بعد نحو ثمانية أعوام من القطيعة التي سببها دعم تركيا لـ”جماعة الإخوان المسلمين” المصرية، عقب لجوء قياداتها إلى إسطنبول إثر الإطاحة بحكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي عام 2013، وفي الوقت الذي تغازل أنقرة نضيرتها القاهرة بعد توتر العلاقات الثنائية، الذي وصل حد استدعاء الدولتين لسفرائهما، وصولا إلى اعتبار الطرفين سفير كل منهما لدى الآخر شخصا غير مرغوب به، لتستمر الدولتين في العمل منذ ذلك الحين بمستوى تمثيل دبلوماسي منخفض طوال الأعوام الثمانية الماضية، بدأ السؤال الأهم يبرز حول إصرار تركيا على إعادة تطبيع العلاقات.

السؤال بدأ منذ لحظة لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المفاجئ مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في العاصمة القطرية الدوحة خلال مشاركتهما في افتتاح بطولة كأس العالم، ثم تصريحاته المتكررة عن الرغبة في تحسين العلاقات مع مصر وسوريا، وذلك بعد أن دأب أردوغان على مدار سنوات على انتقاد مصر وسوريا بشدة، فضلا عن استمرار قواته في التدخل بسوريا، وعلى الرغم من إجراء بلاده محادثات استكشافية مع مصر على مستوى نائبي وزيري خارجية البلدين لتطبيع العلاقات العام الماضي، دون أن تنتج عن حل للأزمة.

تركيا وخلافاتها مع سوريا ومصر

تركيا ومصر وسوريا تختلف في العديد من الملفات، لكن أبرزها يتمثل في ملف الغاز بشرقي المتوسط وما يرتبط به من ترسيم للحدود البحرية مع اليونان والملف الليبي، بالإضافة إلى المسائل ذات الطابع الثنائي، وفيما يتعلق بانتشار “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وسيطرتها على شمال وشرق البلاد، والذي تعتبره أنقرة أهم النقاط الخلافية مع الحكومة السورية، حيث ترى فيه حسب ادعائها تهديدا لأمنها القومي، بيد أنه حتى الآن لا تبدو ملامح واضحة لطبيعة العلاقة التي ستكون بين تركيا وسوريا خلال المرحلة المقبلة، لاسيما وأن أنقرة لا تنكفئ عن إظهار العداء لدمشق من خلال استمرارها في تنفيذ ضربات عسكرية.

لكن على الرغم من ذلك، لم يخفِ أردوغان مشاعره ونواياه في التقارب مع الحكومة السورية، إذ وجه خلال أسبوع واحد في النصف الأخير من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي رسالتين سياسيتين تتعلقان بطبيعة علاقة بلاده بدمشق، وبينما أعلن لمرتين أنه لا خلاف أبدي في السياسة وأنه يمكن أن يلتقي الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما دعمه فيه حليفه دولت باهشتلي زعيم حزب “الحركة القومية” التركي، بالقول “يجب فتح لقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية، وتشكيل إرادة مشتركة ضد المنظمات الإرهابية”.

اقرأ/ي أيضا: انفصال إقليم أزواد.. تصعيد جديد في مالي؟

التحركات التركية تلك، دفعت الكثيرين للتساؤل عن أسباب توجه تركيا إلى تصفير المشكلات مع خصومها، على غرار السياسة التي انتهجها أردوغان في بداية توليه الحكم قبل أقل من عقدين، حيث سارع في غلق جميع الخلافات التي كانت تخوضها أنقرة، وهو ما أثار السؤال حول إذا ما كانت المحاولات الحالية لتطبيع العلاقات مع مصر وسوريا هي بهدف إعادة الهدوء إلى المنطقة، أو بغية خوض أردوغان انتخابات أكثر هدوء.

بالتالي، يبدو أن تركيا ماضية في إعادة ترميم جميع علاقات الخارجية، لاسيما مع الدول التي تمتلك معها ملفات حساسة واستراتيجية مثل مصر وسوريا، كما يقول المهتم في الشأن السياسي أواب البياتي، مضيفا أن الرئيس التركي قد أدرك مؤخرا خطر سياسته العدائية ضد الدول التي يمتلك معها مصالح اقتصادية وأمنية، وهو ما يدفعه بقناعة تامة إلى إعادة إصلاحها لاسيما قبل الدخول في الانتخابات التي يستعد لخوضها في منتصف العام القادم.

أردوغان وتأمين المحيط الإقليمي

البياتي أشار في حديث لموقع “الحل نت“، إلى أن الرئيس التركي وخصوصا في السنوات الخميس الأخيرة، لم يخفي حدته في التعامل مع الملفات الخارجية، والتي كان لمصر وسوريا النصيب الأكبر منها، حيث استمر في دعم خصوم الرئيس المصري ومعارضيه وإطلاق التصريحات العدائية ضده، بالإضافة إلى ما فعله تجاه سوريا، من شن عمليات عسكرية كانت أحيانا تتسبب بمقتل عناصر من الجيش السوري، غير أن ذلك انعكس بشكل كبير على مستقبله الرئاسي، تحديدا بعد تفاقم أزمات بلاده الداخلية وخصوصا الاقتصادية وهبوط سعر الليرة التركية إلى مستويات متدنية جدا، فضلا عن ارتفاع التضخم.

تلك الأسباب أثرت بشكل كبير على قناعات الشعب التركي في الرئيس أردوغان، لذا يود إعادتها إلى شكلها الطبيعي مع دخوله سباق الانتخابات، حسبما يقول البياتي، ويبين أن خلق محيط إقليمي أكثر هدوء واستقرارا يمكن أن يمنح الرئيس التركي ميزة مضافة في الانتخابات المقبلة، فضلا عن ذلك ما يمكن كسبه من سياسة الهدوء التي يمكن أن تحقق له مطامحه الاقتصادية في البحر المتوسط وقد تحيد حليفا قويا مثل مصر عن دعم خصومه في اليونان.

اقرأ/ي أيضا: كوريا الشمالية بحاجة الدولار الأميركي.. مؤشر على وجود مشكلة؟

إضافة إلى ذلك، فإن العامل الأمني الذي يسعى أردوغان إلى تحقيقه فيما يتعلق بالمشكلات على الحدود السورية هو أمر قد يكون في غاية الأهمية لحكومة أنقرة، لاسيما مع الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها، والتي تتهم فيها جماعات قد تكون عبرت عن طريق الحدود مع العراق أو سوريا، ما سيعود بشكل إيجابيا على صورة الرئيس التركي قبيل خوضه الانتخابات، وفقا للبياتي.

في مقابل ذلك، يربط خبراء بنوايا تركيا في تصفير مشكلاتها الإقليمية والخارجية بملف الانتخابات، من خلال شعور الحكومة السورية بذلك، حيث رفضت دمشق طلب أنقرة بترتيب لقاء بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، مؤكدة أنها تفضل تأجيله لما بعد الانتخابات التركية، وذلك بحسب تصريحات صحفية لعضو “هيئة القرار والتنفيذ المركزي” لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا أورهان ميري أوغلو، وأكدت تلك التصريحات ما ورد في تقرير لوكالة “رويترز” نشر السبت الماضي، ونقل عن مصادر سورية أن “الأسد يقاوم جهودا روسية لعقد قمة تركية  سورية”.

جذور الخلافات

على الجانب الآخر، كان الخلاف المصري التركي قد بدأ في أعقاب موقف أنقرة من إطاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، وكان اتفاق ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني بين تركيا وليبيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 نقطة فاصلة في تأجيج الصراع، خصوصا أن الاتفاق الأمني اتخذته أنقرة ذريعة لدعم القوات العسكرية التي كانت تساند “المجلس الرئاسي” الليبي في مواجهة الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر.

غير أنه ومع بداية عام 2021 شهدت العلاقات بين البلدين بعض التحسن، وكانت أولى بوادرها تصريحات أردوغان في آذار/مارس من العام ذاته بأن البلدين أجريا اتصالات استخباراتية ودبلوماسية واقتصادية وبأنه يرغب في علاقات قوية مع القاهرة، وبعد ذلك بأسبوع طلبت الحكومة التركية من ثلاث قنوات مصرية مقرها إسطنبول وتقول القاهرة إنها مرتبطة بـ”جماعة الإخوان” المصنفة إرهابية في مصر، وقف بعض برامجها السياسية وخطابها المعادي للسلطات المصرية، كما تحدثت وسائل إعلام عربية عن إغلاق تركيا ما وصفته بمقار لـ”الإخوان” في البلاد.

في سياق ذا صلة، وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية بدت ملامح الرؤية التركية بشأن الملف السوري، محصورة بعدة أهداف، من بينها إبعاد أي تهديد لأمنها القومي على طول الحدود الشمالية من سوريا، بينما تصاعد الحديث وبشكل كبير مؤخرا عن ملف اللاجئين والمنطقة الآمنة، الخاصة بهم، فيما بدأت قناعتها بشأن الرئيس السوري بشار الأسد الذي كانت طوال السنوات الماضي بعد العام 2011 تدعم رحيله تتغير شيئا فشيء.

علاوة على ذلك، لطالما أعلنت أنقرة مرارا أنها تدعم العملية السياسية الخاصة بسوريا، وأنها تؤيد أيضا مخرجات مسار “أستانا“، فيما أصدرت الخارجية التركية في آب/أغسطس بيانا حددت فيه سياسة أنقرة في سوريا، وجاء في البيان أن تركيا التي توفر الحماية المؤقتة لملايين السوريين، تواصل الإسهام الفعال في الجهود المبذولة لتهيئة الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين وإيجاد حل للنزاع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.