أزمة لبنان تفاقمت مع انهيار الانتخابات الرئاسية، أمس الأربعاء، حيث لا يزال البلد غارقا في فراغ السلطة المستمر منذ سبعة أشهر، فعلى الرغم من المحاولات المتكررة، فشل المشرّعون في انتخاب رئيس للبنان، وتركوا البلاد في حالة من الشلل السياسي، حيث ستؤدي هذه الانتكاسة الأخيرة إلى زيادة التوترات الطائفية وإثارة المخاوف بشأن مستقبل البلاد.

في قلب الأزمة اللبنانية، يكمن دور “حزب الله”، المنظمة السياسية والعسكرية المصنّفة “إرهابية” والمتهمة بتقويض النظام السياسي الهش في البلاد، لا سيما وأن انسحابه من الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية زاد من تلك التكهنات حوله.

الوضع في لبنان معقّد، وله تاريخ طويل من التوترات الطائفية وعدم الاستقرار السياسي، إذ يقوم النظام السياسي في البلاد على أساس توازن دقيق بين طوائفها الدينية المختلفة، حيث تخصص الرئاسة للمسيحي الماروني، ورئيس الوزراء للمسلم السني، ورئيس البرلمان للمسلم شيعي.

مع ذلك، تعرّض هذا النظام للتقويض مرارا وتكرارا بسبب التوترات الطائفية والفساد وتأثير القوى الخارجية لا سيما إيران، إلا أن هذه المرة تُعد الأطول ويظهر فيها دور “حزب الله” بشكل جلي، لذا تبرز تساؤلات حول أسباب انسحاب كتلة “الحزب” وحلفائه من جلسة اختيار رئيس، وما هي التداعيات المحتملة لانسحابهم على التوترات الطائفية في لبنان، وكيف سيؤثر انهيار الانتخابات الرئاسية على الوضع الهش للاقتصاد اللبناني، وما التداعيات الدولية للأزمة اللبنانية، ولا سيما على الاستقرار الإقليمي.

فشل للمرة الثانية عشرة

منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الفائت، فشل البرلمان مرارا وتكرارا في انتخاب رئيس للبنان، حيث لا يتمتع أي فريق بأغلبية تكفيه لوحده للوصول بمرشحه إلى المنصب.

أعضاء البرلمان اللبناني خلال جلسة انتخاب رئيس جديد للبلاد - إنترنت
أعضاء البرلمان اللبناني خلال جلسة انتخاب رئيس جديد للبلاد – إنترنت

الجلسة الأولى التي افتتحها رئيس البرلمان نبيه برّي، حليف “حزب الله” البارز، أمس الأربعاء، شهدت حضور جميع أعضاء المجلس البالغ عددهم 128 عضوا. ومع ذلك، لم تؤدِ الجلسة إلى انتخاب رئيس، حيث حصل المرشحان الرئيسيان، الوزير السابق سليمان فرنجية الذي يحظى بدعم “حزب الله”، والوزير السابق أيضا جهاد أزعور الذي يحظى بدعم كتل قوية، على أصوات متقاربة، حيث حصل أزعور في الجلسة الأولى على 59 صوتا، بينما حصل فرنجية على 51 صوتا.

عدد من النواب بما في ذلك كتلتي “حزب الله” و”حركة أمل” التي يتزعمها برّي، بدأوا بالانسحاب فور بدء فرز الأصوات في الجلسة الثانية، بهدف عدم تحقيق النصاب اللازم للجلسة، وهذا ما قاموا به في الجلسات السابقة أيضا. حيث يتطلب لفوز المرشح في الجولة الأولى الحصول على غالبية الثلثين، أي 86 صوتا. وفي حالة إجراء جولة ثانية، يتطلب الفوز الحصول على 65 صوتا، ولكن يتطلب تحقيق النصاب حضور الثلثين في كلتا الجولتين.

النائب سامي الجميل رئيس كتلة “الكتائب” التي تدعم أزعور، صرح للصحفيين بأن ما حدث اليوم هو انتفاضة حقيقية لنواب لبنان، حيث قال: “لا لعمليات الفرض والتهديد ومحاولات الإيحاء بأن القرار الرئاسي موجود في مكان واحد في لبنان”، وذلك في إشارة إلى “حزب الله”.

شعبية أزعور الذي انضم إلى “صندوق النقد الدولي” عام 2017 وتولى منصب وزير المالية اللبناني بين عامي 2005 و2008، شهدت ارتفاعا في الأسابيع الأخيرة، وقد تم تأييد ترشيحه من قبل كتل رئيسية ونواب معارضين لفرنجية بعد جهود إثر اتصالات مكثفة.

فحزب “القوات اللبنانية” الذي يملك كتلة برلمانية مسيحية قوية، و”التيار الوطني الحر” الحليف لـ”حزب الله” والأبرز بين الأحزاب المسيحية، وكتلة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، من أبرز داعمي أزعور.

بعد تأييده كمرشح، قدم أزعور استقالته المؤقتة من منصبه كمدير لقسم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في “صندوق النقد الدولي”. وفي أول تعليق له، صرح بأنه “ليس تحديا لأحد”، ردا على وصف نواب “حزب الله” له بأنه مرشح “للمواجهة” و”التحدي”.

من جهته، اعتبر رئيس كتلة “حزب الله”، النائب محمد رعد، أن أولئك الذين يدعمون ترشيح أزعور “يستخدمونه فقط لمنع وصول مرشح المقاومة”، في إشارة إلى فرنجية. فيما أكد الأخير في خطابه يوم الأحد الفائت، أنه سيكون “رئيسا لكل اللبنانيين” على الرغم من تحالفه مع “حزب الله” وصداقته مع الرئيس السوري بشار الأسد، ووجه انتقادات لاذعة إلى معارضي ترشيحه.

إن انهيار الانتخابات الرئاسية هو مجرد أحدث حلقة في سلسلة طويلة من الانتكاسات للبنان، الذي يصارع مجموعة من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. حيث تواجه البلاد أزمة مالية عميقة، مع ارتفاع التضخم وانهيار العملة وارتفاع مستويات الفقر.

انقسام سياسي يزداد حدّة

تعليقا على ما حدث أمس الأربعاء، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، إن واشنطن قلقة من الجمود وتريد أن ترى رئيسا منتخبا يمكنه إطلاق دعم “صندوق النقد الدولي” للبنان، لكن الأمر متروك لقادة البلاد لحل الأزمة. فمع انقسام “البرلمان”، فإن المأزق قد يتطلب الآن نوع التدخل الأجنبي الذي حل الأزمات السابقة في لبنان، بما في ذلك اتفاق 1989 الذي توسطت فيه السعودية والذي أنهى الحرب الأهلية.

المرشح الرئاسي جهاد أزعور - إنترنت
المرشح الرئاسي جهاد أزعور – إنترنت

طبقا لحديث محمود جعفر، عضو “مجموعة 128” اللبنانية المناهضة لـ”حزب الله”، فإن العوامل الرئيسية التي ساهمت في استمرار فراغ السلطة في لبنان تمحورت حول التشرذم السياسي، فالمشهد السياسي في لبنان منقسم بين فصائل مختلفة، لكل منها مصالحها وتحالفاتها. وهذا التشرذم يجعل من الصعب تشكيل إجماع والوصول إلى تصويت الأغلبية لمرشح رئاسي.

أيضا التوترات الطائفية، حيث يعيش لبنان في ظل نظام طائفي لتقاسم السلطة، إذ يجب أن يكون الرئيس مسيحيا مارونيا، وغالبا ما تؤدي الانقسامات الطائفية في البلاد إلى طريق مسدود وصعوبات في التوصل إلى توافق حول المرشحين للرئاسة، أما العامل الثالث فهي المؤثرات الخارجية، حيث يتأثر المشهد السياسي في لبنان بالقوى الإقليمية، مثل إيران التي تدعم مختلف الفصائل الشيعية المسلحة وتمارس نفوذها في السياسة اللبنانية، وهذه التأثيرات الخارجية أن تعقد عملية انتخاب الرئيس.

بحسب حديث جعفر لـ”الحل نت”، فإن انسحاب كتلة “حزب الله” من الجلسة لاختيار رئيس يزيد من تعقيد العملية الصعبة، فضلا عن أنه ينمي التوترات الطائفية لأنه مدعوم بشكل أساسي من المجتمع الشيعي، ويمكن اعتبار أفعاله على أنها تقوض مصالح الجماعات الطائفية الأخرى.

