الزلزال المدمّر الذي ضرب كلّا من تركيا وسوريا، في 6 شباط/فبراير الجاري، بقوة 7.8 درجة على مقياس ريختر، بلغت حصيلة ضحاياه قرابة الـ 50 ألفا. زلزالٌ جعل القوى المنخرطة عسكريا في سوريا تنشغل بالكارثة وتداعياتها، وخاصة القوات المحلية؛ الحكومة السورية وفصائل “الجيش الوطني” المدعومة من أنقرة.

بالنظر إلى هول الدمار الذي خلّفه الزلزال، تقول بعض التحليلات المعنية بالشؤون الأمنية والاستراتيجية إن هذا الزلزال من شأنه أن يعيد تشكيل الأولويات السياسية في المستقبل، حيث ستتصدرها أولوية إعادة الإعمار للمناطق المنكوبة في كلا البلدين. وعلى الأرجح، ستلعب الأطراف المانحة لتمويل عملية إعادة الإعمار دورا في إعادة تشكيل خريطة الأزمة السورية، على خلاف الترتيبات السياسية والأمنية التي كانت قيد التشكل قبل وقوع الزلزال، ومنها التقارب ما بين أنقرة وحكومة دمشق، وإعادة الانتشار العسكري لمختلف القوى المنخرطة على الساحة السورية.

في ضوء ذلك تثار عدة تساؤلات حول مدى تأثير الزلزال على الخريطة الأمنية في الساحة السورية، بالإضافة إلى مدى انشغال تركيا بكارثة الزلزال، وكيف ستنعكس على المناطق الشمالية، إذ إنه حتى وقت قريب كانت تركيا تهدد باجتياح مناطق جديدة في الشمال السوري. وأخيرا، إذا ما ثمة تحرك من قِبل الحكومة السورية للسيطرة على مناطق أخرى، والهيكلية المتوقعة للخريطة الأمنية السورية.

مدى تأثير الزلزال

في حين حولت تركيا تركيزها بشكل أساسي على إعادة الإعمار في مناطقها المتضررة، ظل الوضع السوري يتأرجح بين انتهازية الحكومة السورية من الاستغلال السياسي للزلزال بغية إعادة تعويمها، سواء كان عربيا أو دوليا، والأمل في أن تُسهم الكارثة في تخفيف حدّة العقوبات الغربية، وجهود وكفاح مناطق شمال غربي سوريا خلف المساعدات الإنسانية لمواصلة حياتهم بأي شكل من الأشكال، لا سيما بعد الخذلان الأممي في الاستجابة الإنسانية للكارثة في مناطق شمال غربي سوريا، حيث تسيطر فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من أنقرة.

منذ وقوع الزلزال وتضرر مناطق واسعة في سوريا، اتهم العديد من النشطاء والمنظمات الحقوقية والمدنية الحكومة السورية بمحاولة استغلال الأزمة بالضغط وابتزاز المجتمع الدولي فيما يتعلق بالمساعدات، فضلا عن تعزيز تمدّد الوجود الإيراني في بعض المناطق. عربيا ظهرت العديد من الأصوات التي تنادي من أجل إعادة سوريا ضمن المجتمع العربي، وإعادة العلاقات مع دمشق، وهو ما حذّرت منه الولايات المتحدة في العديد من التصريحات السابقة.

خريطة الانتشار والنفوذ العسكري على الساحة السورية قبيل وقوع الزلزال، تشير إلى ثبات أغلب مناطق السيطرة والنفوذ على مدار العامين 2021-2022 وحتى مطلع العام 2023 بواقع سيطرة الحكومة السورية، على قرابة 63 بالمئة من مساحة البلاد، حيث تدعمها إيران وروسيا. فيما تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من “التحالف الدولي” بقيادة واشنطن على نحو 25 بالمئة منها، بينما تسيطر فصائل المعارضة المدعومة من تركيا على نحو 11 بالمئة تقريبا، لكن خلف خريطة السيطرة والنفوذ المحلية هناك خريطة أكثر تعقيدا للقوى الخارجية التي تلعب دور القيادة وتُعتبر هي المحرك الفعلي لإدارة ديناميكيات الأزمة، على نحو ما سلفت الإشارة.

بشكلٍ عام، تجمدت التحركات العسكرية نسبيا، مع تأكيد الأطراف على إظهار القوة في تثبيت مناطق النفوذ والسيطرة لعدم استغلال الوضع الراهن في إحداث تغيير، لكن عمليات السيطرة على المعابر لإدخال المساعدات إلى المناطق المنكوبة تعكس طبيعة الوضع الميداني في سوريا، ومعادلات موازين القوى ومقاربات العلاقات ما بين كافة الأطراف، والتي تشير إلى عدم مرونة اللاعبين المحليين في التعاطي مع الزلزال بالقدر الكافي من جهة، بينما يمكن أن يكون دور القيادة للفاعلين من الخارج أكثر مرونة في ممارسة الضغوط للاستجابة للأزمة، وفق تحليل لـ”مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية“.

قد يهمك: انعكاسات زيارة الرئيس السوري إلى عُمان.. دلالة على دبلوماسية القـوة الناهضة؟

المحلل العسكري والاستراتيجي، العميد مصطفى فرحات، أشار إلى أن “الجميع يعلم ومجمل الجهات المعنية صرّحت بأن الزلزال سيكون له آثار سلبية جمة وعلى مختلف المستويات”. كما تم توظيف الزلزال سياسيا من قبل الحكومة السورية منذ وقوعه، حيث أكدت وطالبت بأنها الجهة الوحيدة والشرعية لقبول المساعدات الإغاثية، وأنها هي من ستقوم بتوزيع المساعدات على المناطق الخارجة عن سيطرتها.

لكن وجد وبحسب العديد من التقارير والفيديوهات، التي كشفت كيف كانت تُباع هذه المساعدات في الأسواق وعلى البسطات في مناطق سيطرة دمشق، وهذا يعني أن ثمة فساد منذ اليوم الأول من تسليم المساعدات وبالتالي هذا يعني أن دمشق لديها من الفساد والتّفلت ما يكفي لهدر وإضاعة حقوق المتضررين من هذا الزلزال، وفق حديث فرحات لموقع “الحل نت”.

فرحات يقول إنه لا شك أن موضوع إعادة الإعمار والتعافي بالطبع سيكون من أولويات سلطات المناطق المتضررة والحاجات كبيرة وضخمة، والتقديرات تقول إن ثمة احتياجات بما يقارب 200 ألف خيمة اليوم لشمال سوريا فقط، وبالتالي العمل الإنساني جار من خلال المجتمع الدولي لتقديم المساعدات الإنسانية، على الرغم من أنه لا يرتقي لمستوى وحجم الاحتياجات.

غير أن الحكومة السورية تسعى لتوظيف هذه المأساة لصالحها قدرة المستطاع، حتى في الجانب التسليحي من العتاد والذخيرة، وقد تم إدخال  شحنتين إيرانيتين كانتا تحملان أسلحة وذخائر من مطار “النيرب” بحلب، بدلا من المساعدات الإغاثية، والشحنتان كانتا متجهتين لدعم ميليشيات إيران، وفق فرحات.

بمعنى أن إيران أظهرت تواجدها في حلب بدعوى تقديم المساعدة للمتضررين من الزلزال، وبرز ذلك في الزيارة التي قام بها إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني، ليكون أبرز مسؤول أجنبي يتوجه إلى تلك المناطق.

في حين يُعتقد أن إيران تسعى لاستغلال أزمة الزلزال لإعادة التأكيد على نفوذها ودور القيادة الذي يمكن أن تلعبه في المرحلة المقبلة وفق خطة توسيع الانتشار التي تعمل عليها.

سيناريوهات عدة

بالنسبة للموقف التركي، مع الانكفاء على جهود التداعيات الكارثية التي تسبب بها الزلزال، يبدو أنه أرجأ أي احتمالات كانت متوقعة لشن القوات التركية عملية عسكرية برية في مناطق “قسد” كانت تهدد بها أنقرة حتى منتصف كانون الثاني/يناير الفائت، إلا أنها كانت مؤجلة لاختبار مسار التقارب مع دمشق. أما بالنسبة للمعارضة، فقد فاقم انكفاء تركيا على أزمتها بشكل رئيسي من إضعاف وضعها، حيث لا تمتلك تركيا فائض دعم للإغاثة والمساعدة في المناطق المنكوبة.

في إطار مدى سعي الحكومة السورية لاستغلال الوضع ومحاولة السيطرة على مناطق جديدة، يرى فرحات أنه على الرغم من قصفها لبعض مناطق ريف حلب الشمالي الغربي أثناء كارثة الزلزال، لكن من الصعب على دمشق في هذه الظروف كسر الإرادة الدولية والتوافقات الدولية شبه الضمنية على تثبيت الوضع القائم على ما هو عليه، لحين توصل الأطراف كافة إلى حل سياسي شامل للجغرافيا السورية بأكملها.

بالمثل، هناك دعوات بعض الدول العربية لإعادة العلاقات مع حكومة دمشق وإعادة تدويرها إقليميا كبداية، ويبدو أن قمة “جامعة الدول العربية” المرتقبة التي ستعقد في الرياض، ثمة من يعمل سرا لإعادة تعويم الرئيس السوري بشار الأسد. وعلى الرغم من رفض واشنطن للتطبيع وإعادة تعويمه، إلا أنها لا تتسم مع الحدية والإرادة الكافيين لمنع حدوث هذا التطبيع، لكن لا يُعرف إلى أي مدى سيكون هناك عودة للعلاقات والتدوير، بحسب تعبير فرحات.

إذاً، مناطق شمال شرقي وشمال غربي سوريا، والمناطق حكومة دمشق، سيبقى الوضع الأمني فيها على ما هو عليه، طالما أفق الحلول السياسية السورية غائبة، وبالتالي الوضع الهيكلي سيبقى قائم مثل ما هو، على الرغم من محاولات الحكومة السورية توطيد العلاقات مع العديد من الدول المجاورة والعربية منها، بغية السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، ولكن هذا الأمر بعيد المنال، طالما أن القوى الدولية متفقة بشكل شبه ضمني على الخريطة الأمنية بالشكل الحالي، بحسب تقدير المحلل العسكري والاستراتيجي.

تحليلات أخرى تقول إن العوامل السياسية ستشكل نقطة الانطلاق لإعادة هيكلة الأزمة السورية، انطلاقا من متغير الموقف التركي، حتى وإن لم تتغير الحسابات التركية على الساحة السورية سريعا، لكن من المؤكد أن فاتورة الأزمة ستدفع أنقرة إلى تغيير هندسة الانتشار على الأراضي سوريا.

قد يهمك: “لا جدوى من عزل سوريا”.. خطوة سعودية نحو إعادة العلاقات مع دمشق؟

عليه، سيكون ملف إعادة الإعمار، والانتخابات التركية، والمتغيرات الخاصة بالسياسة الخارجية لكل من الحكومة السورية وحلفائها، والموقفَين الأميركي والروسي من تلك التفاعلات في جولات “مجلس الأمن” وعلى الساحة السورية، وهي العوامل التي ستشكل مستقبل خريطة الأزمة سياسيا وعسكريا.

مدة تعقيد المشهد السوري

الأمر الأهم هنا أن مناطق سيطرة الحكومة السورية غير مستقرة على كافة المستويات، حيث لا استقرار أمني كامل ولا اقتصادي. فمثلا في درعا حتى اليوم مسلسل الاغتيالات لم يتوقف وعلى إثره يوجد استنزاف كبير لجيش الحكومة السورية، حيث هناك قتلى بشكل شبه يومي، فما بالبال إذا ما سيطرت دمشق على مناطق جديدة، وهذا إن دل على شيء، فهو أنه لن يكون هناك استقرار في سوريا ما لم يتحقق حل سياسي شامل يرضي كافة الأطراف والطوائف والقوميات والأديان في سوريا.

مثالا على عدم توافق الأطراف داخل الساحة السورية حتى اليوم، وإلى أي مدى أفق الجلوس على طاولة الحوار وإيجاد حلول للأزمة السورية معقد، عادت قافلة مساعدات كانت قادمة من المنطقة التي تسيطر عليها “قسد” في سوريا إلى المناطق التي ضربها الزلزال في الشمال الغربي للبلاد، وفشلت في الوصول إلى من هم في حاجة إليها في أحدث مثال على تعقيد المشهد السياسي بسبب العداوات الناجمة عن الحرب السورية الدامية منذ أكثر من 11 عاما.

صحيح أن دمشق وافقت على إعادة فتح معبرين حدوديين إضافيين من أجل مرور مساعدات “الأمم المتحدة” الى شمال غربي سوريا، لكن هذه البادرة فارغة إلى حد كبير، لأن الاتفاق اقتصر على ثلاثة أشهر فقط، وهي فترة غير كافية لمثل هذه الكارثة الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع دمشق بسجل حافل في تحويل المساعدات التي تمر بين يديه إلى سلاح، بما في ذلك المساعدات المخصصة للمناطق التي لم تعد تحت سيطرتها في البلاد.

على الرغم من أن الزلزال وتوابعه سيلقي بارتداداته على خريطة سوريا سياسيا وعسكريا، إلا أن هذه التداعيات المحتملة لن يكون من بينها حدوث ثمة خرق في الوضع السوري المأزوم بل من الممكن الاتجاه نحو انفراجة مرحلية، مع الأخذ في الاعتبار الجوانب الصعبة والمعقدة التي سيفرضها واقع ما بعد الزلزال على أكثر من جانب اقتصادي وجيوسياسي. كما أن الحل السياسي العادل والشامل للبلاد بعيد كل البعد، طالما أن دمشق لا تسعى للانخراط أو بالأحرى الانفتاح في حوار سياسي جاد مع الأطراف المحلية والخارجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.