لا تزال تركيا تواصل بناء السدود الضخمة على أراضيها وتعبئتها من مياه نهري دجلة والفرات قرب الحدود مع سوريا والعراق، ما يضع كلا البلدين الحدوديين معها في مواجهة مع مشاكل جديدة تتعلق بالتغيرات المناخية والزراعة، لاسيما أن معظم سكان المدن السورية والعراقية القريبة من الحدود التركية يعتمدون على الزراعة كمصدر أساسي للدخل.

التغيرات المناخية كالجفاف والتصحر، تهدد المزارعين السوريين والعراقيين على طرفي الحدود بعدما عملت تركيا خلال السنوات الماضية على بناء مشاريع مائية ضخمة مثل سدّ “إليسو” القريب على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق وتركيا، إثر تخفيض الأخيرة كميات المياه المتدفقة عبر نهري الفرات ودجلة إلى سوريا والعراق.

في السنوات الأخيرة، وصلت المياه في نهر الفرات إلى مستويات منخفضة بشكل خطير، إذ قل التدفق من تركيا باتجاه الأراضي السورية عن 200 متر مكعب في الثانية، وهو أقل من نصف الكمية المتفق عليها بين البلدين في عام 1987، ولكن ما أثر تخفيض كميات المياه المتدفقة من تركيا، وما الحلول القانونية أمام العراق وسوريا، وهل تستمر حرب المياه وستساهم بخلق مزيد من المشاكل في العراق وسوريا.

من العطش إلى الصراع

لا شك أن الشرق الأوسط من بين أكثر الأماكن عرضة لتغير المناخ في العالم، فبحسب آخر التقارير التي أصدرتها الأمم المتحدة، فإن الخسائر المدمرة التي سيحدثها تغير المناخ على إمدادات المياه وأنظمة إنتاج الغذاء في المنطقة، هو خلق بيئة خصبة للإرهاب والتطرف. 

الخبير في نظم المعلومات الجغرافية وتعارض استخدام الموارد الطبيعية، بلير فيلتمايت، قال لـ”الحل نت”، إن تغير المناخ بدأ بالفعل، ومع تفاقم الهشاشة في البلدان الغارقة في الصراع أو التي تمر بمرحلة انتقالية بعد الصراع، والبلدان التي تكافح للتعامل مع تأثير تزايد عدد السكان الشباب، والقطاعات العامة المتضخمة، وأسعار النفط المتقلبة، والحوكمة الضعيفة، وتداعيات الوباء، تساهم السياسة المائية التركية في تأجيج الصراع داخل البلدان المحيطة بها.

وفق رؤية فيلتمايت، فإنه استنادا لتاريخ الكرة الأرضية والصراع على الماء، فإن الأزمة التي تحدثها أنقرة بلا شك ستساهم في انتشار الجماعات المسلحة، وتكثيف النزاعات على الموارد الطبيعية، وتسهيل استقطاب المنظمات المتطرفة للمجندين. متناسية أنه يجب على الحكومات في هذه المناطق التعامل مع تغير المناخ باعتباره قضية تتعلق بالسياسة العامة، وهو تهديد مرتبط بمجموعة من التحديات الأخرى التي تتضافر لخلق تأثير مضاعف.

طبقا لحديث فيلتمايت، فإنه لن ينجو أي بلد من بين العراق وسوريا الغنيتان بموارد المياه العذبة المستنفدة في غضون العشرين عاما القادمة، ففي العراق الذي يمزقه الصراع السياسي، يرتفع متوسط درجات الحرارة بمعدل أسرع بمرتين إلى سبع مرات من المتوسط العالمي، كما أن أنظمة إنتاج الغذاء والماء في سوريا تواجه انهيارا وشيكا.

تقديرات البنك الدولي حول ندرة المياه المرتبطة بالمناخ ستكلف دول الشرق الأوسط بين 6 بالمئة و14 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، بسبب التأثيرات المرتبطة بالمياه على الزراعة والصحة والدخل، يراها فيلتمايت، أنها إشارة إلى تداعيات خطيرة على المدى القريب على الاستقرار الوطني والإقليمي.

إشكاليات الفشل الدبلوماسي

بالأساس إلى ما تُشكله الدولة سواء في سوريا أو في العراق من فاعل محوري في إدارة العلاقات مع تركيا حول الاتفاقيات المائية الموقعة بينهما، إلا أن ذلك لا يشكل لدى أنقرة سوى جلوس على الطاولة وإطلاق الوعود كما فعلت مع وزير المائية العراقي.

عون ذياب، قال في تصريحات تلفزيونية نقلتها وكالة الأنباء العراقية الرسمية “واع”، أمس الاثنين، إن البرنامج الحكومي ركز بالمطالبة الجدية لدول المنبع للحصول على حصصنا المائية، وأن بلاده بحاجة إلى زيادة الإطلاقات المائية من قبل تركيا، معتبرا أن أنقرة لم تشارك بغداد الضرر بالمياه بطريقة مناسبة.

قبل أن يتسلم ذياب منصب وزارة الموارد المائية بحوالي ثلاثة أسابيع، حيث كان مستشارا في الوزارة، شدد في حديثه لوسائل إعلامية محلية مطلع تشرين الأول/أكتوبر الفائت، على توحيد موقف سوريا والعراق تجاه دولة المنبع تركيا، كونه موضوع يتعلق “بالحياة”، وحذر وقتها من استمرار الكارثة البيئية في البلدين، مع دخولها في رابع موسم للجفاف على التوالي.

بحسب فيلتمايت، تسيطر تركيا على أكثر من 90 بالمئة من المياه التي تصب في نهر الفرات، و44 بالمئة منها في نهر دجلة، لكن اهتمام أنقرة بتسليح إمداداتها من المياه في الوقت الذي تشهد فيه سوريا اضطرابات الجيوسياسية والعراق أزمة سياسية داخلية، جرتها لقطع تدفق نهر الفرات إلى الدول المجاورة وصبها في السدود التركية، مما أدى أيضا إلى نقص الغذاء والطاقة في سوريا. وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمة المياه في العراق، والتي قد تؤدي إلى فقدان ما لا يقل عن سبعة ملايين شخص من إمكانيتهم الوصول إلى المياه.

بدوره فإن تغير المناخ الذي يهدد كل دولة في المنطقة والذي يعززه قطع المياه من قبل تركيا، سيجعل أكثر من 12 مليون شخص في العراق وسوريا يعانون على مدى العامين المقبلين من فقدان المياه والغذاء والكهرباء بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدل هطول الأمطار.

التوترات الجيوسياسية مثل الخلاف بين العراق وتركيا وسوريا حول بناء السدود التي تقيد تدفق المياه، والسياسات التي تعمل عليها أنقرة لتسليح إمدادات المياه، برأي فيلتمايت، تزيد من احتمالات نشوب الصراع. خصوصا وأن طرفا الدولتين المعنيتين لم تحركا مذكرة دولية لمحاسبة تركيا ووضعها تحت الضغط الدولي خلال السنوات الماضية.

صراع طويل ونظرية قديمة

وصول العراق وتركيا اليوم إلى مرحلة التهديد بقطع العلاقات ليس وليد اللحظة. فحتى في تسعينيات القرن الماضي، حين كانت العلاقة تميل إلى الاستقرار والحياد، في المسائل المتعلقة بالتعاون التجاري والنفطي وأمن الحدود، كانت مشكلة استغلال مياه نهري دجلة والفرات تعكر صفو العلاقات بين البلدين.

تركيا تستند في تفسيرها لطبيعة نهري دجلة والفرات إلى نظرية قديمة تمنح الدولة السيادة المطلقة في التصرف بما يقع ضمن أراضيها، بما في ذلك مياه الأنهار، دون قيد أو شرط. وطبقا لذلك، فمن حقها إقامة ما تشاء من مشاريع للانتفاع بهذه المياه، وإحداث أي تغييرات فيه، بما في ذلك تغيير مجرى النهر بغض النظر عما يترتب عليه من أضرار بمصالح الدول الأخرى.

على هذا الأساس، ترى أنقرة أن نهري دجلة والفرات ليسا نهرين دوليين كي تنطبق عليهما أحكام القانون الدولي للمياه، وتطلق عليهما في المقابل وصف المياه العابرة للحدود وذلك كونهما ينبعان ويتغذيان ثم يجريان عبر الأراضي التركية.

لذلك، تصر أنقرة على اعتبار حوضي دجلة والفرات مجرى مائيا واحدا، وليس حوضين منفصلين بحكم أن النهرين يلتقيان عند المصب. ولهذا تعتبر أنه على العراق الاستغناء عن مياه الفرات، والاقتصار على الاستفادة من مياه نهر دجلة لتغطية وتعويض النقص الحاصل في مياه الفرات، باعتبار نهر دجلة لوحده كافيا للتنمية حسب الرؤية التركية.

علاوة على ذلك، ترفض تركيا الموافقة على اتفاقية الأمم المتحدة حول استخدام المجاري المائية للأنهار الدولية غير الملاحية، لأن هذه الاتفاقية لا تشير إلى مبدأ سيادة الدول على الممرات المائية الدولية التي تمر من أراضيها، أي مبدأ السيادة المطلقة الذي تحتج به على العراق.

ولا توافق أنقرة أيضا على إبرام أية اتفاقية دولية لتحديد حصص الدول في المياه بموجب مبادئ القانون الدولي. وتركز في المقابل على بحث التعاون الفني لضمان حسن الاستغلال الأمثل للمياه. 

في المقابل، تستند وجهة النظر العراقية والسورية إلى مبادئ القانون الدولي بشأن تنظيم استغلال المياه. فنهرا دجلة والفرات دوليان طبقا لتعريف الأمم المتحدة الذي يقول إن النهر الدولي هو “المجرى المائي الذي تقع أجزاء منه في دول مختلفة”.

دمشق وبغداد يرون أن حوضي نهري دجلة والفرات مستقلان عن بعضهما، فلكل منهما حوضه ومساره ومنطقته. وتشددان أيضا على ضرورة التوصل إلى اتفاق ثلاثي، بين تركيا وسوريا وإيران، لتحديد الحصص المائية لكل دولة على أسس عادلة، وبالاعتماد على القانون والعرف الدوليين.

مخاطر الأزمة المائية

بات العراق اليوم واحدا من أكثر خمسة بلدان في العالم عرضة لعواقب تغيّر المناخ، بحسب الأمم المتحدة، مع استمرار الجفاف وانخفاض نسبة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة والتصحّر المتسارع على خلفية تراجع منسوب مياه نهر دجلة.

وفق إحصائيات رسمية، لا تتجاوز كميات المياه المتدفقة من تركيا إلى العراق 35 بالمئة هذا العام، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بنسب السنوات الماضية.

المحلل السياسي والباحث المتخصص في الشؤون التركية، خورشيد دلي، قال في حديث لموقع “العربية نت”، أمس الاثنين، إن “سياسة تركيا المتعلقة بتخفيض كميات المياه المتدفقة إلى العراق وسوريا بالتأكيد ليست جديدة، لكن التطور الراهن سببه لجوء تركيا إلى تعبئة السدود الجديدة مثل سد إليسو وهو ما أدى لارتفاع كميات المياه التي تمنع أنقرة تدفقها عبر نهر دجلة إلى الأراضي العراقية”.

دلي أضاف في تصريحاته، أن “تخفيض كميات المياه المتدفقة من تركيا إلى الجانب العراقي سيؤدي إلى مزيد من المعاناة للعراقيين لاسيما أن إيران تمارس سياسة مماثلة لسياسة الجانب التركي، وقد نجم عن ذلك تضرر الزراعة وارتفاع نسبة التصحّر والجفاف”.

لذا، يرى دلي أنه ربما يتطلب من الحكومة العراقية الجديدة الاهتمام بالشؤون المائية ودفع تركيا للتفاوض حول كميات المياه وفق اتفاقياتٍ سابقة، مشيرا إلى أنه “دون حصول ذلك سوف تستمر حرب المياه وستساهم بخلق مزيد من المشاكل في العراق وسوريا على حد سواء”.

الاتفاق الثلاثي، حتى لو اضطر الأمر لإجبار تركيا عليه يعد أمرا ضروريا من أجل مواجهة التحديات البيئية الشديدة للمياه بشكل جماعي، خاصة مع توقع حدوث زيادات كبيرة في درجات الحرارة بحلول السنوات القادمة والتي سيستمر فيها تدهور التربة والمياه في المنطقة ليزيد بدوره الضغط على السكان المحليين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة