“حصوة تسند جرّة، ومية على مية آخر النهار بصيرو ألف”، هنا يفسر حمزة الرفاعي، الذي يعمل في إحدى المطاعم في حارات دمشق القديمة سبب اهتمامه بـ”البقشيش” أو ما تُعرف محليا بـ”الإكرامية”، وهي ثقافة تختلف بين بلد وآخر، وفي سوريا التي اجتمعت الأزمات فيها على المواطن، فإن هذه الثقافة تتغير بين شخص وآخر، ممن يضعون مبالغ عالية ليكرموا بها العاملين في المطاعم أو المقاهي.

بسبب صعوبة عملهم وطول ساعاته، يشعر بعض الناس بالشفقة تجاه موظفي المطاعم والمقاهي ومحطات الوقود؛ وتتفاقم المشكلة عندما يعرفون أن دخل هؤلاء الموظفين الشهري يعتمد فقط على الإكرامية التي يقدمها الزبائن لهم، لأن غالبية هؤلاء الموظفين لا يتقاضون راتبا شهريا ثابتا.

حرص الرفاعي وغيره من العاملين يعلله تردي الأوضاع الاقتصادية في سوريا، إذ بلغ الانهيار الاقتصادي ذروته، وارتفاع الأسعار في السوق منذ أكثر من عام، فمن الواضح أن الحكومة السورية تتصرف بشكل مستقل عن الواقع، بكل ما يعانيه السوريون من ظروف سيئة يأتي على رأسها تدني مستوى الدخل، فالشتاء الوشيك جلب معه ارتفاعا في كلفة الضروريات، مما زاد من معاناة الناس المزرية أصلا.

الإكرامية بدل الراتب!

“العمالة الفائضة أجبرتنا أن نتنازل عن الراتب مقابل الحصول على الإكرامية”، بحسب ما قاله الرفاعي لـ”الحل نت”، فإن عوائد دفع البقشيش أو الإكرامية في سوريا، والتي تتراوح ما بين 500 إلى 2000 ليرة، أي نحو 1 بالمئة من قيمة الفاتورة النهائية، دفعهم للمثول أمام شروط مالك المطعم، لأنها غالبا ما تغطي أكثر من راتبه الشهري.

طبقا لما تحدث به الرفاعي، فإن الثقافة بالفعل تغيرت على مدى السنوات الماضية، لعدد من الأسباب أهمها أن زائري هذه الأماكن هم من الطبقة التي لم تتأثر بالأزمة أو من السوريين القادمين من الخارج، وهم يعون ما آلت إلية ظروف المواطن داخل البلاد.

لأن الإكرامية باتت أولوية لدى الرفاعي، لأنها باتت دخله الذي يعتمد عليه، فقد وصل الأمر به وببعض العمال إلى طلبها بشكل علني، خصوصا ممن ينسون ترك إكرامية أو بقشيش لمن يقدم لهم الخدمة.

بهذا الصدد، نوّه الخبير التنموي، ماهر رزق، في حديثه لصحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الخميس، إلى أن كل الدول تعاني من قياس السوق غير المنظم في العمل، وهو ما يمكن إعادته لعدة أسباب أهمها عدم وجود قانون تأمينات اجتماعية منضبط، كما أن الرواتب العادية لا تتناسب مع الحياة المعيشية.

فصاحب العمل دائما يتعمد التهرب من أي كلفة، لأن الكلفة بالنسبة له ضرائب ودفع كلف، ويترتب عليه رقم أعمال أكبر وبالتالي يخضع للضريبة، وهو ما يسعى جميع أصحاب العمل للتهرب منه عن طريق عدم إثبات وجود الموظفين، وهو خلل أساسي بالبنية التشريعية.

لذلك شدد رزق على ضرورة الربط بين الترخيص وعدد العمالة، وربط فتح أي منشأة بحاجتها للعمالة، مبينا وقوع ثغرة كبيرة عند الترخيص لأي منشأة وهي ألا يؤخذ بعين الاعتبار عدد العمال الذي يجب أن يتناسبوا مع حجمها مثلا “فندق فيه 100 غرفة يحتاج 100 عامل”.

وأشار إلى أن المشكلة مكونة من شقين، “ضعف تشريعات ووجود فساد بسقف هذه الرواتب الحالية اليوم، كما أن الحكومة عندما تكون غير قادرة على رفع رواتب موظفيها كيف تطلب من القطاع الخاص رفع سقوف هذه الرواتب، والقطاع الخاص يستغل هذه النقطة لجانبه”.

حرب على “البقشيش”؟

للإكرامية في سوريا طقوس، فهي تنشط طوال العام لسبب أو لآخر، إما لأن العامل الذي قام بالمهمة بحاجة إلى مساعدة أو لأن صاحب المهمة تظهر عليه آثار النعمة، أو لأن الناس تحتفل بمناسبة ما.

في هذا السياق، تقول دانة عبد الله، مالكة لأحد محال الأزياء في دمشق، إنها تترك الإكرامية أو البقشيش ليس لأنه إلزامي عند الحصول على خدمة، لكنها تخشى أن تخرج من مكان دون تعطي شيئا في يد العامل أو العاملة، فتصاب بالحرج كونها تعرف “الحال وما فيه”، موضحة أن نسبة الإكرامية تختلف باختلاف المكان الذي تزوره، وبحسب الخدمة، إذ إنها تحرص على إعطاء مبلغ يصل إلى 5 آلاف ليرة لكل عامل في المطعم.

هذه العادة، يبدو أنها غير مرضية للعديد من مسؤولي الحكومة، حيث يرى عضو المكتب التنفيذي بالاتحاد العام لنقابة العمال وأمين الشؤون الاقتصادية، طلال عليوي، أنه لا يمكن تسمية هذه الشريحة باقتصاد ظل أو اقتصاد خارجي، لأنها تدعم الاقتصاد بشكل عام، لكن يمكن تسميتها بالاقتصاد مجهول الهوية.

وفي معرض حديثه لصحيفة “الوطن” المحلية، قال “أما عن الاتفاقيات الأخرى بين رب العمل والعامل باعتماده على البقشيش، لا تعتبر عمالة منظمة بالمطلق لأن أساس العمالة المنظمة هو العقد المسجل بين الطرفين والمصدق أصولا بالتأمينات الاجتماعية والعمل”.

عليوي من جهته أكد أن اتحاد العمال لم يتلق أي شكوى عن وضع الأجور المتدني بالنسبة للعمال المسجلين بالحد الأدنى من الرواتب، ويعتمدون على الإكرامية، ومن المعروف أن هناك اتفاقات مبرمة بين العمال وصاحب العمل بهذا الخصوص وكلها غير قانونية، ولا يمكن اعتبارها في عداد الأجر المنصوص عليها بالقانون العام رقم 50 أو بالقانون 17 المنظم للأجور في العمل الخاص، والمحددة ضمن ما يقارب الحد الأدنى من الأجور في القانون العام وهو 97 ألفا، بالتالي إذا كان هناك اتفاق بين العامل ورب العمل فهو لا يظهر للعلن.

“رُبّ ضارة نافعة”

في سوريا يعد مصروف العائلة من بين الموضوعات الأكثر أهمية والأعلى حساسية داخل الأُسر؛ لأنه يحتاج إلى طرق اجتماعية ونفسية مقرونة بالحكمة والنظرة البعيدة في التعامل العمل، وتزداد حساسية الموضوع عندما يرى الأب أن عدم منح الأبناء مصروفا يحرجهم، ولذلك يضطر لفعل المستحيل أمام انهيار العملة المحلية وتقلّب الأسعار اليومي.

برأي عليوي، فإن الإكرامية في سوريا هي مشكلة وأثر لاقتصاد الظل، في حين أكد رزق أنه أمر شبه مستحيل لأنه يشكل من 40 لـ 50 بالمئة من الاقتصاد النظامي، كما أن هذا الاقتصاد ينمو بطريقة خاطئة، فالثروات تتراكم بيد قلة معينة ويزداد حجم من هم خارج أنظمة الحماية الاجتماعية كعاملين.

القضية العمالية بنظر رزق، مشكلتها بالحد الأدنى المحدد للأجور والذي وضعته إستراتيجية العمل للقطاع العام قبل أن تضعه للقطاع الخاص، ففعليا الحد الأدنى عندما يوضع بحسب الاتفاقيات الدولية يجب أن يصل حد الكفاف للعائلة وليس للعامل، فهناك خلل وفجوة بما يسمى المعادلة المستحيلة بين الأجور والأسعار.

لذلك، فإن التجارب باعتقاده أثبتت اليوم فائدة هذا القطاع غير المنظم رغم خلله، عبر تقليص سوق البطالة وتأمين حاجات الإنسان، كما أن المواطن السوري اليوم لديه القدرة على استنباط منابع العيش بقدرة غير طبيعية.

فجوة الراتب والإنفاق

مع استمرار ارتفاع الأسعار للسلع والمواد الأساسية، ازدادت الفجوة بين أجور الموظفين، وحجم الإنفاق، الذي لا يساوي سوى 15 بالمئة، من راتب الموظف في أفضل الأحوال.

عضو مجلس الشعب السوري محمد زهير تيناوي، أكد في وقت سابق من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أن أجور العاملين في الجهات العامة باتت منفصلة عن الواقع، ومن غير المنطقي أن تعطي أجرا لموظف عن شهر كامل لا يكفيه لأكثر من يومين.

تيناوي، أوضح في تصريحات نقلتها صحيفة “الوطن” المحلية، أن “حاجة الأسرة السورية اليوم لا يقل عن 1,5 مليون ليرة شهرياً، وهو ما يعادل 10 أضعاف الأجور التي يحصل عليها معظم العاملين في الجهات العامة وللذين لا يزيد أجرهم الشهري على 150 ألف ليرة“.

بحسب آخر الدراسات فإن متوسط تكاليف معيشة الأسرة السورية، شهِد نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2022، ارتفاعا بمقدار 563 ألف و970 ليرة سورية، عن التكاليف التي سجلت في شهر تموز/يوليو الماضي، لتصل إلى ما يقارب الـ 3.5 ملايين ليرة.

أخيرا، على الرغم من أن مقاييس التدهور الاقتصادي العميق في سوريا، أصبحت الآن مألوفة لأولئك الذين يتابعون الأزمة التي طال أمدها، إلا أن الجهات الفاعلة في مجال المساعدة وصنّاع القرار السياسي يجب ألا تتهاون في مواجهة “الوضع الطبيعي الجديد” المقلق في سوريا. الحرب على الإكرامية وتسليط الضوء عليها في ظل انعدام الفرص أمام العمال في سوريا، يعد بالنسبة لهم حق وخط أحمر لا يمكن التنازل عنه، ستؤدي محاربتهم وتسليط الضوء عليهم إلى تفاقم خطر دخولهم ضمن الاقتصاد الأسود، أو الفرار إلى خارج البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.