وسط التوترات الجيوسياسية الإقليمية المتصاعدة والديناميكيات الأمنية المتغيرة في الشرق الأوسط، تعزز بكين جهودها لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع القوى الإقليمية وإقامة شراكات استراتيجية شاملة مع العالم العربي. حتى الآن، سارت الصين في المنطقة لتحقيق التوازن بين المنافسين الإقليميين. ومع ذلك، من المرجح أن يؤدي وجودها المتزايد في المنطقة إلى مشاركتها بشكل أوسع في نهاية المطاف، خاصة وأن الترتيبات الأمنية الإقليمية الناشئة تمهد الطريق لتحديات جديدة من شأنها زيادة دور القوى الإقليمية.

مع إعلان السعودية عن زيارة رسمية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض، الأربعاء الفائت، يحضر فيها ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية، لمناقشة “سبل تعزيز العلاقات المشتركة في المجالات كافة، وبحث آفاق التعاون الاقتصادي والتنموي” مع بكين، تشمل مشروعا للبتروكيماويات وتطوير مشاريع إسكانية وتعليم اللغة الصينية فضلا عن الاتفاقيات التي وقعت مع الشركات التقنية الصينية، دون أن تقدم تفاصيل حول مضمونها أو القيمة المالية لها، يضع تساؤلا حول جدية الرياض بالتوجه والتحول إلى الصين وإمكانية تلبية الأخيرة لتطلعات الخليج العربي.

حديث الرئيس الصيني خلال زيارته إلى المملكة، بأنها “ستفتح عصرا جديدا للعلاقات بين الصين والعالم العربي ودول الخليج والسعودية”، يرى مراقبون مضمونها بأنه أعمق من الكلمات التي ذكرت خلال المؤتمرات الترحيبية، حيث تشير إلى تأثير وانعكاسات النفوذ المتزايد لـ”الحزب الشيوعي الصيني” في الشرق الأوسط، خصوصا وأن الأرقام القادمة من بكين عن الاقتصاد الصيني لا توحي بأن الأخيرة قادرة على تلبية متطلبات المنطقة التي تشهد “ثورة” في التوسع التكنولوجي والاقتصادي.

هل الصين قوة أمينة للخليج العربي؟

وزارة الخارجية الصينية، ذكرت أن زيارة شي جين بينغ تعد “النشاط الدبلوماسي الأوسع نطاقا بين الصين والعالم العربي” منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وأن بكين ستعمل مع الجانب الخليجي على بناء نمط جديد ومتزايد الأبعاد لتعاونهما في مجال الطاقة، وأنها ستغتنم فرصة إقامة وتعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الصين ومجلس التعاون الخليجي.

أستاذ العلاقات الدولية، محمد أيوب، بيّن لـ”الحل نت”، أن توجهات الحزب “الشيوعي” الصيني منذ توليه الحكم لم تكن سوى توسعيه وتخدم مصالحه في جميع اتفاقيته مع الدول، وحتى مع روسيا حليفته الأزلية، حيث ينبع معظم اهتمام بكين بمنطقة الخليج العربي من الدور الرئيسي الذي يلعبه الخليج في أسواق الطاقة العالمية فقط. 

إذ تعد الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط بمعدل 14 بالمئة من الإجمالي العالمي، ويشكل النفط ما يقرب من 70 بالمئة من إجمالي استهلاكها للطاقة. كما أنها أكبر مستورد للنفط والغاز الطبيعي في العالم. ومع ارتفع اعتمادها على واردات على النفط من منطقة الخليج، كانت السعودية هي هدف بكين والبوابة للدخول إلى الخليج، مستغلة تعكر صفو علاقات الرياض مع واشنطن بفعل الخلافات حول سياسة الطاقة والضمانات الأمنية الأميركية وحقوق الإنسان في السعودية.

تلعب التجارة أيضا دورا رئيسيا في توجهات الصين نحو منطقة الشرق الأوسط، وفق حديث أيوب، والخليج على وجه الخصوص. حيث تعد الصين الآن الشريك الاقتصادي الأول لمجلس التعاون الخليجي وأكبر شريك تجاري للكويت وعمان والسعودية والإمارات العربية المتحدة.

وبالنسبة لإيران أيضا، تعتبر بكين شريكا تجاريا رئيسيا، على الرغم من أن التباين في العلاقة خاصة بالنظر إلى مدى العقوبات الحالية. ففي الواقع، إيران بحاجة إلى الصين أكثر مما تحتاجها الصين، والعلاقات غير متوازنة بينهما.

بحسب أيوب، دفعت تصورات الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط إلى التساؤل عما إذا كانت القوى الصاعدة مثل روسيا والصين ستتدخل. ومع ذلك، على الرغم من رواية الإدارة الأميركية الحالية، فإن الاحتمالات الفعلية لانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة تبدو نادرة. وينطبق هذا بشكل خاص على شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي، حيث لا تزال واشنطن تحتفظ بمصالح قوية في ضمان حرية الملاحة وحماية إمدادات النفط العالمية.

وفي هذا السياق، يشير أيوب إلى أنه حتى لو انسحبت الولايات المتحدة في نهاية المطاف من المنطقة، فسيتعين على الصين توسيع قدراتها في عرض قوتها إذا كانت تهدف إلى استبدال الولايات المتحدة كقوة عسكرية وأمنية. لكن في الوقت الحالي، يبدو أن بكين تفتقر إلى القدرة العسكرية وخاصة الغطاء الجوي الذي يتطلب قواعد عسكرية إقليمية والإرادة السياسية.

لذلك، فإن كل ما يشغل بال “الحزب الشيوعي الصيني” في الوقت الحالي والسعي لشراكته مع الخليج العربي، هو الاستحواذ على المشاريع المتنامية لخدمة مبادرة “الحزام والطريق”، خصوصا وأن سياسة “صفر كوفيد” التي اعتمدها الحزب أضرت بالاقتصاد الصيني، حيث أظهرت بيانات رسمية الأربعاء الفائت، انكماش الصادرات بنسبة 8,7 بالمئة خلال الشهر الماضي وذلك على أساس سنوي، وهو ما يمثل هبوطا حادا بعد تراجع بنسبة 0,3 بالمئة فقط في تشرين الأول/أكتوبر وبما يمثل أسوأ أداء منذ شباط/فبراير من عام 2020، بحسب البيانات، وهو ما عزز توقعات خبراء الاقتصاد حول استمرار الانخفاض إلى ما نسبته 3,5 بالمئة.

الخطوة العسكرية القادمة للصين.. قاعدة في الخليج العربي؟

إن سياسة بكين الخارجية المتمثلة في الموازنة بين الخصمين وزيادة التعددية قد مكّنت الصين من تعميق علاقاتها مع الشرق الأوسط. أثناء الانخراط في المنطقة، ركزت الصين على المصالح المشتركة، والتي هي اقتصادية إلى حد كبير، وشددت على التعاون بين بلدان المنطقة. كما حافظت بكين على موقف بعيد عن نقاط الضعف المباشرة للصراعات التي طال أمدها، ولكن من المتوقع الآن ظهور تحديات جديدة حيث من المرجح أن يتغير الترتيب الأمني ​​وتوازن القوى في المنطقة اعتمادا على عدة عوامل، لا سيما مستقبل المحادثات النووية مع إيران.

الخبير في سياسة الخليج وشرق آسيا، جون تيرمان، أوضح لـ”الحل نت”، أنه لجيل كامل، وسعت الصين انتشارها الاقتصادي ليشمل الشرق الأوسط، لكنها ظلت إلى حد كبير محايدة دبلوماسيا وغائبة عسكريا.

فبكين، على سبيل المثال، تقيم علاقات دبلوماسية ودية مع إسرائيل والسعودية وإيران، بينما تقوم سفن البحرية الصينية بالتموضع من حين لآخر في ميناء بندر عباس الإيراني.

الآن ، وفقا لتيرمان، يبدو أن “الحزب الشيوعي الصيني” يسعى للحصول على قاعدة دائمة في الخليج العربي، ويأتي هذا الاعتقاد بناء على تتبع زيادة المشاركة الصينية مع إيران منذ عام 2015، وتوقيع الاتفاقيات بين القطاعين الأمني ​​والعسكري، والآن مع الخليج العربي الذي وفق تقرير ترجمه “الحل نت” لصحيفة “الإيكونوميست”، يشير إلى أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تحول إلى الصين بصفقة سرية لتزويد المملكة بالأسلحة التي تريدها.

كما باعت الصين أيضا طائرات عسكرية بدون طيار للإمارات، من بين دول أخرى، استخدمتها في ساحات القتال في جميع أنحاء المنطقة. وفي آذار/مارس الفائت، وقعت شركة سعودية صفقة مع عملاق دفاعي صيني مملوك للدولة لتصنيع طائرات بدون طيار في المملكة. ويقول عملاء استخبارات أميركيون إن الصين تساعد المملكة العربية السعودية في بناء صواريخ باليستية أيضا.

في هذا السياق، يرى تيرمان أن الطموحات العسكرية المتنامية للصين في المنطقة تتزايد وذاهبة نحو بناء بكين قاعدة لها في الخليج العربي، بهدف جعل كل من إيران ودول الخليج العربي ركائز أساسية لنقاط توسعها في المنطقة، لذا فإن التعامل الحالي لبكين مع الخليج العربي يأتي “مصحوبا بمصلحة من دون شك، وأنه صيد ثمين للحزب الشيوعي الصيني ليس أكثر من ذلك”.

تعليقا على زيارة الرئيس الصيني للسعودية، قال البيت الأبيض الأربعاء الفائت، إن زيارة شي للرياض “مثال على محاولات الصين لبسط نفوذها في أنحاء العالم”، مشددا على أنها لن تغير سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.

لعبة الصين الكبرى في الشرق الأوسط

وكالة الأنباء السعودية “واس” ذكرت أن الشركات الصينية والسعودية وقعت الأربعاء الفائت، 34 اتفاقية استثمارية في الطاقة الخضراء، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات السحابية، والنقل والبناء، وقطاعات أخرى بقيمة حوالي 30 مليار دولار، حيث تسعى الصين إلى النهوض باقتصادها الذي تضرر بفعل جائحة “كوفيد – 19″، بينما تتطلع الرياض إلى تنويع تحالفاتها الاقتصادية والسياسية.

إن انخراط الصين في منطقة كانت ذات يوم منطقة هامشية في حساباتها الاستراتيجية الدولية تثير الشكوك، فمع هيمنة وكلاء إيران مثل جماعة “الحوثي” والميليشيات التابعة لها في سوريا والعراق على الأحداث الإقليمية، رأت بكين فرصة لتعزيز قدراتها كمورد للأسلحة، وبيع ما قيمته أكثر من 6 مليارات دولار من الأسلحة للطرفين الرئيسيين وشراء عقود توريد أسلحة مربحة مع دول المنطقة الأخرى، طبقا لحديث تيرمان.

مع إدراك السعودية لتزايد خطر طهران ووكلائها، لجأت إلى بكين للحصول على صواريخ باليستية متوسطة المدى، مما يمثل اختراقا جوهريا في العلاقات الصينية السعودية التي كانت متوقفة، حيث كان هذا الاختراق الدبلوماسي جديرا بالملاحظة بشكل خاص إذ ظلت الرياض آخر دول الخليج العربي، وفي الواقع دولة عربية، تمنح اعترافا دبلوماسيا ببكين.

الآن، ومع اندفاعه نحو التنمية الاقتصادية بأقصى سرعة، أصبحت الرؤية المحلية للحزب “الشيوعي” الصيني تتمحور بشكل متزايد حول الأمن الاقتصادي خصوصا بعد فشله في تحقيق “صفر كوفيد” الذي أضر باقتصاد بلاده على المستوى المحلي والدولي. وبالتالي، لم تعد إمدادات الطاقة المحلية للصين قادرة على تلبية متطلباتها المتزايدة لذا لجأ نحو الترويج لهذه القمة وانعكاسها على دول الخليج العربي، في حين أنها لن تلبي تطلعت دول الخليج بل ستكون صيد ثمين للاقتصاد الصيني، وفق تحليل تيرمان.

هناك قلق واسع النطاق حتى بين الخبراء السعوديين من أن الاتفاق الحالي يمكن أن يشجع بشكل أكبر العدوان الإيراني المتنامي في المنطقة من منطلق الشراكة العميقة بين طهران وبكين. في حين أشار العديد من الخبراء إلى قلقهم بشأن نوايا الصين، وتساءلوا عما إذا كانت بكين ستظل شريكا موثوقا به لدول الخليج العربي. لكن ما يتضح من جميع التعليقات هو أن حالة عدم اليقين تتراكم حول العلاقات الصينية السعودية، خصوصا مع ظهور ثغرات في استراتيجية الصين ما يطرح أسئلة حول نوايا بكين وموثوقيتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة