في خضم ما تعيشه القارة الإفريقية من الاضطرابات الداخلية وحالة عدم الاستقرار، وسط التهديدات بزيادة أنشطة الجماعات المتطرفة والصراعات الداخلية، لا تنفك روسيا في محاولاتها في مدّ نفوذها داخل دول القارة، معتمدة بذلك على دعم الانقلابات العسكرية والأنظمة الديكتاتورية والتعاقد مع العديد من الشركات والكيانات العسكرية عبر مرتزقتها، مجموعة “فاغنر” العسكرية.

العديد من التقارير أشارت إلى توسع الحضور الاقتصادي لمجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية على الساحة الإفريقية، حيث نشرت وكالة “الأخبار البلجيكية” في الثاني من كانون الأول/ديسمبر الجاري، تقريرا عن تورط مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية في عمليات تجارة وتهريب الألماس من جمهورية إفريقيا الوسطى إلى بلجيكا.

هذا الأمر يدفع بتساؤلات حول حدود التوسع الاقتصادي لمجموعة “فاغنر” في القارة السمراء، والهدف من هذه الهيمنة الاقتصادية، وما إذا كانت مقدمة لإخضاع السلطات الحاكمة هناك فيما بعد، فضلا عن العوامل التي تعتمد عليها “فاغنر” في زيادة وجودها الاقتصادي في القارة، بالإضافة إلى السؤال الأبرز وهو لماذا تريد روسيا الاستيلاء على القارة السمراء من خلال مرتزقة “فاغنر” على وجه الخصوص، وما يترتب على ذلك من تبعات ككل.

عوامل التدخل والتمدد الاقتصادي

وفق التقارير، أواخر عام 2021، وصلت قوات “فاغنر” إلى دولة مالي غربي إفريقيا، للعمل ظاهريا مع القوات الفرنسية على مجابهة تزايد عنف الحركات الإسلامية الذي انتشر في معظم أرجاء المنطقة، لكن توترا حادا اشتعل على خلفية العنف المتصاعد بين “المجلس العسكري” المالي وفرنسا صاحبة الامتداد التاريخي في المنطقة، أدى إلى انسحاب الأخيرة، لتستغل روسيا ذلك جيدا لتعزيز نفوذها وملء الفراغ الذي خلفته فرنسا.

بعد مالي جاء الدور على بوركينا فاسو التي سعت روسيا إلى تكريس وجودها داخلها كنقطة مرتبطة بمالي، وهو ما حصل نسبيا، لاسيما بعد تصاعد موجة الغضب ضد الفرنسيين، لتتنقل موسكو إلى مرحلة أبعد من ذلك بالتركيز على دولة النيجر، بالتالي أثارت هذه التحركات حفيظة باريس وعدد من دول الاتحاد الإفريقي.

تاريخيا تُعد منطقة غرب إفريقيا محل تواجد فرنسي تاريخي، إذ تُعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها من الدول المحيطة لها مستعمرات فرنسية، غير أن روسيا تحاول خلق منطقة صراع جديدة من خلال تدخلها في الغرب الإفريقي، كذلك بمحاولة لإحكام قبضتها على مصادر الطاقة التي تعد المنطقة إحدى أهم حاضناتها، وهو ما مثل “نذير شؤم” على المنطقة، وبادرة إلى صراع وكالات يمكن أن ينتج عنه هذا التدافع.

كذلك، مجموعة “فاغنر” الروسية، اعتمدت في تنويع مصادر تمويلها وفي حضورها الاقتصادي في القارة الإفريقية بمداخل عديدة، لعل أبرزها تنويع حالات توقيع عقود الحماية الأمنية، بجانب عقد صفقات سياسية لحماية المسؤولين مقابل الاستيلاء على ثروات المنطقة وغيرها العديد من الأساليب، وفق تقارير غربية.

قد يهمك: اختفاء الشباب في زنجبار الإفريقية.. مؤشر على تنامي الإرهاب؟

صحة هذه المعلومات أكدها الباحث السوداني المتخصص في الشؤون الإفريقية، الدكتور محمد تورشين، لموقع “الحل نت”، حيث قال إن جميع التقارير التي أشارت إلى الأنشطة الاقتصادية لـ “فاغنر” في القارة صحيحة، بحكم تواصله مع مجموعات داخل إفريقيا.