انسحاب كتلة “الحزب” يندرج تبعا لجعفر، تحت بند المناورة السياسية و”لوي الذراع”، لخلق حالة من الجمود وزيادة نفوذهم في المفاوضات من أجل الحصول على تنازلات سياسية أو نتائج إيجابية. وأيضا له بعد آخر إذ يريد “حزب الله” بعد تنامي قوته أن يظهر للمجتمع الداخلي أن النظام السياسي دخل مرحلة الموت.

بهذه الإشارة يريد “حزب الله” أن يصل اللبنانيون إلى نتيجة أن نظام تقاسم السلطة الطائفي في لبنان يجب أن يتم تعديله وفقا للأقوى، ولذا فإن جميع التداعيات التي تحصل داخل البلاد هي من نتائج هذا النظام الذي تم إقراره في اتفاق “الطائف” عام 1989.

إطالة أمد الشغور الرئاسي

لانسحاب كتلة “حزب الله” وحلفائه من جلسة اختيار رئيس له تداعيات محتملة على التوترات الطائفية في لبنان، فتبعا لحديث جعفر، فإن هذا التصرف سيعمّق الانقسام بين الجماعات الطائفية المختلفة، ولا سيما بين الجالية الشيعية الداعمة لـ “الحزب” والطوائف الأخرى التي قد تعتبر هذا الإجراء بمثابة تحدٍ لمصالحها.

المرشح الرئاسي سليمان فرنجية - إنترنت
المرشح الرئاسي سليمان فرنجية – إنترنت

كما سيؤدي غياب مرشح توافقي وانسحاب كتلة كبيرة إلى زعزعة استقرار المشهد السياسي في لبنان، مما يجعل من الصعب الوصول إلى حل، وربما يؤدي إلى زيادة التوترات والصراعات، وهذا بدوره سيعمل على خلق بيئة متقلبة حيث تصبح النزاعات المحلية والعنف أكثر احتمالا.

وفقا للمشهد الحالي فإن غياب الرئيس واستمرار الفراغ في السلطة يساهم في انعدام الحكم المستقر وصنع القرار، مما يجعل من الصعب تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة وجذب الاستثمارات، لا سيما وأن لبنان بحاجة ماسة إلى إصلاحات اقتصادية لمعالجة الأزمة المالية، بما في ذلك إعادة هيكلة ديونه، ومعالجة الفساد، وتحسين الحوكمة. 

علاوة على ذلك، فإن الأزمة المطوّلة وعدم الاستقرار السياسي يثبطان الاستثمارات المحلية والأجنبية، مما يؤدي إلى مزيد من التراجع في النشاط الاقتصادي، وفقدان الوظائف، وتدهور الوضع المالي.

في عام 2016، وصل عون إلى رئاسة الجمهورية بعد عامين ونصف العام من شغور رئاسي واستنادا إلى تسوية سياسية بين “الحزب” وخصومه. وأقر الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، في آذار/مارس بأن حزبه وحلفاءه عطّلوا حينها النصاب حتى انتخاب عون.

طبقا لوكالة “فرانس برس”، فإنه بغياب ضغط دولي كبير وتسوية حول مرشح، قد يتطلب الأمر أشهرا عدة قبل انتخاب رئيس، فالبلاد أمام خيارين بعد فشل جلسة الأربعاء، إما مرشح توافقي أو إطالة أمد الفراغ الرئاسي.

ما لا يعرفه الجميع، أن للأزمة اللبنانية تداعيات دولية لا سيما على الاستقرار الإقليمي، أولها تنامي الصراعات بالوكالة بدعم من “حزب الله” وإيران وفصائل أخرى، أيضا قد تؤدي الأزمة المستمرة إلى تفاقم التحديات التي يواجهها كل من اللاجئين والسكان اللبنانيين. يمكن أن يكون للضغط على الموارد والخدمات الاجتماعية تداعيات على دول الجوار والاستقرار الإقليمي.

أصابع الاتهام تتوجه نحو “حزب الله” المدعوم من إيران، بتفاقم الأزمة من خلال اتخاذ موقف متشدد ورفض المساومة مع الفصائل السياسية الأخرى، وينظر إلى انسحابه من الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية على أنه ضربة كبيرة لاحتمالات التوصل إلى حل سلمي للأزمة. وربما تتطور الأزمة أيضا إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، لا سيما مع اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد في الأشهر الأخيرة بسبب قضايا مثل الفساد والبطالة وغلاء المعيشة، ومطالبة الكثير من اللبنانيين بإصلاحات جذرية في النظامين السياسي والاقتصادي للبلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات