العلاقات الصينية الروسية معقدة إلى حد كبير، على الرغم من إظهار الطرفين اتفاقهما على قضايا دولية كبرى، خاصة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والعقوبات المفروضة على موسكو، وسعي الغرب إلى محاصرة الصين اقتصاديا. لكن وفقا للمراقبين، فإن هذا الاتفاق في الواقع ليس سوى غيضٌ من فيض، حيث تتميز العلاقات الثنائية بينهما بالتباعد في عدة ملفات، وخصوصا موقف بكين غير الواضح من الحرب في أوكرانيا.

إضافة إلى  مصالحهما الاقتصادية والصراع على النفوذ في منطقة آسيا، وكذلك في القارة الإفريقية، بجانب العديد من الدول العربية.

بعد زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، الأخيرة لروسيا، ولقائه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، من المرجح أن يؤدي ذلك إلى توسيع العلاقات والشراكات الاقتصادية بينهما بعد أن شهدت التجارة الثنائية ارتفاعا سنويا، لتصل إلى 190.3 مليار دولار، خاصة أينما يزور شي، فإنه يؤسس عقودا وشراكات اقتصادية. ومع ذلك، يقول محللون إن العقوبات الغربية تظل عقبة رئيسية أمام زيادة الاستثمار الصيني في روسيا.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول تداعيات زيادة العلاقات الاقتصادية الصينية الروسية، ومدى احتمال أن تحاصر العقوبات الغربية هذا التعاون الاقتصادي بين بكين وموسكو، إضافة إلى التساؤل الأهم، إذا ما كان لبكين مساعي أو مصلحة في إنقاذ الاقتصاد الروسي من الانهيار نتيجة العقوبات الغربية، أم أنها تحاول استغلال الظروف وليس أكثر من ذلك.

علاقات محدودة

الرئيس الصيني أثناء وجوده في موسكو يوم الثلاثاء الماضي قال إن “بلاده ستستمر في منح الأولوية للعلاقات الاستراتيجية مع روسيا”، واصفا البلدين بأنهما “قوتان كبيرتان”، واستمرت زيارة شي، في روسيا أكثر من يومين فقد بدأت يوم الإثنين وحتى الأربعاء الفائت، وهو يعتبر بأنها تنطوي على منطق تاريخي “لأننا أكبر قوتين جارتين ونحن شريكان استراتيجيان على كل المستويات”، وفق ما نقلته “فرانس 24”.

مع ذلك، يقول مراقبون إن العلاقات بينهما قد تبدو متينة لأن الجانبين فضلوا إظهار ذلك، لكنها معقدة ومتناقضة، إذا ما تم قراءة تاريخ هذه العلاقة قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير عام 2022، وعلى التعاون الاقتصادي بين البلدين، والذي يُعدّ أبرز ما يوحّد الحليفين الإقليميين، والمنافسة الإقليمية بينهما في العديد من الملفات الآسيوية والإفريقية.

التجارة الثنائية كانت قد شهدت بين البلدين زيادة بنسبة 116 بالمئة على مدى عقد مضى. وفي العام الماضي، زادت الصين من استيرادها لمنتجات الطاقة الروسية، بينما زاد اعتماد الأخيرة على المنتجات الصينية من رقائق الكمبيوتر إلى السيارات.

الخبير الاقتصادي، الدكتور رشاد عبده، يقول لموقع “الحل نت”، إن “العلاقات الصينية الروسية استراتيجية، والصين قلقة من انهيار الاقتصاد الروسي، لأنها تخشى أن ينهار اقتصادها أيضا، خاصة وأن الغرب يحاصر الصين اقتصاديا في الوقت الراهن”.

