لا أحد يعرف تماما، ما إن كان غضبا أو قلقا من أن تطاله يد القضاء هو الآخر. لكن الواضح جدا أن الأمر كان جرس انذار مبكر، حيث دفعه للخروج عن صمته، فقد بدا رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي في موقف لم يعتد على أن يكون فيه. عندما قرر القضاء العراقي إصدار أوامر قبض بحق أربعة من أهم الشخصيات في فريقه الحكومي السابق، بل ومن ضمنهم، بحسب “فرانس برس” وزير المالية علي علاوي قريب الراحل أحمد الجلبي أبرز عرّابي العملية السياسية ما بعد 2003.

القرار وعلى ما يبدو منذ لحظته الأولى لم يكن قضائيا خالصا، فبحسب مراقبين، قد احتمل دوافع وأبعاد سياسية، في الوقت الذي يشير أيضا إلى مستوى العِداء الذي يكنّه خصوم الكاظمي له، وذلك من خلال استهداف شخصيات ومنذ اللحظة الأولى لحكومته عام 2020، أبرزهم رائد جوحي مدير مكتب الكاظمي السابق، إضافة لوزير المالية، والسكرتير الخاص أحمد نجاتي، والمستشار السياسي مشرق عباس. والأخير كان طيلة رئاسة الكاظمي محل جدل واتهامات واسعة.

بالنظر إلى ذلك، ومع ردة فعل الكاظمي الذي أدار جهاز المخابرات العراقي لأكثر من خمس سنوات وتولّيه المنصب التنفيذي في البلاد لأكثر من عامين، فعلى ما يبدو أنه يدرك تماما ما وراء ملاحقة أهم أعضاء فريقه، وهو ما دفعه للإشارة إلى ضرورة الابتعاد عن الاستهدافات السياسية، ملوّحا بورقة ضغط بدت مستغربة من قبل الجميع؛ إذ طالب القضاء بالكشف عن الشخصيات الحقيقية التي تقف خلف سرقة أموال العراقيين، وذلك في سياق دفاعه عن أعضاء فريقه الذين اتهمهم القضاء بقضية “سرقة القرن”، ليثير ذلك سؤالا مهما؛ ما بجعبة الكاظمي، وهل ذلك مؤشّر على بداية صراع سياسي جديد.

تفاصيل ليلة القبض على فريق الكاظمي

إلى ذلك، كانت هيئة النزاهة في العراق قد أعلنت مساء الجمعة الماضي، أن القضاء أمر باعتقال 4 مسؤولين سابقين في حكومة مصطفى الكاظمي بتهمة تسهيل الاستيلاء على 2.5 مليار دولار من أموال الأمانات الضريبية، في إطار ما أُطلق عليها بـ “سرقة القرن”.

لجنة التحقيقات بالهيئة قالت في بيان، إن تحقيق محكمة الكرخ الثانية المختصة بقضايا النزاهة أصدرت أوامر الاعتقال بحق المسؤولين السابقين إثر ظهور أدلة جديدة، مضيفة أن الأربعة المشمولين بالقرارات القضائية هم وزير المالية، ومدير مكتب رئيس مجلس الوزراء، والسكرتير الشخصي لرئيس مجلس الوزراء، والمستشار السياسي لرئيس مجلس الوزراء في الحكومة السابقة.

اقرأ/ي أيضا: ذبول أنهار العراق.. كيف يمكن للجفاف الزاحف أن يسبب الأزمة القادمة؟

في حين لم يذكر بيان لجنة النزاهة أسماء المشتبه بهم، بينما نقلت “وكالة الصحافة الفرنسية” عن مسؤول بالهيئة أن هؤلاء هم علي علاوي، ورائد جوحي، والسكرتير الخاص، والمستشار، فيما أكد المسؤول أن المسؤولين السابقين الذين صدرت الأوامر القضائية باعتقالهم وحجز أموالهم موجودون خارج العراق.

في تشرين الأول/أكتوبر الماضي أثارت قضية “سرقة القرن”، غضبا وسخطا شعبيا شديدا في البلاد، وقد تورط فيها مسؤولون سابقون ورجال أعمال بارزون، حيث تم اختلاس 2.5 مليار دولار بين أيلول/سبتمبر عام 2021، و آب/أغسطس عام 2022 من خلال 247 صكا تم صرفها من قبل خمس شركات، ثم سُحبت هذه الأموال نقدا من حسابات هذه الشركات، التي فرّ معظم مالكيها خارج البلاد.

الكاظمي سارع للدافع عن سجّله في مكافحة الفساد، مشيرا إلى أن حكومته هي التي كشفت الستار عن هذه القضية وفتحت تحقيقا بها، واتخذت إجراءات قانونية، ووصف صدور مذكرات اعتقال بحق عدد من مساعديه خلال ترؤسه للحكومة العراقية السابقة بأنه استهداف وتصفية سياسية مبيتة، مشددا على أن حكومته هي أول من كشفت عن “سرقة القرن” واعتقلت متّهمين بها، فيما دعا إلى تحقيق من قبل القضاء يستند إلى تحقيق دولي في القضية.

رئيس الوزراء السابق، أشار من خلال بيان مطول إلى أن “هذا النوع من الإجراءات التنفيذية التي تتخذها جهات تحقيقية مرتبطة بقوى وأحزاب وميول سياسية تفتقر إلى الحدود المقبولة من الاستقلالية، تؤشر إلى نهج سياسي مكشوف في استهداف وتصفية كل من ارتبط بالعمل مع الحكومة السابقة، بصرف النظر عن طبيعة عمله”، مبينا أنه ” كانت إجراءات العزل والإبعاد والتنكيل الإداري التي أقصت مئات الموظفين في الدولة خلال أسابيع معدودة مثالاً لهذا الاستهداف”.

العراق وتحديات الصراع السياسي

موقف الكاظمي، بين أنه لديه تصور كامل عمّا يجري، بل إن محاولة التضيق عليه تأتي في إطار محاولة منعه من ممارسة العمل السياسي، لاسيما وأن البلاد مقبلة على انتخابات تشريعية يفترض أن تكون خلال العام الحالي. الأمر الذي قد يضع البلاد أمام تحديا جديدا، وحول ذلك بيّن المهتم بالشأن السياسي عبدالله الكناني، أن القضية وبكل وضوح وتجرد تحمل أبعادا سياسية ولا يمكن إخراجها من هذا الإطار، خصوصا بالنظر إلى نوعية الشخصيات التي تم تحريك قضايا بحقهم.

الكناني أشار في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن الأمر يبدو واضحا تماما، حيث شملت أوامر القبض الشخصيات التي تقع في دائرة الجدل منذ اللحظة الأولى لحكومة الكاظمي، في حين لم يتم استهداف أي شخصية أخرى بل منهم ما زال يعمل في الحكومة الحالية، لافتا إلى أن الأمر يمثّل استهدافا لتيار بعينه، وإلا لماذا لم يتم استهداف من استمروا في الحكومة الحالية.

كما أن مثل هذه القضايا واردة جدا، بحسب الكناني، الذي لفت إلى أن “هيئة النزاهة” تصدر يوميا عشرات أوامر القبض والاتهامات بحق مسؤولين وشخصيات رفيعة، غير أن تحريك هذا الملف في هذا الوقت يضع مؤشرا على أنه لماذا تم اختيار هذه القضية دون غيرها، على الرغم من وجود عشرات الملفات التي يمكن التحقيق فيها، مبيّنا أن كلمة الفصل ستكون بيد القضاء الذي سيقرر في نهاية المطاف أهلية الدعاوى.

اقرأ/ي أيضا: سعي الجزائر لدور قيادي في مالي.. انخراط متزايد وحفاظ على النفوذ؟

غير أن الكناني يعتقد أن هذه القضية حساسة للغاية ومن الممكن أن تدفع إلى تأزيم المناخ السياسي إذا ما بقي هناك إصرار على تحميلها أبعادا سياسية، مؤكدا أن هذه القضية يجب أن تأخذ مسارها القضائي الطبيعي، وأن تكشف للرأي العام الحقائق التي ينتظرونها، وإلا فإن الاستمرار في الاستثمار فيها من قبل جميع الأطراف بما فيهم الكاظمي سيؤجج صراعا سياسيا محتدما، خصوصا وأنه لاشك من امتلاك الكاظمي لملفات كثيرة يمكنه تحريكها، متسائلا في الوقت ذاته؛ لماذا لا يكشف الكاظمي عن الحقيقة التي يعرفها، مؤكدا أن التلويحات من دون الكشف عن الحقائق ستضعه في دائرة الشك أيضا. 

في الأثناء، ما تزال قضية “سرقة القرن”، التي تُعد من أكبر قضايا الفساد التي شهدها العراق، وتتوالى فصولها منذ أشهر، وتتفاعل، لاسيما مع ما تعلنه الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، عن التطورات المتعلقة بالقضية.

هذا وتم الكشف عن مخطط السرقة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما كشف تدقيق داخلي أجرته وزارة المالية العراقية، أن “الهيئة العامة للضرائب” دائرة الإيرادات الداخلية العراقية، دفعت بشكل احتيالي حوالي 3.7 تريليونات دينار عراقي، أي نحو 2.5 مليار دولار، لخمس شركات.

سياق “سرقة القرن”

المدفوعات التي حصلت عليها الشركات بطريقة احتيالية، سُدّدت بواسطة 247 شيكا، تم صرفها خلال الفترة من 9 أيلول/سبتمبر 2021 و11 آب/أغسطس 2022، من فرع في “مصرف الرافدين” الذي تديره الدولة، والموجود داخل “الهيئة العامة للضرائب”.

الحساب ضم مليارات الدولارات من ودائع الشركات التي كان من المفترض إعادتها إليها بمجرد خصم الضرائب، وكانت الشركات قد قدّمت بيانات مالية محدثة، وأجرى القائم بأعمال وزير المالية آنذاك إحسان عبد الجبار الذي شغل أيضا منصب وزير النفط التدقيق، حيث اكتشف السرقة بعد تلقي شكاوى من شركة نفط لم تتمكن من استعادة ودائعها الضريبية.

بعد ذلك، وعندما استفسر الوزير عن الرصيد المتبقي في الحساب، قالت “هيئة الضرائب” إن به 2.5 مليار دولار، لكن التدقيق كشف أن الرصيد الفعلي تراجع إلى 100 مليون دولار فقط، وكان ذلك أول مؤشرٍ على السرقة الهائلة، لكن قبل التدقيق، كان قسم مكافحة غسيل الأموال في “بنك الرافدين”، قد أعرب عن قلقه لوزارة المالية من المعدل الكبير للسحوبات النقدية.

يشار إلى أنه قبل أسابيع من صرف الشيكات الأولى، أزالت السلطات جزءا رئيسيا من الرقابة، بدعوى أن الشركات اشتكت من فترات الانتظار الطويلة، ووجد التدقيق أن الشركات التي تم تأسيس 3 منها قبل أسابيع فقط من سداد المدفوعات، قدمت مستندات مزورة لتتمكن من المطالبة بالدفعات، ولم يتمكن المدققون من متابعة الأموال لأنه تم سحبها من حسابات الشركات.

على خلفية ذلك، كانت حكومة الكاظمي قد اعتقلت المتّهم الأول بالسرقة المدعو نور زهير، ولكن أفرج عنه أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بكفالة مالية، مقابل جدولة استرداد كامل المبلغ المسروق الذي بحوزته خلال أسبوعين، في حين كانت الحكومة العراقية أعلنت في وقت سابق أنها استردت دفعتين من الأموال المسروقة، وأكدت أنها ماضية في ملاحقة كل المتورطين. 

مع ذلك، وعلى الرغم مما تسببت به أكبر سرقة في تاريخ العراق، يبدو أن تأثيرها لم يتوقف إلى ذلك الحد، فمن المتوقع جدا وفي سياق استمرار استخدامها لتصفية الخصوم، أن القضية ستدفع بالبلاد إلى سيناريوهات أخرى غير متوقعة، تماما مثل ما حدثت السرقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة