيا”، كشفت في تقرير نشرته الأربعاء الفائت، عن مطالب للحكومة السورية، من أجل إعادة العلاقات مع الحكومة التركية، إذ تطالب دمشق بخمسة أمور من أجل فتح قنوات التواصل بين الجانبين.

وبحسب ما نقلت الصحيفة، فإن دمشق: “تطالب بسيطرة كاملة لقواتها على الممر التجاري في معبر “باب الهوى” الحدودي وصولا إلى العاصمة دمشق، إضافة إلى الطريق التجاري “إم 4″، الواصل بين دير الزور، واللاذقية مرورا بالحسكة وحلب“.

كذلك، تريد دمشق إعادة محافظة إدلب، إلى إدارتها، كشرط للتواصل مع أنقرة، بحسب ما جاء في تقرير الصحيفة، فضلا عن مطلبها المتعلق بعدم دعم أنقرة، للعقوبات الأوروبية المفروضة على حكومة دمشق، والشخصيات الداعمة لها.

الصحيفة التركية، نقلت أيضا في المقابل شروط تركية، من أجل إعادة التواصل مع دمشق، تمحورت حول “مطالب أنقرة القوات السورية، بإخراج قوات سوريا الديمقراطية، من المناطق التي تسيطر عليها شمال شرقي سوريا، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، والعودة الآمنة للاجئين“.

وأضاف التقرير: “أنقرة تطالب بأن تكون حمص ودمشق وحلب مناطق تجريبية لعودة آمنة، وكريمة في المرحلة الأولى، ومن ثم توسيع هذا الإطار“.

المتغيرات الأخيرة، تشير إلى أن هذا الموقف التركي الذي كان مرسوما منذ أعوام عبر مسارات سياسية وأخرى أمنية، قد يتحول إلى سياسة علنية جديدة لأنقرة، تجاه دمشق، تنسى فيها الحكومة التركية كل الخطوط الحمراء التي وضعتها أمام دمشق، بعد اندلاع الحراك الشعبي، والاتجاه نحو إلغاء سياسة العداء لدمشق، وقد يكون إعلان التقارب بين الطرفين أقرب من أي وقت مضى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة