على الرغم من تشكله عام 1982، إلا أن تأثير “حزب الله” اللبناني، على حياة المواطنين والسيادة اللبنانية بدأ يأخذ منحى تصاعديا منذ العام 1990، فمع توقيع اتفاق “الطائف” آنذاك الذي أيده مع التحفظ على بعض بنوده، انخرط الحزب في العملية السياسية غير أنه بقي يقف بصف المعارضة، وبعد ذلك فاز في أول انتخابات برلمانية يشارك فيها في عام 1992 بـ 12 مقعدا وهو أكبر عدد من المقاعد تفوز به كتلة حزبية منفردة، لكنه ومنذ ذلك الحين تحول لأداة لمفاقمة أزمات البلاد.

منذ تلك السنوات، عمل “حزب الله” على إعادة صناعة مفهومه كطرف مقاوم، وفي كل مرحلة كان يعمل على وضع محددات لمفهوم المقاومة تطابق أجنداته وتطلعاته لفرض نفوذه الكامل على لبنان. ففي البداية، وصف الحزب أن هدف المقاومة هو تحرير جنوب لبنان من الجيش الإسرائيلي، الذي دام وجوده فيها من العام 1982 إلى العام 2000، وعلى الرغم من أنه كان ينتظر منه رمي السلاح مع انعدام حجة المقاومة بانسحاب إسرائيل، إلا أن الحزب وجد مبررا لاستمرار حمله.

الحزب استمر بحديثه عن الشماعة الإسرائيلية التي ترفعها جميع حركات “المقاومة” في الشرق الأوسط، وبقي يصر على أن إسرائيل لاتزال تحتل الأراضٍ اللبنانية، ولم يدم ذلك طويلا قبل أن يعلن عن استراتيجيته الجديدة، وهي تبويب فكرة المقاومة بسياسية “الردع”، إلى جانب مبدأ “التحرير” الذي لم يساهم فيه سابقا؛ وواقعا كانت هذه استراتيجية إيران في التمدد حول العالم، وجاء ذلك للمرة الأولى في البيان الوزاري للحكومة اللبنانية في العام 2005، وهي أول حكومة شارك فيها الحزب.

“حزب الله” وضرب السيادة اللبنانية

طيلة تلك المدة، واصل “حزب الله” اللبناني تصعيده الإرهابي، الأمر الذي بدأ يشكل مصدر تأثير كبير على شرعية لبنان كدولة، لاسيما وأنه كان طرفا سياسيا وجزءا من العملية السياسية، بخاصة مع توسع نشاطاته من خلال دعمه للمنظمات الإرهابية في الخارج، الأمر الذي بدأ يؤثر على الاستقرار اللبناني، وحياة المواطنين.

فعلاوة على هذا التحول الذي شهدته نشأت “حزب الله”، وما رافقها من عملية تغليف لفكرة المقاومة، بوصفها رصيد الحزب الأساسي في استدامة دعم الجماهير له. بدأ الحزب يوسع من نشاطاته الإرهابية حتى وصلت بأمر من الدولة الراعية للحزب وهي إيران، إلى الأميركيتين وأوروبا والشرق الأوسط ومع ما تسببت به من قتل مئات الأشخاص، فقد انعكست تلك الأعمال تدريجيا على تزايد بؤس اللبنانيين.

اقرأ/ي أيضا: “قضي الأمر“.. وثيقة مسربة تؤكد اختفاء قاتل هشام الهاشمي من السجن

على ذلك النحو، قوض “حزب الله” السيادة والحكم في لبنان، واستقطب العداء للدولة اللبنانية بشكل غير مسبوق، حتى بات لبنان عرضة للمضايقات والضغوطات الدولية التي بدأت تنهال على لبنان، في الوقت الذي كرس فيه “حزب الله” جهوده مستأثرا بالسلطة ومستغلا وجوده كطرف سياسي لحماية أسلحته وأمواله على حساب الشعب اللبناني.

تقمصا لأدوار المقاومة، استطاع الحزب المدعوم بشكل مباشر من قبل إيران ومن خلال إعادة تفسير فكرة المقاومة بما يتوائم مع المرحلة الزمنة ومصلحة الحزب ومن ورائه طهران، في الحفاظ على طبقة جماهيرية، تضفي الشرعية على أجندته العسكرية التي تمكن من صياغة مفاهيمها في كل مرحلة جديدة. ذلك كله مكنه أساسا في الحفاظ على نفوذه في لبنان.

تدريجيا، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، تصاعد حضور الحزب ومشاركته في السياسة اللبنانية، حتى وصلت ذروة ذلك في الحكومة الأخيرة لرئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري، والتي لم تستمر أكثر من عام.


بالمجمل بات “حزب الله”، القوة الشاملة في بلد ينهار الآن في ظل سلسلة من الأزمات المدمرة يتهم الحزب بشكل رئيسيا في نشأتها، والتي من بينها شلل البنوك وانهيار العملة وتصاعد الطائفية، علاوة على الانفجار الضخم الذي ألحق أضرارا بقيمة 4 مليارات دولار.

الباحث في الشؤون الإيرانية، إسلام المنسي يقول لموقع “الحل نت”، إن وجود “حزب الله” في الحكومة اللبنانية وسيطرته على القرار، ساهم في عزلة لبنان عن باقي الدول العربية، وغياب الدعم العربي الذي كان الاقتصاد اللبناني يعتمد عليه بصورة مستمرة.

المنسي أضاف، أن تورط الحزب وحلفائه في تجارة المخدرات، أدى إلى منع صادرات لبنان في الوصول لدول عديدة، فضلا عن دعمه للإرهاب. عوامل كلها كانت لها آثار سلبية على لبنان، دفع ثمنها الشعب، بينما كان يتمتع “حزب الله” بدعم قوي من إيران.

“حزب الله” ومراحل التحول من مقاومة لحكومة

أما عن مراحل تحول الحزب من حركة مسلحة إلى مشارك في الحكومة ومهيمن على قرارها، أوضح المنسي أن تحول “حزب الله” أدى إلى اصطدامه بأعباء لم يكن مخططا لها ولتحمل مسؤوليتها، الأمر الذي جعله يظهر أمام الشعب اللبناني على حقيقته، بأنه “فقط يتدثّر بغطاء المقاومة، بينما هو يحاول اختطاف الوطن اللبناني وتسخير كل مقدرات البلاد لصالح طهران”.

إلى ذلك، أكد المنسي، أن علاقة “حزب الله” مع إيران أثّرت على مقاربة الحكم في لبنان؛ لأن الحزب مجرد وكيل لإيران، وهذا ما قاله عدد من قياديي الحزب، بأن “إيران في لبنان ولبنان في إيران”، بمعنى أنهم وكلاء للمرشد الإيراني علي خامنئي في لبنان، وليس لهم مقاربة مستقلة.

اقرأ/ي أيضا: مسلسل “دفعة لندن“.. يثير غضب العراقيين ويشعل جدلا مع الكويتيين

فيما يخص إخفاقات “حزب الله” ببناء الدولة في لبنان، فإن الحزب وفق المنسي، لا يعترف بمفهوم الدولة في لبنان، ولا يعترف بمفهوم السيادة، بمعنى أنه يختطف قرار الدولة، إذ يملي قراراته على الحكومة، ما أدى إلى هيمنة دويلة الحزب على الدولة اللبنانية بأكملها.

لذلك تورط “حزب الله” في صراعات المنطقة، وفقا للمنسي، ما أدى إلى استنزاف رصيده لدى اللبنانيين، وخاصة عند الشيعة، وذلك بسبب إفقار الحزب لهم كمواطنين، ما جعل رصيد مقبوليته ينخفض بينهم، لذا بات يعتمد على القوة المسلحة فقط لأجل الاستمرار.

بشأن النظرة المستقبلية للحزب، سيبقى متشبثا بالسلطة، وأيا كان من يرأس الحكومة ويلزم السلطة، فإنه في النهاية عليه الالتزام بخطوط الحزب التي يضعها، لذا فإن الحزب سيسعى لتكريس هيمنته على القرار السياسي ومحاربة كل من يقف بوجه تلك الهيمنة في لبنان.

إسلام المنسي لـ”الحل نت”.

 ظاهريا، يرجح خبراء بأنه نتيجة اعتماد “حزب الله” على التوجه الديني لإبقاء حاضنته الشعبية، فإنه يتجه باستمرار إلى إحكام القبضة على الساحة الشيعية في لبنان، فالورقة الطائفية هي الورقة الأبرز التي بيده، وهنا نلاحظ عند كل مرحلة تتصاعد فيه الانتقادات إزاء الحزب، يخرج مسؤولوه ويحولون هذه الانتقادات لمخاوف يوجهونها لأبناء الطائفة الشيعية، وذلك لزيادة مخاوفهم وجعل مصيرهم مرتبط بهذه الميليشيا.

حاليا تمر لبنان بأزمة مركبة ليس لها مثيل، ففي الوقت الذي تنهار فيه العملة المحلية والبنوك إلى أدنى مستوياتها، يتقاذف الفرقاء السياسيون في لبنان مسؤولية تعطيل الانتخابات الرئاسية بعد حوالي ستة أشهر على الفراغ، فيما يبدو التوافق أو حتى قدرة أي فريق على إيصال مرشحه شبه مستحيلة حتى اللحظة نتيجة الانقسام العامودي في مقاربة الموضوع وعدم امتلاك أي فريق الأكثرية النيابية.

لبنان ومصلحة الأحزاب

“حزب الله” يعطل مسألة انجاز الاستحقاق الرئاسي، ويصر على أن يكون المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية من ضمن فريقه، تارك البلاد ترزح تحت الأزمة الاقتصادية، بالرغم من يقينه أن إنجاز الاستحقاق الرئاسي هو المدخل الأساس لإعادة تشكيل السلطة التنفيذية وللجم السعر السياسي لليرة، وإجراء الإصلاحات المطلوبة للخروج من الانهيار.

بدلا أن يدفع حسن نصر الله الأمين العام لـ “حزب الله” اللبناني لإنجاز الاستحقاق الانتخابي، بات يدعو القوى السياسية إلى طاولة حوار لما سماه بالإنقاذ الاقتصادي، وهذا يعني بحسب جهات سياسية معارضة، أن نصر الله يمعن باعتماد منطق التحدي وابتزاز الفرقاء الآخرين، وكأنه يقول، إن الفراغ الرئاسي سيطول إلى أن تقتنعوا بالمرشح الذي يكون متطابقا مع تطلعات الحزب.

هذا السيناريو قائم منذ انتهاء مدة الرئيس ميشال عون، في31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، حيث دخل لبنان مرحلة من الشغور الرئاسي لما يقرب من خمسة أشهر، وأخفق “مجلس النواب” لأكثر من مرة في انتخاب رئيس الجمهورية، وكان آخرها في 19 كانون الثاني/يناير 2023.

الخلل في انتخاب رئيس الجمهوري في لبنان، سببه أن الدستور اللبناني يشترط في المادة 49 على أن رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من “مجلس النواب” في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تليها، وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحدا لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزا على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح.

بناء على ذلك، ومع عدم امتلاك أي من القوى السياسية الأغلبية المطلقة أو الوازنة؛ لم تستطع أي كتلة إيصال مرشحها إلى الرئاسة دون التوافق مع باقي الكتل سواء “حزب الله” وحلفائه أو القوى المعارضة أو المستقلين، بالإضافة إلى عدم التوافق فيما بينها على مرشح تسوية للخروج من الأزمة، وفي الوقت الذي يضع فيه حزب “القوات اللبنانية” شرطا لاختيار مرشح الرئاسة على أن يكون سياديا، بما يعني أنه ليس من فريق “حزب الله”، يرفض الأخير أي مرشح غير داعم لمفهوم “المقاومة” الذي يروج له.

تلك السجالات بين الفريقين الخصمين تأتي على وقع أزمة الشغور الرئاسي وأخرى سياسية ومالية طاحنة وضعت لبنان على حافة الانهيار الشامل، بينما يتوقع أن تتصاعد التوترات بين القوى السياسية المتضادة والتي يتهمها اللبنانيون بأنها السبب فيما آلت إليه الأوضاع وطالبوا في احتجاجات 2019 برحيلها عن الحكم، في حين تمثل تلك القوى المتناحرة منظومة الحكم منذ عقود، على رأسها “حزب الله”.

في خضم هذه التحولات، والتي أثرت كثيرا في صورة “حزب الله” كحركة مقاومة، لاسيما ما بعد تدخله في الشأن السوري والاصطفاف إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد ضد السوريين، وتورطه في العمليات العسكرية التي قتل على إثرها آلاف المدنيين، يحاول الحزب حاليا إيجاد طرق لاستعادة صورته كـ “مقاومة”، بما في ذلك عبر دفع إسرائيل بما يكفي لوضع الدولة في حالة تأهب وتلميع صورته كمنافس لها، متجاهلا بذلك كل ما ينطوي من أثار على حياة اللبنانيين، والعزلة التي يعيشها لبنان، وكيف نقل بوصله إلى السلطة أعدائها لأن يكونوا أعداء الدولة اللبنانية ذاتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات