في مواجهة الشدائد، أثبت الضحك دائما أنه أداة قوية، قادرة على توحيد الناس في أحلك الأوقات، اليوم هناك قصة تفوق التصور من سوريا، حيث ظهرت فرقتان كمنارات لمواجهة الأزمات الاقتصادية تنشران الفرح والضحك من خلال عروضهم الكوميدية. 

لم يؤدِ نهجهم الفريد في معالجة الأزمة إلى رفع الروح المعنوية للحاضرين فحسب، بل وفر أيضا فترة راحة هم في أمس الحاجة إليها بسبب الصراعات اليومية التي يواجهها السوريون.

مع لمسة من الجدّية وروح الدعابة وبعيدا عن النمط المتّبع في الدراما الكوميدية التلفزيونية التي ربما مؤخرا افتقدت لرتابة النص والفكرة، وجدت هذه الفِرق طريقة لتحويل آلام المواطنين إلى ضحك، حيث تقدّم عروضهم منظورا منعشا للحياة، ويذكر الجميع أنه وسط الفوضى، هناك دائما مجال للفرح.

العودة لزمن المسرح الكوميدي

من خلال تجربة استمرت لمدة ساعتين، تمكّن جمهور مدينة حمص من الاستمتاع بعرض مسرحي استثنائي بعنوان “أكاديمية الضحك”، الذي تم تقديمه على مسرح “قصر الثقافة”، حيث قدّم العرض الدكتور سمير عثمان الباش، أستاذ التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، بناء على قصة من تأليف وإخراج المبدع الياباني كوكي ميتاني، والتي أُعدت للمسرح في عام 1996 تحت عنوان “جامعة الضحك”.

عرض مسرحية "أكاديمية الضحك" في مسرح "قصر الثقافة" بمدينة حمص - إنترنت
عرض مسرحية “أكاديمية الضحك” في مسرح “قصر الثقافة” بمدينة حمص – إنترنت

الباش أخذ الجمهور بهذا العرض في رحلة إلى أيام المسرح الكلاسيكي الجميل، حيث يتناول قضية من الواقع بأسلوب كوميدي ساخر ورصين. فيما نجح الممثلان لجين إسماعيل وكرم حنون في تجسيد روح النص وتجسيم الواقع المحلي من خلال أداء شخصيتي الرقيب على النصوص وكاتب النصوص، بطريقة تتسم بالدقة والواقعية المتقنة.

إسماعيل تألقت في دور موظف الرقابة على النصوص، حيث نجحت في تجسيد هذه الشخصية ببراعة وروح كوميدية مميزة، وكذلك، أبدع حنون في دور كاتب “الدراماتورجي”، حيث استطاع بمهارته الفائقة تقديم هذه الشخصية بأسلوب مبدع ومضحك.

عبر هذا العرض المسرحي الرائع، استطاع الباش إحياء روح المسرح التقليدي الذي يمزج بين الكوميديا والسخرية، والذي يعالج قضايا حقيقية بأسلوب مرح وساخر. كما تفهّم الجمهور بدقة وواقعية متناهية ملامح الشخصيات المختلفة، وعاشوا معها لحظات من الضحك المتواصل والتسلية.

ففي إطار مسرحي مليء بالضحك والسخرية، يتناول العرض شخصية الرقيب على النصوص المسرحية بطريقة ساخرة ومبتكرة. إذ يتصف الرقيب في العرض بجهله الشديد في المسرح، حيث لم يسمع بأسماء كبار الكتّاب المسرحيين مثل شكسبير، ويتعامل مع النصوص بطريقة مضحكة وتهكّمية.

الرقيب ضمن العمل يقوم بتعديل النصوص المسرحية المعروفة وتغييرها ليتناسب مع التعليمات والسياسة الثقافية المفروضة عليه. ومن خلال هذه التعديلات والتغييرات، يتم إعداد نصوص غريبة ومضحكة، مثل “روميو وجولييت” المعدلة عن نص شكسبير. كما يتم تناول هذه النصوص المعدلة بشكل مثير للضحك، ولكن في الوقت نفسه، لا يتم محاسبة الرقيب أو إلقاء اللوم عليه. بل يُعامَل الرقيب بتعاطف كإنسان يجد نفسه محاصرا بتعليمات ومحاذير لا يستطيع تجاوزها.

هذا العرض المسرحي الفريد يجمع بين الضحك والسخرية والتعاطف، ويوفر للجمهور فرصة للاستمتاع بأداء مذهل يعكس الطريقة التي يواجه بها السوريون الأزمة بالنُّكات والفكاهة. أيضا يسلط الضوء على القدرة الإبداعية والمرونة التي يتمتع بها الفنانون في تقديم رسائلهم وتعبيراتهم من خلال الفن، حتى في ظل الظروف الصعبة.

ونتيجته أنه في نهاية العرض، يغادر الجمهور بابتسامة على وجوههم وقلوب تملؤها الفرحة، حيث يكتشفون أن الضحك هو سلاح قوي يساعدهم على التغلب على التحديات.

“ستيريا” تحويل التجارب الحياتية لمادة كوميدية

في تجربة أخرى، داخل مقهى شعبي مزدحم بقلب دمشق، تصدح ضحكات مع كل نكتة تستهدف تقنين الكهرباء أو نقص المحروقات أو تدهور القطاعات الإنتاجية. هذه الضحكات يرويها فريق فني فريد في سوريا، حيث لا توجد قيود سوى على السياسة والدين.

عرض تقديمي لفريق "ستيريا" في دمشق - إنترنت
عرض تقديمي لفريق “ستيريا” في دمشق – إنترنت

العرض الأسبوعي يُفتتح على يدي شريف حمصي، وهو يتحدث عن مزايا العريس السوري التي تتجاوز صفاته الحسنة وتطال احتياطيه من المحروقات وألواح الطاقة. فتتساقط دموع بعض الحاضرين من شدة الضحك عندما يروي قصة تسويق نفسه أمام فتاة أُعجبت به قائلا “تزوجيني وسأضمن لك مستقبلا زاهيا، لدي مئتي لتر من المازوت وألواح طاقة شمسية لتوليد الكهرباء وثلاثة إسطوانات غاز”.

على الرغم من المأساة التي تحيط بسوريا، إلا أن هؤلاء الفنانين يبتكرون الأفكار ويستخدمون الضحك كأداة قوية لتجاوز الألم واليأس من الأوضاع الحالية، حيث انطلق فريق “ستيريا” الكوميدي أثناء الأزمة الطاحنة منذ نحو 12 عاما في سوريا، كأول فريق “ستاند أب” من نوعه في البلاد.

الحمصي والبالغ من العمر 31 عاما، قال لوكالة “فرانس برس”، “الوضع في البلاد هستيري، ونواجهه بالضحك الهستيري، الجميع هنا متفقون على رغبتهم العارمة بالضحك ونسيان مشاكل يعجزون عن حلّها ولا يملكون حيالها سوى الضحك”.

فريق الكوميديا الارتجالية “ستيريا” يجسّد بموهبتهم الاستثنائية روح النكتة والسخرية كطريقة لمواجهة الصعوبات اليومية التي تواجههم. فالضحك يصبح لغة مشتركة يتحدثون بها، تسليهم وترفع من معنوياتهم في بلد متعب بسبب الحرب والتحديات الاقتصادية.

الحمصي وأصدقاؤه أسّسوا فريق الكوميديا الارتجالية الأول في سوريا، وأطلقوا عليه تسمية “ستيريا” ليدمجوا بين كلمتي سوريا وهستيريا، ويضم 35 عضوا بينهم فتاة، واللافت في الأمر، مشاركة أعضاء آخرين من جنسيات عربية مع الفريق، على رأسها الشاب السوداني أحمد الفاضل.

أعضاء “ستيريا” لم يخفوا أنهم يواجهون صعوبة في تناول القضايا الحساسة وإيصالها للناس بدون إساءة أو تجريح. حيث يعتمدون على طرق غير مباشرة وذكية لتناول هذه القضايا، إذ يتركز عملهم بشكل أساسي على يوميات السوريين ومعاناتهم مع المشاكل الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية بعد سنوات من الحرب المدمرة التي أثّرت على الاقتصاد والبنية التحتية وأدت إلى تشريد الكثير من السكان.

عندما يقدم الفريق نُكتا، يستخدمون تجاربهم الشخصية وقصص عائلاتهم كمادة للضحك، مما يساعد على توصيل رسائلهم بشكل فعال. ومع ذلك، يتجنبون بشكل عام مناقشة القضايا السياسية والدينية، حتى يضمنوا الحفاظ على جو الضحك والترفيه دون إحداث جدالات أو توترات.

قبل كل عرض، يجتمع الفريق في منزل أحد أعضائه لتحضير مضمون العرض. يقف أحدهم أمام رفاقه ويقول لهم “فكرت كثيرا ووجدت أن أكثر ما أعرف أنه مضحك في حياتي هو حياتي”. ينصحه رفاقه بأن يفتح قلبه ويخبرهم عن صبية أحبها. وما أن يبدأ حتى يدوّنوا ملاحظاتهم ويقترحوا عليه تعديلات.

الكوميديا التلفزيونية فشلت في جذب الناس؟

بعد حضور العديد من السوريين للتجربتين المختلفتين، يلاحظ على سبيل المثال أن “أكاديمية الضحك” لم يكن عرضا عاديا في ظل هذا التصحر المسرحي الذي تحتضر فيه المؤسسة المنتجة للفنون، بل جاء ليزرع شجرة مثمرة تعطي أكلها من ثمرها شجيرات أخرى.

عرض تقديمي لفريق "ستيريا" في دمشق - إنترنت
عرض تقديمي لفريق “ستيريا” في دمشق – إنترنت

استخدام الكوميديا والسخرية يُعد وسيلة فعّالة لإشراك الجمهور والتعبير عن التحديات اليومية التي يواجهها السوريون. ومن خلال إيصال رسائلهم بأسلوب غير مباشر وممتع، تساهم هذه الفِرق في تخفيف الضغط النفسي وإضفاء الأمل والتفاؤل في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها.

في ظل أزمة النص كما أشار لها الفنان السوري، عبد المنعم عمايري، في حديثه لموقع “سكاي نيوز”، وتراجع شركات الإنتاج عن تبني الأعمال الكوميدية التلفزيونية في سوريا، واجهت الدراما صعوبة في جذب الجماهير والناس. ولكن على الجانب الآخر، نجحت فرق الـ”ستاند آب” الكوميدية والفِرق المسرحية في استعادة اهتمام الناس وجذبهم إليهم.

قد يعود هذا النجاح إلى عدة عوامل، أبرزها هو تميّز هذه الفِرق بالحيوية والتفاعل المباشر مع الجمهور، كما يعتمد الأداء على مهارات الممثلين وقدرتهم على التفاعل الفوري وتوصيل النكت والمواقف الكوميدية بشكل مباشر للحضور. وهذا يخلق تجربة تفاعلية فريدة تجعل الناس يشعرون بالانتماء والمشاركة، إذ ترى الفنانة ليلى سمور في حديثها لـصحيفة “الشرق الأوسط”، أن مشكلة الكوميديا السورية هي التكرار.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون السبب الآخر هو التوجه الفكاهي والكوميدي الذي يتناول قضايا الحياة اليومية والتحديات التي يواجهها الناس في ظل الأزمات والصعوبات. فعندما تتم معالجة هذه القضايا بطريقة فكاهية ومشوّقة، يشعر الناس بالارتباط والتعاطف، ويمكنهم الابتسام والضحك حتى في أصعب الأوقات.

بالتالي، فإن نجاح فرق الـ”ستاند آب” والفِرق المسرحية في سوريا بإتقان فن تحويل الشدائد إلى مرح؛ يعكس استجابة الجمهور لهذه العروض الحيّة والكوميدية التي تعكس واقعهم وتعبيرهم الفكاهي عنه. وأنها وسيلة قوية لتخفيف التوتر وإعادة الابتسامة إلى وجوه الناس، رغم الأزمات والصعوبات التي تمرّ بها البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات