جرح كبير يحفر في قلوب الكثير من العائلات السورية على فقدان أبنائها الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن، هو وجع يوغل في أرواح تلك العائلات التي لم تعرف مصير أبنائها المختفين قسريا، بعد غياب طال لسنوات عديدة، دون أن يجدون جوابا لسؤالهم، “من يعيد الحياة لأبنائنا”.

لذكرى اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، وقع مختلف في سوريا، إذ لم يشهد العالم حالات للاختفاء القسري كما شهدها السوريون منذ عام 2011. خلال السنوات الماضية لم يبق ملف المختفين قسريا ملفا حقوقيا وقانونيا فقط، بل تحول لملف إنساني ارتبط بتفاصيل حياة السوريين وأثر اختفاء ذويهم على حياتهم وتفاصيلها بأشكال مختلفة.

مؤخرا في أيار/مايو الماضي، احتشد الآلاف من السوريين بالقرب من جسر الرئيس في دمشق، بعد صدور مرسوم العفو الأخير عن الرئيس السوري، بشار الأسد، والذي يقضي بالعفو عن مرتكبي الجرائم الإرهابية.

لم يكن المحتشدون يهتمون لصفة الإرهاب التي أُلصقت بأبنائهم، ما كان يهمهم هو أن يخرجوا من السجون، أو على الأقل أن يتمكنوا من معرفة إذا لا يزال أبناؤهم على قيد الحياة من خلال سؤال أحد المعتقلين الخارجين.

لم يبق من أثره سوى هذا “البوط”

عند الحديث عن المفقودين والمختفين قسريا، لا يمكن المرور دون رؤية ما تعانيه أمهاتهم حيث باتت قصصهن روايات تراجيدية بلغت في بعضها ذروة الألم.

أم أحمد، سيدة سبعينية من العمر الآن، تعيش في إحدى البلدات التابعة لمحافظة حمص، هي أم لشابين تروي خلال حديثها لـ”الحل نت”، المأساة التي ما تزال تذكر صورتها حتى اليوم “في يوم اعتقال أحمد كنت أخبرته أنني سأحضر له الفلافل كان يحبها حين أصنعها، ولكنه لم يعد ذلك المساء، علمت لاحقا أنه اعتُقل على أحد الحواجز، وبعد أشهر اقتحم الجيش بلدتنا واضطررنا للخروج من المنازل إلى البلدة المجاورة، وخلال خروجي حملت “بوط” أحمد الذي كان يرتديه قبل اعتقاله بيوم، وعند عودتنا كانت عشرات المنازل قد أحرقت؛ ومن بينها منزلنا، لم يبق لي من أثره سوى هذا “البوط”، لقد مرت 11 سنة منذ اعتقاله واختفائه لا يمر يوم دون أن أحتضنه وأقبله”.

تتابع أم أحمد قائلة: “منذ عودتي للمنزل بعد حرقه لم أغادره يوما، لا أعلم إن كان توفي في السجن، لم يبلغنا أحد بذلك، منذ سنة توفي أخي وزوجته لم أستطع الذهاب لأنهم في محافظة أخرى، أخاف الخروج من المنزل ويعود أحمد ولا أكون أول من يراه”.

إقرأ:هل يشمل العفو عن “الجرائم الإرهابية” السوريين المعارضين في الخارج؟

عن التشتت العائلي

قضية المفقودين في سوريا جريمة ضد الإنسانية، شاركت في ارتكابها مختلف الأطراف على الأرض، فلم تقتصر حالات الفقد والاختفاء على ما قامت به حكومة دمشق، فلتنظيم “داعش” نصيب وافر في هذه الجريمة.

منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، شهدت سيطرة للتنظيم الإرهابي على مدى سنوات، ارتكب فيها العديد من الجرائم كالقتل والإخفاء وغير ذلك.

في مخيم “الزعتري” للاجئين السوريين في الأردن، تجلس أم حسين السيدة الستينية وهي أم لأربعة أبناء، من إحدى بلدات حوض اليرموك، على حجر أمام “كرفان” تسكن فيه مع ابنتها بعد أن تشردتا بعد سيطرة التنظيم، حيث تروي ما جرى لـ”الحل نت”، قائلة :”دخل الدواعش إلى قريتنا فجرا وكنا نائمين، وبدأوا بجمع شبان البلدة في ساحة البلدية، كما طلب إلى الأهالي الحضور إلى نفس المكان، حيث اتهموا عددا منهم ومن بينهم ابني خالد بأنهم ضمن صفوف المعارضة، وأعدمومهم رميا بالرصاص، كانوا 6 شبان، وقاموا باعتقال حوالي 8 آخرين من بينهم ابني علي، ومنذ ست سنوات لا أعلم عنه شيئا”.

أم حسين تضيف “بعد ما رأيت الذي حصل طلبت من ابني الأكبر حسين أن يسافر إلى أوروبا كما يسافر الكثيرون، فضلت أن يكون بعيدا عني على ألا أفقده كما فقدت شقيقيه، وفعلا سافر إلى تركيا ومنها إلى ألمانيا، وخرجت وابنتي إلى الأردن حيث يوجد لي أقارب في المخيم، أنظر الآن كل واحد ما صار تحت غيمة”.

قد يهمك:مرسوم “الجرائم الإرهابية” في سوريا.. حبر على ورق وأرقام خلبية؟

عدد المفقودين تجاوز 111 ألف

تقرير يوم أمس لـ”الحل نت”، نقل عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، أن قرابة 111 ألف مواطن مختفٍ قسريا منذ آذار/مارس 2011 حتى آب/أغسطس 2022.

وبحسب التقرير، فإن ظاهرة الاختفاء القسري في سوريا ترتبط بظاهرة الاعتقال التعسفي بشكل عضوي، وإن أغلب المعتقلين تعسفيا يصبحون مختفين قسريا، لافتا إلى أن السنوات الأولى من الحراك الجماهيري شهدت أعلى نسبة من المختفين قسريا، لأن المظاهرات كانت تجري بكثافة، وضمن مناطق خاضعة لسيطرة حكومة دمشق، كما وصف التقرير حكومة دمشق بأنها الأسوأ في العالم في القرن الواحد والعشرين، على صعيد إخفاء مواطنيها قسريا.

كما أشار التقرير، إلى أن جميع أطراف النزاع والقوى المسيطرة، مارست عمليات واسعة من الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري للمواطنين السوريين على خلفية النزاع المسلح، وضمن المناطق الخاضعة لسيطرتها، بهدف ترهيب الخصوم السياسيين وإخضاع المجتمع في تلك المناطق.

إقرأ:عفو “الجرائم الإرهابية” في سوريا.. من يشمل وما أهدافه؟

العفو الأخير حبر على ورق

التقرير أكد أن الحصيلة المرتفعة للمعتقلين والمختفين قسريا لدى حكومة دمشق، تؤكد بشكل صارخ أن جميع مراسيم العفو التي أصدرها الرئيس السوري، بشار الأسد، منذ عام 2011 والبالغ عددها 20 مرسوما تشريعيا للعفو العام، لم تؤد إلى الإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسريا لديه.

وقد سجل منذ 1 أيار/مايو 2022 حتى 30 آب/أغسطس 2022 إفراج حكومة دمشق على خلفية مرسوم العفو رقم 7؛ عن قرابة 569 شخصا من مختلف السجون المدنية، والعسكرية، والأفرع الأمنية في المحافظات السورية، بينهم 63 سيدة، و17 شخصا كانوا أطفالا حين اعتقالهم، ومن بين حصيلة المفرج عنهم الـ 568 ما لا يقل عن 162 شخصا كانوا قد أجروا تسويات لأوضاعهم الأمنية قبيل اعتقالهم، ومنحوا تعهدا بموجب التسوية بعدم التعرض لهم من قبل الأفرع الأمنية، و28 شخصا اعتقلوا بعد عودتهم إلى سوريا من اللاجئين والمقيمين خارجها بينهم 4 سيدات.

وفي سياق مرسوم العفو الأخير، رقم 7 لعام 2022، وصف رئيس “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، المحامي أنور البني، قرار العفو، بأنه “حبر على ورق”، مؤكدا أن السلطات السورية أطلقت حوالي 500 معتقل، وهذا الرقم بالنسبة للقضية السورية “لا شيء يذكر”، كما أنه لا يعبر عن أية فرصة لإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، أو كل المعتقلين بسوريا، أو حتى إحالتهم للمحاكم.

قد يهمك:ماذا يعني إلغاء المراجعات الأمنية في سوريا بعد عفو “الجرائم الإرهابية”؟

وأشار البني، خلال حديث سابق لـ”الحل نت”، إلى أن معظم المعتقلين الذين أفرج عنهم، أنهوا مدة حكمهم، أو أتموا تسوية أوضاعهم في المصالحة التي فرضتها روسيا، على الحكومة السورية والمعارضين لها، فيما تقدر أعداد المعتقلين أو المختفين قسرا لدى الدولة السورية، بأكثر من 150 ألف شخص.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.