لكن في الوقت نفسه، لا تهتم بكين بأنها تتعامل مع روسيا وتستثمر معها بكثافة على حساب خسارة استثماراتها في “الاتحاد الأوروبي” والولايات المتحدة والتي تقدر بقيمة تريليونات الدولارات. لذلك تسعى الصين إلى اتباع سياسات متوازنة ودقيقة، أي أنها لا تدعم موسكو عسكريا، بل تستورد منتجات الطاقة، بالإضافة إلى الشراكات الاقتصادية والتجارية، وهنا تحقق حالة التوازن التي تطمح إليها، وفق تقدير عبده.

قد يهمك: رهان خطير من بورصة موسكو.. التداول بالليرة التركية لمواجهة مخاوف الإفلاس؟ – الحل نت 

الغرب يحاصر الاقتصاد الصيني لإضعاف تمدد الحزب “الشيوعي” الصيني، بمشاريعه العدائية في العديد من الدول بالعالم، وخاصة الدول النامية والهشّة اقتصاديا مثل سريلانكا والعديد من الدول العربية والموجودة في إفريقيا، حيث تدعمها اقتصاديا ومن ثم تهيمن على موارد وخيرات تلك البلدان، بحجة التخلف عن سداد ديونهم لبكين، والغرب لا يطمح لمحاصرة الصين اقتصاديا لأسباب تنافسية أو إحجامها كليا، ذلك لأنهم يرون الاقتصاد تبادل وتعاون منفعي وليس قطب واحد أو هيمنة أحادية.

الصين تُعتبر أكبر شريك تجاري لروسيا منذ 13 عاما، بينما احتلت روسيا المرتبة العاشرة من حيث القيمة الإجمالية بين الدول والمناطق التي تم تداولها معها العام الماضي بالنسبة إلى الصين. ووفقا لأرقام الجمارك الصينية، ارتفع إجمالي التجارة بين الصين وروسيا بنسبة 29.3 بالمئة إلى 190.3 مليار دولار العام الماضي، مقابل 147 مليار دولار في عام 2021، وفق تقرير لـ”الإندبندنت“.

كما ارتفعت الواردات من روسيا بنسبة 43.4 بالمئة، بينما زادت الصادرات الصينية بنسبة 12.8 بالمئة، وقد عززت في الغالب من خلال زيادة مشتريات الصين من منتجات الطاقة الروسية. وعلى عكس معظم الدول الأخرى، تعاني الصين من عجز تجاري مع روسيا، حيث تعد تجارة الطاقة أهم جانب في علاقتهما.

استثمار واستغلال صيني؟

في السياق، يُعد النفط الخام هو السلعة الأكثر قيمة في التجارة بين بكين وموسكو، حيث يمثل نصف الواردات الصينية، كما تعُد روسيا أكبر مورّد للطاقة إلى الصين وثاني أكبر مصدر للنفط الخام بعد السعودية، بحسب “ساوث تشاينا مورنينغ بوست”.

في الوقت نفسه، ارتفعت الصادرات الروسية من الفحم والغاز الطبيعي، المسال عبر خطوط الأنابيب إلى الصين أيضا في عام 2022.

بينما تراجعت الصادرات الصينية إلى روسيا قليلا في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا مع تقلص الطلب، إذ ارتفعت الشكوك في شأن الشحن والمدفوعات، وعلى رغم تحذير الشركات الصينية من العقوبات الغربية الثانوية إلا أن الصادرات انتعشت بعد ذلك، فقد أصبحت المنتجات الصينية الخيار الأفضل لروسيا، إذ ملأت الشركات الصينية الفراغ الذي خلّفته الشركات الغربية.

الخبير الاقتصادي يقول إن العلاقات الاقتصادية بين بكين وموسكو ستمتد في الفترات المقبلة خاصة وأن هؤلاء ضمن مجموعة دول “بريكس”، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. وبالتالي لن تحاصر العقوبات الغربية هذه العلاقات لأنها متوازنة وضمن الحدود المسموح بها ، كما أن الهند تشتري وتستورد منتجات الطاقة من روسيا ويبيعها للغرب وتستفيد من فرق السعر، بحسب تقدير عبده.

غير أنها إذا خرجت من الحدود المسموح بها، فإن العقوبات ستحاصر بالتأكيد هذه العلاقات وستضع حدا لها، حتى لا يتمكن الاقتصاد الروسي من الاستفادة منها بشكل كبير. ويعتقد عبده أن بكين ليست مضطرة لأن تضع نفسها في موقف الخسارة مع الغرب من أجل هامش ربح صغير في موسكو مقارنة باستثماراتها الهائلة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة.

بمعنى آخر فإن اتفاقيات الشراكة الاستراتيجية والمشاريع الضخمة في البنى التحتية وقطاعات النفط والطاقة بين البلدين ليست بهذا الحجم، أي أن الصين تدرك تماما أن هذا لا يثير كثيرا حفيظة الدول الأوروبية وواشنطن، ولكن الأمر سيختلف لو أنها ذهبت بعيدا عبر تطوير العلاقات العسكرية وتزويد روسيا بالأسلحة. فبكين لن تندفع باتجاه تزويد موسكو بالأسلحة لكن قد تزودها ببعض التكنولوجيات والمواد المرتبطة بالصناعات العسكرية كالرقائق الإلكترونية.

قد يهمك: خطة بكين للتهدئة.. هل يمكن للصين “فعلا” أن تكون وسيط سلام في أوكرانيا؟ – الحل نت 

بالاستناد إلى ما ذُكر، فإن بعض الخبراء يرون أن بكين تحاول استثمار الوضع الجديد الناشئ بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما ترتّب عنه من عقوبات دولية، حيث إن العناوين الاقتصادية جلية ورئيسية في العلاقات بين البلدين، وبكين هي المستفيد الأول منها، وهو ما تؤكده أرقام الميزان التجاري للجانبين وخاصة الصين أحوج لتأمين مصادر الطاقة الروسية التي أصبحت تأخذها بأسعار تفضيلية بعد توقف أوروبا عن استيرادها من موسكو وقد كانت المستهلك الأول لمصادر الطاقة الروسية.

هل تنقذ الصين اقتصاد روسيا؟

في المقابل، يعتقد الدكتور عبده، أن إنقاذ الصين للاقتصاد الروسي يمكن ولكن إلى حد ما، أي أنه ليس مطلقا، لأن ثمة بعض الاحتياجات الصينية في الدول الغربية، كما اتضح في السابق عندما توقف الغاز من روسيا إلى أوروبا، واحتاجت أوروبا إلى توربينات من المصانع الصينية الألمانية، مما يعني أن العلاقات الاقتصادية بين الدول ككل معقدة للغاية. لذلك، لا تأثير للتعاون الاقتصادي على الجانب العسكري، طالما أن علاقات الصين مع الجانب الروسي اقتصادية فقط، وبالتالي لن يؤثر ذلك بشكل كبير على عزلة روسيا الدولية، بحسب تعبيره.

عبده، يرى أن الصين تدعم روسيا اقتصاديا أمام مرأى العالم، لكنها تدعم موسكو بشكل خبيث وخفي في الجانبين الاقتصادي والعسكري، ولكن بشكل محدود جدا، وقد ذكرت بعض التقارير هذا الأمر أيضا، والغرب على علم بذلك ربما، لكنهم لا يريدون قلب الطاولة على بكين فجأة وبشكل كامل، ذلك لأن هذا قد يؤدي إلى تعاون صيني أكبر وعلى كل الجبهات مع روسيا، وهذا ما قد يقود العالم إلى بوادر حرب عالمية ثالثة، إذ يحاول الغرب تفادي هذه التصرفات العدائية لإنقاذ العالم من براثن حرب جديدة.

تأكيدا على عدم نفعية الصين اقتصاديا لروسيا، فإن الاقتصاد الروسي أمام ركود كبير، حتى أن سوق موسكو أغلقت لفترة ما وانخفض “مؤشر نظام التداول الروسي” (آر تي إس) المقوّم بالدولار بنسبة 35 بالمئة منذ بداية العام الماضي وإلى اليوم، ما يجعله المؤشر الأسوأ أداء بين 92 مؤشرا تتبعها مؤسسة “بلومبرغ” عالميا من حيث القيمة بالعملة المحلية، وثالث أسوأ مؤشر من حيث القيمة بالدولار. كما انخفض “مؤشر بورصة موسكو- روسيا” (مويكس أند روسيا) المسعّر بالروبل، بنسبة 44 بالمئة، وهو في طريقه لتسجيل أكبر انخفاض سنوي منذ عام 2008. وفي حال تزايدت الضغوط، قد تخلّف خسائر أخرى. وهذا ما أثّر بشكل كبير على سوق الاستثمار الروسي.

المتابع لـ”بورصة موسكو” خلال العام المنصرم من الحرب الروسية الأوكرانية، سيقول إن انتعاش الفرصة مازال بعيد المنال بسبب العقوبات الغربية، حيث تم نزوح العديد من المستثمرين من السوق الروسية وكذلك الشركات الكبرى، ما جعل الأسهم الروسية الأسوأ أداءً في العالم خلال العام الماضي.

كذلك، موسكو قالت إن الطلب على الليرة التركية في “بورصة موسكو” ارتفع بمقدار 17 ضعفا خلال العام الماضي، بالتالي فإن العقوبات الغربية غيّرت من الخريطة الاقتصادية العالمية، فعلى سبيل المثال دولة مثل الهند لم تكن تشتري النفط الروسي من قبل، ولكن الآن تشتري بسبب سعرها المنخفض وإن كانت بكمية نسبية، ورغم قدرة الصين على شراء كمية كبيرة من النفط الروسي، إلا أنها لا تفعل ذلك، وفقا لمجموعة اعتبارات سياسية.

كذلك، ظهر تأثير العقوبات الاقتصادية كسلاح حربي بشكل كبير في حرب أوكرانيا؛ نتيجة تكاتف الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وحلفائهم في تطبيق تلك العقوبات على روسيا؛ فلم تعد عقوبات بين دولتين فقط. ومن أبرز العقوبات التي أدت إلى شل اقتصاد موسكو، سحب ألف شركة تعمل في مجالات عديدة من السوق الروسية خلال عام واحد، وإيقاف العمل بنظام “ماستر كارد” في روسيا، وفرض عقوبات على 80 بالمئة من البنوك الروسية، وفرض قيود على الصادرات والواردات.

بالنظر إلى كل ما ذٌكر، فإن بكين لن تضع نفسها بمواجهة الغرب، كي لا تواجه مصيرا كارثيا تؤدي لانهيار اقتصادها، لاسيما أن الصين لديها استثمارات بقيمة تريليونات الدولارات في أميركا وحدها، كما أنه لن يكون للصين رد فعل غوغائي أو عسكري، فهي تدرس خطواتها بعناية، وتعلم أن أدواتها ليست قوية أو قادرة على مواجهة الغرب وتحديدا الولايات المتحدة.

هذا وتوقع رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، أن يبلغ التبادل التجاري بين روسيا والصين 200 مليار دولار بنهاية عام 2023. وأردف خلال اجتماعه مع الرئيس الصيني، يوم الثلاثاء الماضي إن حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع في العام الماضي بمقدار الثلث تقريبا، وبلغ نحو 190 مليار دولار، مضيفا “أنا متأكد بأننا سننجز المهمة التي حددتها أنت والرئيس بوتين هذا العام”، حسبما أفادت وكالة “تاس”.

في المحصلة، طالما أن هذه العلاقات محدودة ولا تفيد إلا طمع الصين الاقتصادي والنفوذ التجاري، فإن هامش الاستفادة الروسية ليس مهما، ولكن إذا توسعت هذه العلاقات بشكل كبير، فلن يقف الغرب مكتوف الأيدي، وسيفرض عقوبات على كلا الجانبين، وبالتالي ستكون الصين محاصرة ولا شك أنها سترغب في حماية اقتصادها وليس تدميره.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.