للوهلة الأولى، قد لا يبدو أن المؤسسات والجمعيات الخيرية تثير القلق بشأن غسيل الأموال وتمويل الأعمال غير المشروعة والرشوة وما شابه ذلك، لكنها في ظل عملها ووجودها داخل مناطق الصراع مهددة أن تكون قد وجدت من أجل ذلك، دون الخوف أو الالتزام من العقوبات الدولية أو الفاعلين الدوليين.

تعمل بعض المؤسسات الخيرية في مناطق الصراع ومنها سوريا، أو تقوم بأنشطة تنطوي على قدر أكبر من التعرض لمخاطر مثل الاحتيال أو الجرائم المالية أو التطرف أو الإرهاب. ويمكن القول إن آثار غسل الأموال والجرائم المالية أكثر تدميرا للجمعيات الخيرية، حيث يتم جمع أموالها لمساعدة الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، وهذا يقف عائقا أمام التحقيق في جميع الجرائم المالية ضد المؤسسات الخيرية.

الواقع بالنسبة لمعظم المؤسسات الخيرية المسجلة في دمشق وريفها البالغ عددها 400، جنبا إلى جنب مع الآلاف في جميع المحافظات السورية، هو أنها غالبا ما تتمتع بالغموض في إنشائها والأسباب الحقيقية وراء وجودها، لكن كيف شكّل مبدأ المسؤولية الاجتماعية بابا لرجال الأعمال السوريين في إنشاء الجمعيات الخيرية، وما الهدف من وراء ذلك.

غسل الأموال والقطاع الخيري

 البنك الدولي عرّف المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال، بأنها التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمشاركة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم وعائلاتهم والمجتمع المحلي، وذلك لتحسين ظروف معيشة الناس بأسلوب يخدم الاقتصاد والتنمية في آن واحد، كما عَرّفت الغرفة التجارية العالمية المسؤولية الاجتماعية لرجال الأعمال، على أنها جميع المحاولات التي تسهم في تطوعهم لتحقيق تنمية أخلاقية واجتماعية.

الخبير في القانون الجنائي الدولي ومكافحة غسيل الأموال، جيمي جورولي، أوضح لـ”الحل نت”، أنه في الحالة السورية وفي سياق القطاع الخيري، يمكن أن يكون المثال البسيط، هو إنشاء الجمعية للتبرع بمبلغ كبير من أموال غير مشروعة أو عائدات غير شرعية ليتم وضعها بعد ذلك وإيداعها ضمن الأموال المشروعة التي تحتفظ بها المؤسسة الخيرية. ويتم بعد ذلك إنشاء مستفيد مزيف كواجهة تتلقى الأموال المغسولة حديثا من المؤسسة الخيرية، لتبدو كلها نظيفة وشرعية، وهناك العديد من الأمثلة حول كيفية استخدام الجمعيات الخيرية وإساءة استخدامها من قِبل رجال الأعمال في مناطق الصراع حول العالم.

بالإضافة إلى كون المؤسسات الخيرية وموظفيها ضحايا الجرائم المالية نفسها، وفقا لحديث جورولي، فإنه يمكن أن يكون الكيان الخيري أيضا عبارة عن غطاء، حيث يبحث غاسلي الأموال عن أي فرصة للاستفادة من المنظمات ذات الضوابط المالية الضعيفة من أجل غسل مكاسبهم غير المشروعة.

قد تتعرض المؤسسات الخيرية والأوصياء والموظفون والمتطوعون الذين يساعدون عن قصد أو عن غير قصد غاسلي الأموال، لمحاكمة جنائية ويجدون أنفسهم عرضة للمحاكمة.

في سوريا، أكد عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، في حديثه لصحيفة “الوطن” المحلية، اليوم الأربعاء، أن عدد الجمعيات الفاعلة في دمشق وريفها يبلغ بحسب إحصائيات عام 2021 نحو 400 جمعية في دمشق وريفها من أصل 658 جمعية، منها نحو 180 متوقف لأسباب مختلفة لم يذكرها.

إحدى الطرق لإنشاء الجمعيات الخيرية في سوريا، هي بحسب جورولي، واجهة لأنشطة رجال الأعمال، من أجل استلام الأموال بمجرد غسلها من خلال الحساب المصرفي للمؤسسة أو الجمعية الخيرية. حيث تستخدم بعض الحيل مثل تحويل الأموال إلى عملة مختلفة، وتبادل الأموال مقابل البضائع، ونقل الأموال من خلال حسابات بنكية متعددة عبر دولتين أو أكثر، واستخدام وسيط مثل منظمة غير حكومية أو إدارة حكومية، لمزيد من التعتيم على أصل الأموال.

معركة عمالقة الخير السوريين

الجمعيات الخيرية تشكل جبهات مفيدة لجميع أنواع الأنشطة في سوريا، لكنها ربما تكون قبل كل شيء أدوات للسيطرة، حيث دفع التحول نحو الاقتصاد القائم على السوق خلال أوائل عام 2000 دمشق إلى تبني إطار مرن جديد، وقد تجلت هذه المرونة جزئيا في تشجيع الحكومة للمجتمع المدني السوري على التعويض عن الانسحاب التدريجي للدولة من الرعاية الاجتماعية، ولكن تحت وصايتها وإشرافها.

منذ عام 2011 وللاستجابة للوضع الاقتصادي المتدهور بسرعة، يشير الخبير في مكافحة غسيل الأموال، إلى أن المنظمات غير الحكومية التي تنظمها الحكومة والجمعيات الخيرية الموالية لها كُلّفت بجذب التبرعات الدولية لتمويل تقديم الخدمات، وتنفيذ نظام مكافآت واسع النطاق لرجال الأعمال.

وفقا لحديث جورولي، فإن غالبية الجمعيات التابعة لرجال الأعمال أو التي يتبناها رجال الإعمال السوريين في الداخل تعتمد على المساعدات الممولة بشكل مباشر أو غير مباشر من قِبل وكالات الأمم المتحدة. وعادة ما تبدأ بتوفير الغذاء وإمدادات الطاقة للمجتمعات الموالية لها. وفي مرحلة لاحقة، يقومون تدريجيا برفع مستوى دورهم ويبدأون في المشاركة في تقديم الخدمات في مشاريع المياه والصرف الصحي والإنعاش المبكر. ومع زيادة نفقاتها، فإنها تنوع مصادر إيراداتها وتستثمر في مشاريع وأنشطة مختلفة مثل توفير الائتمانات الصغيرة، وإزالة الأنقاض، ومشاريع الهياكل الأساسية الصغيرة، والخدمات الصحية.

تطور هذه الارتباطات خلال الصراع بحسب جورولي يظهر نتائج هامة، أولا، استخدم النظام المنظمات غير الحكومية كأداة لممارسة رقابة أكثر صرامة على جهود المساعدات التي تقودها الأمم المتحدة وتقديم المساعدة لرجال الأعمال. ثانيا، استخدم أقرب المقربين من حيتان الأموال للمنظمات لتعزيز نفوذهم وبالتالي التنافس مع أقرانهم على الغنائم من المجال الجمعوي.

إحدى الأمثلة الظاهرة في سوريا، هي جمعية “البستان” الخيرية، التابعة لرجل الأعمال وأبن خال الرئيس السوري، رامي مخلوف، واتهمت بتسييس الدعم والإغاثة بما يخدم السلطة، حيث قرر تحويل مبلغ مليار ونصف ليرة سورية من أمواله لصالح الجمعية ليتم توزيعها على أسر آلاف القتلى والجرحى من عناصر الجيش السوري، لكن تبين لاحقا أنه أودع هذا المال هربا من الضرائب والمسائلة عن ثروته التي جمعها خلال فترة الصراع.

بوابات للتوسع المالي

إن المشهد الترابطي للجمعيات الخيرية لما بعد عام 2011 في المناطق التي يتصيد فيها رجال الأعمال متنوع ومعقّد. وهي تتألف من هياكل للمنظمات غير الحكومية مسجلة ومنظمة قانونا إما تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أو وزارة الأوقاف؛ أو الجمعيات الخيرية غير الرسمية المرتبطة بعدد كبير من الجهات الفاعلة الاجتماعية مثل “أمراء الحرب” و”حيتان الاقتصاد” الأثرياء.

هذه الجهات الفاعلة تختلف اختلافا كبيرا في طريقة عملها، وتوجهاتها، وعلاقاتها مع الحكومة والمجتمع الدولي، ونطاق أنشطتها. وقد تعمقت مجموعة من الأوراق البحثية في جوانب مختلفة من القطاع الجمعوي السوري، بما في ذلك الشؤون المالية والمستفيدين والعضويات واستقلالية الجمعيات.

 عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، أفاد بأن أعمال الجمعيات الخيرية في سوريا تنقسم إلى أعمال تنموية وأعمال إغاثية وأعمال تربوية ومن ثم نشأت فيما بعد، الجمعيات الخيرية الموسّعة، التي تم إنشاؤها لتقديم دعم مخصص في بعض الأحيان مثل دعم طبي أو دعم تعليمي أو دعم احتياجات أسرة وغير ذلك، كما تم إنشاء جمعيات متخصصة في أمور الأيتام ورعايتهم والوقوف على متطلباتهم لحين بلوغ سن الرُشد.

من خلال تسليط الضوء على ثلاث منظمات بارزة “الأمانة السورية للتنمية”، ومؤسسة “البستان الخيرية”، وجمعية “الفضل” الخيرية، في دراسة لـ”معهد الجامعة الأوروبية” للدراسات، تبين كيف تكيفت المنظمات غير الحكومية مع العزلة الدولية منذ عام 2011، وكيف لعبت أدوارا مختلفة خلال مراحل مختلفة من الصراع، وكيف تفاعل رجال الأعمال مع نفوذها المتزايد في المجتمع السوري. وتمثل كل حالة صورة مميزة توضح كيف أن طريقة عملها وطموحاتها الراعية قد شكلت تفاعلاتها مع الدولة السورية.

في حين استفاد رجال الأعمال في سوريا من هذه الجمعيات، انخرطت هذه المنظمات في تقديم الخدمات في مشاريع المياه والصرف الصحي والإنعاش المبكر، إما بدافع من جداول أعمال المانحين أو كنتيجة لرفع مستوى ملفاتها الشخصية والأموال التي وردت إليها وآلية عملها، ويمكن ملاحظة اتجاه عام لتنويع مصادر الإيرادات مثل إنشاء محفظة استثمارية، حيث تراوحت هذه المشاريع والأنشطة من إزالة الأنقاض إلى مشاريع البنية التحتية الصغيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.