في الوقت الذي يحتدم الصراع في أوكرانيا بين الغرب وروسيا، تتجه الأنظار صوب صراع آخر يجري في منطقة غرب إفريقيا أو ما يسمى منطقة الساحل، وهي حزام شبه قاري شبه صحراوي يمتد لآلاف الأميال عبر إفريقيا.

العديد من الدراسات الدولية الراهنة، أشارت إلى أن التدافع الذي تشهده القارة الإفريقية مؤخرا هو أحد تجليات الصراع الدولي في حقبة “ما بعد العولمة” أو “ما بعد هيمنة القطب الواحد”. حيث يُنظر لهذه التأثيرات باعتبارها نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى في تشكّل العلاقات والمصالح الدولية، وخاصة على ضوء الصراع الفرنسي الروسي على النفوذ في هذه القارة.

كيف هيمنت روسيا على دول إفريقية

تقرير نشره موقع “فويس أوف أميركا” في وقت سابق، أفاد أن موسكو تعمل بالفعل على بناء روابط جديدة وتحالفات جديدة تم تشكيلها خلال الحرب الباردة، عندما دعم الاتحاد السوفيتي السابق الحركات الاشتراكية في جميع أنحاء إفريقيا. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، انسحبت روسيا إلى حد كبير من القارة.

منذ عام 2007 على الأقل، وخاصة في السنوات القليلة الماضية، زادت روسيا من المشاركة العسكرية والاقتصادية الأخرى في إفريقيا.

قمة 2019، أنتجت عقودا مع أكثر من 30 دولة إفريقية لتوريد الأسلحة والمعدات العسكرية. واستثمرت الشركات، بما في ذلك العامة المدعومة من الدولة بكثافة في قطاعات الأمن والتكنولوجيا والصناعات التي تستخرج الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز والذهب والمعادن الأخرى.

هذا ومن المقرر عقد قمة ثانية العام القادم، وذلك بعد أن أسفر اللقاء السابق عن اتفاقيات دبلوماسية وصفقات بمليارات الدولارات تشمل أسلحة، طاقة، زراعة، شؤون مصرفية.

التقرير الغربي أشار إلى أن انتشار الحركات المتشددة وأعمال العنف الأخرى في إفريقيا أدى إلى مزيد من الانفتاح على التدخل العسكري الروسي. وعلى سبيل المثال، طلبت خمس دول في منطقة الساحل المضطربة، وهي “بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا، النيجر” دعم موسكو العسكري في عام 2018، كما انخرط مقاتلون روس في موزمبيق وأنغولا.

إن انسحاب القوات الأوروبية من مالي يوسع الفرصة بشكل أكبر للتواجد الروسي، فبعد الانسحاب الغربي من مالي، أقامت مجموعة “فاغنر” الروسية علاقات مع الحكومة المالية كمزود للأمن.

تقارير صحفية اطلع عليها “الحل نت”، أكدت أن بداية الدخول لمجموعة “فاغنر” الروسية إلى غرب إفريقيا، بدأت في نهاية العام الماضي تقريبا، بعد نية فرنسا في ذلك الوقت سحب قواتها.

في نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، اتهم رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جان إيف لودريان، مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية بـ”نهب” مالي غرب إفريقيا. وأوضح لودريان، قائلا “باشروا منذ الآن باستخدام موارد البلد لقاء حماية المجموعة العسكرية. إنهم ينهبون مالي”.

لودريان، بيّن أن المجموعة المثيرة للجدل، مؤلفة من عسكريين روس سابقين تُسلّحهم روسيا وتساندهم لوجستية روسية. في إفريقيا الوسطى، وصل الأمر بهم إلى حد الضراوة إذ كانوا يقايضون أمن السلطات بالحق في استغلال موارد المناجم بعيدا عن أي محاسبة.

لودريان، شدد على أن “فاغنر”، تستغل ضعف بعض الدول لترسخ وجودها، ليس للحلول محل الأوروبيين في الساحل، وأبعد من ذلك لتعزيز نفوذ روسيا في إفريقيا، معتبرا أن هدف التحرك الروسي هو بوضوح، “ضمان استمرارية المجموعة العسكرية في السلطة”.

قد يهمك: الوجه الجديد للإرهاب الدولي.. أعمال القرصنة البحرية بين السيناريوهات والتداعيات

النيجر ساحة صراع “محتدم”

دولة النيجر، تُعتبر قلب اليورانيوم الأسود، فهي أفقر دولة في العالم وفقًا لمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، أعلن الاتحاد الأوروبي هذا الشهر عن نيته تشكيل “مهمة شراكة عسكرية” مطلع 2023 للمساعدة في تعزيز قوات النيجر التي تقاتل الإرهابيين.