الفكرة الهامة في تقدير تورشين، ليست مجرد هيمنة روسية اقتصادية بل “تأثير الشراكات الجيواستراتيجية”، عبر التنقيب عن الثروات المعدنية النفيسة بشكل عام، وخاصة الألماس والذهب، وبالتالي فإن ثراء القارة بالمعادن الثقيلة، إلى جانب وجود الجماعات المتمردة التي تقاتل السلطات الحاكمة هناك، يساعد في تمدد روسيا لتهيمن على اقتصاد المنطقة.

أما الباحث السوداني في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، الدكتور عماد الدين حسين بحر الدين، اتفق مع الرأي ذاته وأكد وجود مجموعة “فاغنر” في القارة السمراء، وبطلب من رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى الحالي، فوستان آرشانج تواديرا، نتيجة الاضطرابات الأمنية التي حدثت في المنطقة سابقا، لذلك استعان بتواديرا بالروس الذين تدخلوا من جانبهم عبر ميليشياتهم لحمايته مقابل الهيمنة والاستيلاء على المنطقة؛ لما تحتويه من معادن ثمينة للغاية.

كذلك، العوامل التي تعتمد “فاغنر” عليها في زيادة وجودها الاقتصادي في القارة الإفريقية، حسب اعتقاد تورشين، هي أن ظروف روسيا أقل تشددا من الظروف الغربية، خاصة في مجال التسلح وما إلى ذلك. وبالتالي، فإن هذا العامل هو الأفضل في مجال التسلح العسكري لهذه الدول. إضافة إلى المشاكل السياسية والأمنية التي تعاني منها هذه الدول والتي من شأنها تمهد الطريق لدخول الروسي إلى هذه الدول.

بحر الدين الذي تحدث أيضا لموقع “الحل نت”، بحسب قوله، تعتمد مجموعة “فاغنر” على زيادة حضورها الاقتصادي على التقدم التكنولوجي الروسي في مجال الأسلحة، وخاصة الجوي. وبالتالي بيع وتصدير الأسلحة الروسية لتلك المنطقة، يعد من أهم عوامل التمدد.

“فاغنر” الروسية تعتمد على تنويع مصادر تمويلها، على نسبة محددة من الذهب والألماس مقابل خدماتها الأمنية في جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو ما أكده رئيس القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا “أفريكوم” ستيفن تاونسند، في شباط/فبراير الماضي، بأن “فاغنر” ومالي تعاقدتا على أن تدفع الأخيرة للأولى 10 ملايين دولار شهريا، معتبرا أن مالي سيتعين عليها “أن تتاجر بالموارد الطبيعية كالذهب والأحجار الكريمة من أجل دفع هذا المبلغ”، بجانب عقد صفقات سياسية لحماية المسؤولين هناك.

العديد من التقارير أكدت على حصول شركة “فاغنر” على نسبة 78 بالمئة من أسهم الشركة الوطنية المسؤولة عن تعدين الذهب وتكريره “مارينا جولد” في مالي.

هذا وتعتبر مالي ثالث أكبر منتج للذهب في القارة الإفريقية بعد غانا وجنوب إفريقيا، وبلغ إنتاجها من الذهب 63.4 طن خلال عام 2021. وتمتلك البلاد فضلا عن ذلك بحسب وزارة المناجم المالية “مليوني طن من خام الحديد، و5 آلاف طن من اليورانيوم، و20 مليون طن من المنجنيز، و4 ملايين طن من الليثيوم، و10ملايين طن من الحجر الجيري”.

أسباب رغبة موسكو بالهيمنة الاقتصادية

في إطار أسباب رغبة روسيا في الاستيلاء على القارة السمراء عبر مرتزقة “فاغنر” تحديدا، يقول تورشين، إن مجموعة “فاغنر” هي مرتزقة وميليشيات، لكن لا يوجد اعتراف رسمي بأنها تابعة لروسيا، رغم أن الجميع يعلم بأنها تابعة لموسكو والتي من جانبها تنفي ذلك، وهذه الجماعات المرتزقة لا تعمل ضمن أطر القوانين والاتفاقيات الدولية، فمن السهل ارتكاب العديد من الانتهاكات والتجاوزات الإنسانية، ومن الصعب فرض عقوبات دولية على روسيا على إثره، لذلك تتجنب موسكو التدخل من خلال جيشها النظامي، وفضلت التدخل والتوسع عبر مرتزقة “فاغنر” تجاه كثير من دول القارة السمراء.

قد يهمك: “عدو لم يكن بالحسبان”.. فقدان آدم يبال بداية لانهيار حركة “الشباب” الصومالية؟

في حين قال بحر الدين، حول رغبة موسكو بالهيمنة حسب وجهة نظره، إنه “قد يكون بهدف الاستيلاء على ثروات المنطقة والاستثمار فيها، إلى جانب الهيمنة الروسية العالمية التي طالما تحلم بها”. لكن، لا يمكن لروسيا إخضاع السلطات بالاستيلاء على اقتصاد المنطقة، بل يمكنه بناء تحالفات معهم.

انعكاسات ضد “فاغنر”

إن تمدد “فاغنر” وتعزيز حضورها الاقتصادي في القارة السمراء، يمكن أن يخلق تبعات وانعكاسات، لعل أبرزها زيادة فرض العقوبات الدولية على الأفراد المرتبطين بها، لكن نظرا للهياكل المالية للمجموعة التي تبدو معقدة ومبهمة عن قصد يعتمد معظمها على الشركات الواجهة لإخفاء عملياتها وأصولها؛ حيث تضم المجموعة شبكة فضفاضة وسرية من الشركات والوسطاء الماليين الذين لديهم روابط مع مديرها يفجيني بريجوزين، والدولة الروسية.

هذا الهيكل الفضفاض يضعف من فاعلية العقوبات وغيرها من سياسات الاستهداف المالي، التي يمكن للشركات العسكرية الخاصة تجنبها من خلال تغيير هيكلها وإعادة توجيه أنشطتها المالية والتعتيم عليها؛ لذلك يرى العديد من الخبراء الأمنيين أن توسيع العقوبات سيكون مفيدا للغاية باعتبارها إحدى الاستراتيجيات الهامة لتعطيل العمليات الاقتصادية والمالية لـ”فاغنر”، بحسب موقع “إنترريجونال” للتحليلات الاستراتيجية.

بالإضافة إلى التوجه الغربي إلى تصنيف “فاغنر” ككيان إرهابي، توجد هناك عدة مطالب متصاعدة من جانب مسؤولين عسكريين وسياسيين في الولايات المتحدة لتصنيفها ككيان إرهابي، الأمر الذي من شأنه أن يقلص تكلفة التعامل معها، ويتوقع معه أن يدفع الدول والشركات والمؤسسات في إعادة النظر في إقامة علاقاتها مع “فاغنر” والتعامل معها على أنها منظمة إرهابية، وأن هناك فوائد عديدة لهذا التوجه، وأهمها الحد من وصول “فاغنر” إلى الموانئ والموارد الطبيعية.

التبعات الدولية

بحسب بحر الدين، فإن التمدد الروسي عبر “فاغنر” له تبعات سلبية دون حراك غربي، وتحديدا فرنسا، حيث سيؤدي هذا حتما إلى تقليص الدور الغربي والفرنسي على وجه الخصوص، فضلا عن الوجود الأميركي، فإذا لم يكن هناك رادع للتوسع الروسي سيكون هناك بالتأكيد سيطرة روسية على مناطق واسعة من القارة، مما سيعزز مكانتها الدولية.

لأجل ذلك كله، يبدو أن موسكو عبر مرتزقتها “فاغنر” لا تتوقف عن استهداف البلدان الهشة سياسيا وأمنيا والغنية بالموارد سواء في القارة الإفريقية في الشرق الأوسط وغيرها، لتحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية.

بالتالي إذا لم تعيد الدول الغربية النظر في رؤيتها تجاه القارة، وكذلك ملف التعاون مع حكومات الدول الإفريقية، يعتقد ويرجح أن روسيا سيكون لها حضور وتأثير فاعل في السياسة الدولية، وتحديدا في ملف القارة السمراء، والآن العالم أمام تحدٍ حقيقي للتوغل وهيمنة روسيا في القارة السمراء، لذلك يتطلب تحرك الدول الغربية وإحداث شراكات جيواستراتيجية لوقف هذا التمدد.

التوسع الروسي في المنطقة دون تحرك غربي وتحديدا فرنسا، حتما سيقلص الدور الغربي والفرنسي تحديدا، وكذا التواجد الأميركي، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، روسيا ترغب بفرض هيمنة عالمية على العديد من الدول، بالتالي إن لم يكن هنالك رادع للتمدد الروسي، فبالتأكيد سيكون هناك استيلاء روسي على مناطق واسعة من القارة والتي سيعزز من مكانتها الدولية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة