منذ عام 2011، وخاصة بعد محاولة الانقلاب في عام 2016، تحولت السياسة الخارجية لتركيا من “صفر مشاكل” إلى السعي لتحقيق العمق الاستراتيجي والاستقلال الذاتي في جوارها، وفي عام 2020، أصبحت سوريا، وليبيا، وجنوب القوقاز، ثلاثة مسارح للتكتيكات الجديدة لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وهي سياسة قد تكون موجودة لتبقى على الأقل حتى انتخابات عام 2023.

هذه الدوافع الاستراتيجية، ووسائل التدخل، وتأثير العمليات التركية في مناطق الصراع الثلاثة هذه، خالفت توقعات أنقرة، حيث إن الاعتبارات والأساليب والعواقب الاستراتيجية لتركيا اختلفت اختلافا كبيرا من حالة إلى أخرى، وهو ما فسره إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أمس الجمعة، أن بلاده “ليست لديها أطماع” في أراضي سوريا، وأوضح أنه لا يستبعد إجراء محادثات بين أنقرة ودمشق.

أثناء تنفيذ سياستها الخارجية على نطاق عالمي بفهم مغاير للحالي، كانت النبرة التركية نحو سوريا أكثر حدة، إلا أن تصريحات أردوغان الجديدة ومن قبل وزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، حول مصالحة المعارضة السورية مع دمشق، يقود إلى احتمالين، إما أن تركيا استسلمت لدمشق وخصوصا بعد أن أصبحت المعارضة “المشتتة” عبئا عليها، أو أنها في خضم لعبة سياسية لكسب الانتخابات المقبلة.

دلالات التصريحات التركية

يقول المحلل السياسي، محمد عبيد، لـ”الحل نت”، إن برنامج الحزب الحاكم في تركيا، وكذلك بيانته منذ انتخابات عام 2002 تشير إلى أن علاقات حسن الجوار ستكون إحدى أولويات السياسة الخارجية للحزب. ومع ذلك، فقد مر عام بعد ذلك عندما أوضح المستشار الرئيسي لرئيس الوزراء، أردوغان، أحمد داود أوغلو المشاكل الصفرية مع الجيران.

وعلى الرغم من الدور التيسيري الذي لعبه الخطاب الأمني المتغير في نزع فتيل التوترات بين تركيا وبعض جيرانها، يرى عبيد، أن السياسة التركية فشلت في تقديم ما كان من المفترض أن تفعله عندما تبيّن أن الظروف الإقليمية كانت أقل من مواتية لمثل هذه الاصطفافات.

ويشير عبيد، إلى أن المحطة السورية من الصفر مشاكل مع الجيران توقفت على الأرض، بمجرد تحول تركيا إلى دعم الأحلاف المعارضة من أجل خططها المستقبلية في توسيع قواعدها، حيث احتضنت المعارضة المصرية، والسورية، والليبية، وحتى الخليجية.

ويضيف عبيد، “إلا أن التكوين الاستراتيجي الجديد الذي ظهر بعد فشل سياسية تركيا خلال 10 أعوام السابقة، قوض الأساس الذي عملت عليه، مما اضطرها إلى مراجعة الأُطر التي روّجت لها وخصوصا في سوريا، فبعد أن أيقنت أن المعارضة المشتتة لا قوة لها حتى على الأرض، بات ملحّا عودة الحديث المباشر مع دمشق”.

السر في التوقيت

المواربة الجديدة في الملف السوري التي تحدثت بها أنقرة من رأس هرم السلطة حتى تداولها عبر وسائل الإعلام المحلية داخل تركيا، كان وقعه غير اعتيادي على الشارع السوري، الذي عارض دمشق خلال الفترة الماضية، وليس عليه فقط، إنما أيضا على المعارضة التي سايرت أنقرة، بكل قراراتها وتدخلها في سوريا، وفقا لحديث عبيد.

بالنسبة للتصريحات الجديدة، فيبدو لدى المحلل السياسي أنها ضمن احتمالين. الأول، هو “اللعب المعتاد من أردوغان للعزف على وتر اللاجئين السوريين من أجل اكتساح الانتخابات المقبلة، والتي من المرجح أن يخسرها وفقا لنتائج الاستطلاعات التي ظهرت مؤخرا”، ولذا تغيرت النبرة القاسية ضد الحكومة السورية.

أما الاحتمال الآخر، وهو ما يرجحه عبيد، أن تركيا تتجه نحو “صفر مشاكل” بعد خسارتها اقتصاديا، لذا بدأت في إعادة علاقاتها مع الدول التي أنعشت اقتصادها في السابق، من ضمنها دول الخليج، ومصر وليبيا، وحتى دول وسط آسيا، فكانت قمّة طهران، بداية لوضع أطر جديدة للحلف الروسي الإيراني التركي.

وبحسب عبيد، ربما يتجه أردوغان، إلى الحوار مع دمشق، وإيجاد أرضية للتفاهم حول عودة جميع الأراضي التي دخلها الجيش التركي إلى سيطرة دمشق، مع طلب رسمي للمعارضة في تركيا لمغادرتها كما حدث مع المعارضة المصرية.

تركيا بدأت بالتطبيع

 السياقات المحلية، والإقليمية لعبت في بروز تصريحات غير اعتيادية من تركيا، حيث تأتي هذه التصريحات في وقت يهدد فيه أردوغان، بشن عملية عسكرية في سوريا تستهدف فصائل كردية يعدّها جزءا من “حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنفه أنقرة منظمة “إرهابية”.

الرئيس التركي، قال أمس الجمعة، إن بلاده “ليست لديها أطماع” في أراضي سوريا، وأوضح أنه لا يستبعد إجراء محادثات بين أنقرة ودمشق، جاء ذلك في تصريحات أدلى بها الرئيس التركي للصحفيين على متن الطائرة أثناء عودته من أوكرانيا، مضيفا “يجب أن يكون النظام السوري على علم بذلك، وأن تركيا ليس هدفها هزيمة الأسد”.

وأوضح أردوغان، أنه لا يمكنه مطلقا استبعاد الحوار والدبلوماسية مع سوريا، حيث قال ردًّا على سؤال عن إمكانية إجراء محادثات مع دمشق؛ إن الدبلوماسية بين الدول لا يمكن قطعها بالكامل، وذلك في نبرة أقل حدّة من تصريحاته السابقة.

وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أكد الخميس الفائت، إن بلاده بدأت عملية تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ومصر،

وقد كشف وزير الخارجية التركي أيضا، أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد.

وأكد، أن روسيا تريد من تركيا أن تجري اتصالات مع دمشق، وأنها اقترحت عقد لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، دون أن يكشف رد بلاده على هذا المقترح، مشددا على ضرورة تحقيق مصالحة بين المعارضة والحكومة السورية بطريقة ما، ومبيّنا أنه لن يكون هناك سلام دائم دون تحقيق ذلك.

السلطة الرابعة تروّج

بشكل يومي يفرد الإعلام التركي مساحة واسعة للحديث مجددا عن عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق، وذلك في ظل تسابق كل من الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة، لاستغلال هذا الملف، فيما تحدثت صحف تركية عن شروط وضعها الجانبان لعودة العلاقات.

صحيفة “جريدة تركيا”، كشفت في تقرير نشرته الأربعاء الفائت، عن مطالب للحكومة السورية، من أجل إعادة العلاقات مع الحكومة التركية، إذ تطالب دمشق بخمسة أمور من أجل فتح قنوات التواصل بين الجانبين.

وبحسب ما نقلت الصحيفة، فإن دمشق: “تطالب بسيطرة كاملة لقواتها على الممر التجاري في معبر “باب الهوى” الحدودي وصولا إلى العاصمة دمشق، إضافة إلى الطريق التجاري “إم 4″، الواصل بين دير الزور، واللاذقية مرورا بالحسكة وحلب“.

كذلك، تريد دمشق إعادة محافظة إدلب، إلى إدارتها، كشرط للتواصل مع أنقرة، بحسب ما جاء في تقرير الصحيفة، فضلا عن مطلبها المتعلق بعدم دعم أنقرة، للعقوبات الأوروبية المفروضة على حكومة دمشق، والشخصيات الداعمة لها.

الصحيفة التركية، نقلت أيضا في المقابل شروط تركية، من أجل إعادة التواصل مع دمشق، تمحورت حول “مطالب أنقرة القوات السورية، بإخراج قوات سوريا الديمقراطية، من المناطق التي تسيطر عليها شمال شرقي سوريا، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، والعودة الآمنة للاجئين“.

وأضاف التقرير: “أنقرة تطالب بأن تكون حمص ودمشق وحلب مناطق تجريبية لعودة آمنة، وكريمة في المرحلة الأولى، ومن ثم توسيع هذا الإطار“.

المتغيرات الأخيرة، تشير إلى أن هذا الموقف التركي قد يتحول إلى سياسة جديدة لأنقرة، تجاه دمشق، تنسى فيها الحكومة التركية كل الخطوط الحمراء التي وضعتها أمام دمشق، بعد اندلاع الحراك الشعبي، والاتجاه نحو إلغاء سياسة العداء لدمشق، وقد يكون إعلان التقارب بين الطرفين أقرب من أي وقت مضى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.