كما أن انتقال السلطة في النيجر العام الماضي كان محل ترحيب من الدول الغربية بوصفه أمرا قد يضع حدا للتمدد الروسي في المنطقة. وفي أيار/ مايو، زار المستشار الألماني أولاف شولتز، القوات الألمانية المتمركزة في قاعدة قريبة من حدود النيجر مع مالي، لتوسيع مهمة برلين لتدريب جنود النيجر على مكافحة الإرهاب. والتقى المستشار الألماني بمحمد بازوم، الذي انتُخب رئيسا العام الماضي في أول انتقال ديمقراطي للسلطة في النيجر.

مسؤولون غربيون أشادوا بـ”بازوم”، وهو مدرس سابق ومساعد كبير للرئيس السابق، باعتباره شخصا مستعدا لمحاربة الإرهابيين ومعالجة الأسباب الجذرية للتطرف. وكانت إدارة بازوم، وعدت بزيادة مدى وفعالية الدولة، بما في ذلك من خلال تحسين نظامها المدرسي غير الملائم. وقد بدأت محادثات سلام مبدئية مع بعض الجماعات الإرهابية.

بحسب تقرير لـ”فايننشال تايمز”، فقد كان شولز هو الأحدث ضمن سلسلة من كبار المسؤولين الأوروبيين والأميركيين وغيرهم ممن تعهدوا بتقديم الدعم للنيجر. وفي عام 2019، فتحت الولايات المتحدة قاعدة لطائرات بدون طيار بالقرب من مدينة أغاديس الشمالية للقيام بعمليات المراقبة.

من جانبها، بدأت فرنسا، التي سحبت قواتها هذا العام من مالي، من تكثيف وجودها في النيجر، وهو محور نحو ما أطلق عليه “شريك الملاذ الأخير” لباريس في منطقة الساحل، لكن في أيلول/ سبتمبر الماضي، قال تقرير لـ “صحراء فوكس” وهو تقرير استخباراتي بريطاني شهري يصدر عن منطقة الصحراء، أن النيجر يبدو واضحا أنها الآن مقصد أساسي لموسكو.

صحيفة الـ “تايمز“البريطانية، ذكرت في تقرير لها نُشر مؤخرا، أن النيجر ستكون الدولة التالية التي تخسرها فرنسا لصالح روسيا في غرب إفريقيا، تقرير الصحيفة يأتي بعد أن تدخلت روسيا مؤخرا في دولتي مالي وبوركينا فاسو، من خلال دعم الانقلابات العسكرية التي دفعت بكلتا الدولتين إلى أوضاع أمنية واقتصادية غير مستقرة.

الصحيفة قالت، إن سلسلة من الأصوات المؤيدة لبوتين، أعلنت في تطبيق “تليغرام“، أن النيجر الغنية باليورانيوم هي الهدف التالي لموسكو في غرب إفريقيا حيث تساعد البيئة الأمنية المتدهورة في بسط موسكو سيطرتها على المستعمرات الفرنسية السابقة، لافتة إلى أن نفس الأصوات كانت تثرثر قبل الانقلاب الذي أطاح بحكومة بوركينا فاسو، قبل نحو شهرين.

كما أشارت الصحيفة إلى أن النيجر المستعمرة الفرنسية السابقة الوحيدة في المنطقة، التي لا تزال باريس تسيطر عليها، ضرورية لمحطات الطاقة النووية التي توفر 70 بالمئة من الكهرباء في فرنسا، مبينة أنه في عام 2020، كان 34.7 بالمئة من اليورانيوم المستخدم في المفاعلات الفرنسية يأتي من الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، وإذا فقدت باريس هذا المورد، فإن أزمة الطاقة ستزداد سوءا بشكل ملحوظ.

في 18 أيلول/ سبتمبر الماضي، تظاهر عدة مئات سلميا في نيامي ضد قوة “برخان” الفرنسية بينما امتدحوا الوجود الروسي. مع صيحات “برخان اخرجوا” و “تسقط فرنسا” و “تحيا بوتين وروسيا”، سار المتظاهرون، الذين أعطتهم سلطات بلدية نيامي الإذن بذلك، في بعض شوارع العاصمة قبل عقد اجتماع أمام مجلس الأمة.

وقبل ذلك بشهر واحد، أي في آب/ أغسطس الماضي، كانت موسكو تخطط لتوقيع اتفاق تعاون عسكري مع النيجر بشأن التعاون في الحرب على الإرهاب وإجراءات لتعزيز الأمن الدولي.

بموجب الوثيقة التي نشرتها وسائل إعلام روسية، اتخذت الحكومة الروسية قرارا “بالموافقة على مشروع اتفاقية تعاون عسكري بين حكومة الاتحاد الروسي وحكومة جمهورية النيجر مقدمة من وزارة الدفاع ووافقت عليها وزارة الخارجية الروسية والإدارات الأخرى المعنية”. وبموجب الاتفاق ستعمل موسكو ونيامي أيضا على تطوير العلاقات في مجال التدريب المشترك للقوات والتعليم العسكري والطب العسكري وغيرها من المجالات.

كما يعتزم البلدان تبادل تجربة بعثات حفظ السلام والتعاون في عمليات حفظ السلام تحت رعاية الأمم المتحدة.

وسط ذلك، يُخشى على نطاق واسع من أن روسيا وعلى الرغم من أن الشكوك تدور حول إمكانية إدارتها للمنطقة كما فعلت فرنسا من قبل، من أن تترك قوات “فاغنر” الروس مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة الساحل لـ “الجهاديين“.

قد يهمك: بعد اتفاق إنهاء التوتر.. ما فرص تسلم المدنيين للسلطة في السودان؟

روسيا ومحاولة استغلال غرب إفريقيا

بهذا الخصوص، نقل التقرير عن إيلي تينينباوم، مدير “مركز الدراسات الأمنية في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس” قوله، إن “فرنسا تمر بنقطة تحول رئيسية وطويلة الأمد في علاقاتها مع غرب إفريقيا، وإن روسيا تستغل حالة عدم اليقين لمتابعة إستراتيجية تم إطلاقها قبل عقد من الزمن في إفريقيا للعمل مع الفصائل المحلية”.

يأتي ذلك في الوقت الذي غادرت فيه فرنسا مالي، ونشرت “فاغنر” حوالي ألفي مرتزق وفي جمهورية إفريقيا الوسطى منذ عام 2018، على خلفية الصراعات الدينية والتحول الدبلوماسي بعيدا عن فرنسا، وفي بوركينا فاسو، قال الكابتن إبراهيم تراوري، الضابط البالغ من العمر 34 عاما والذي تولى السلطة الشهر الماضي، إن بلاده تريد “شركاء آخرين“، وهو ما تم تفسيره إنها إشارة إلى الروس.

بعد ذلك، سارع ويفغيني بريغوجين، مؤسس “فاغنر” المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى تقديم الدعم لإبراهيم تراوري قائد الانقلاب في بوركينا فاسو، ووفق ما ورد فإن “فاغنر” تعمل في 9 دول إفريقية، ومن المرجّح أن تكون بوركينا فاسو هي العاشرة، والنيجر هي الـ11.

سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، كانت قد ربطت الوتيرة السريعة لتأثير “فاغنر” في إفريقيا بحرب موسكو في أوكرانيا، قائلة “بدلا من أن تكون فاغنر شريكا شفافا وتعمل على تحسين الأمن، فإنها تستغل الدول العميلة التي تدفع مقابل خدماتها الأمنية الثقيلة من الذهب والألماس والأخشاب والموارد الطبيعية الأخرى، وهذا جزء من نموذج أعمال مجموعة فاغنر“.

غرينفيلد أفادت مؤخرا لمجلس الأمن الدولي، “نحن نعلم أن هذه المكاسب غير المشروعة تستخدم في تمويل آلة الحرب الروسية في إفريقيا والشرق الأوسط وأوكرانيا“. لكن بالمقابل، لفتت “التايمز” إلى أنه ومع تورط روسيا في الحرب في أوكرانيا وركود اقتصادها، يشك كثيرون في إمكانية أن تصبح القوة المهيمنة بغرب إفريقيا.

تاريخيا تُعد منطقة غرب إفريقيا محل تواجد فرنسي تاريخي، إذ تُعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها من الدول المحيطة لها مستعمرات فرنسية، غير أن روسيا تحاول خلق منطقة صراع جديدة من خلال تدخلها في الغرب الإفريقي، كذلك بمحاولة لإحكام قبضتها على مصادر الطاقة التي تعد المنطقة إحدى أهم حاضناتها، وهو ما مثل نذير شؤم على المنطقة، وبادرة إلى صراع وكالات يمكن أن ينتج عنه هذا التدافع.

بدوره، تحدث موقع “الحل نت” إلى أستاذ الخبير في شؤون العلاقات الدولية مهند جهاد، بمحاولة لفهم أبعاد الخطوات الروسية المستقبلية، وقال، إن “التدخلات الروسية في القارة الإفريقية تحمل أبعاد كثيرة، لاسيما مع ما تحاول من خلاله موسكو من خلق منطقة صراع جديدة ضد خصومها الغربيين، كذلك محاصرتهم بمصادر الطاقة التي تمثل العامل الأساسي في كل المشكلات الحالية التي تخوضها روسيا مع خصومها، بالتالي من المؤكد لن يقف الغرب وفرنسا تحديدا مكتوفي الأيدي أمام تلك المحاولات بل ستزيد من تركيزها على المنطقة“.

جهاد بيّن في تصريح سابق أن “مضاعفة التركيز على رقعة جغرافية يعني أن دعم اللوبيات السياسية والاجتماعية، إضافة إلى مضاعفة الجهود الاقتصادية، وهذا من دون شك يعني أنه سيدفع إلى زيادة حدّة الاستقطاب داخل المنطقة وتحفيز النزاعات بين الأطراف المتخاصمة التي ستسعى كلا منا إلى بسط نفوذها“.

كما لفت إلى أن “المنطقة تُعد تاريخا ضمن رقعة النفوذ الفرنسي، أي الغربي، وأن ما تحاول روسيا فعله يُعد تعدٍّ على المصالح الاستراتيجية الغربية، وهذا بحد ذاته من شأنه أن يخلق صراعا قد يجتاح ما لا يقل عن عشرة دول إفريقية، بخاصة وأن الغرب اليوم بحاجة ماسة إلى الطاقة“.

جهاد أردف، أن “ذلك السيناريو ربما سيحول المنطقة إلى ساحة لتصفية الحسابات، وهو ما سيمهّد إلى خلق انقسامات داخلية ونزاع محاور تحتّم على الدول الداعمة والمتصارع فيه على زيادة حركة التسليح لوكلائها على الأرض وهو ينذر باقتتال داخلي“.

قد يهمك: الصحراء الغربية.. هل تؤجج سباق التسلح بين الجزائر والمغرب؟

قوة أوروبية لمكافحة “الإرهاب”؟

منتصف الشهر الجاري، نُشرت تقارير صحفية حول نية الاتحاد الأوروبي تشكيل “مهمة شراكة عسكرية” في أوائل عام 2023 للمساعدة في تعزيز قوات النيجر التي تقاتل الإرهابيين. ويعيد الاتحاد الأوروبي النظر في وجوده في منطقة الساحل، بعد سحب جزء من أفراد بعثته التدريبية العسكرية في مالي، بطلب من المجلس العسكري.

مسؤول أوروبي، أوضح أن الاتحاد الأوروبي “تعلّم دروسا من تجربته السابقة في مالي، ولهذا السبب لا نريد مهمة تدريب واسعة النطاق للاتحاد الأوروبي للنيجر”، مضيفا أن المهمة ستتمثل في إقامة مركز للمساعدة في تدريب القوات النيجيرية على “مسائل الصيانة والأمور اللوجستية”.

كما وستشمل المهمة أيضا “تدريبا متخصصا” في مجالات مثل المتفجرات اليدوية الصنع، وقد يوفّر دعما من حيث عمليات التواصل والقيادة للجيش في نيامي. وتابع المسؤول أن الاتحاد الأوروبي يتوقع إطلاق البعثة الجديدة “في الأشهر الأولى” من العام المقبل.

هذا وما زال ثلاثة آلاف جندي فرنسي منتشرين في منطقة الساحل، من بينهم 1700 في النيجر، وكان لدى الاتحاد الأوروبي بعثة تدريب مدنية قائمة منذ عقد لدعم الشرطة وأجهزة الأمن في النيجر.

في العموم لا يزال توثيق العلاقة بين موسكو ودول الساحل يقلق الغرب، ويبدو أن صراعا حادا سينشب في إفريقيا وتحديدا في النيجر في الفترة المقبلة، وهذا ينذر بمزيد من الصراعات في تلك المنطقة التي تطحنها بالفعل معارك ضد الجماعات المسلحة والفكر المتطرف.

قد يهمك: لماذا يصر أردوغان على المصالحة والتقارب مع مصر؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.