في عوالم صغيرة تتخلل شوارع المدن السورية، تجتمع قصص الأمل والإصرار والتحدي لعدة أسباب إلا أنها لا تبرر وجودهم في هذه الأماكن. فهناك، يصطف أطفال سوريون على إشارات المرور، يتحملون أعباء تتجاوز قدراتهم العمرية، بغية تحسين وضعهم المعيشي وإيجاد فرص للعيش الكريم. مقابل ربح يتراوح بين بضعة دنانير وربما الدينار الواحد، حيث يقدم هؤلاء الأطفال خدماتهم في غسيل السيارات، ليجدوا في مكافأتهم شيئا من الأمل والتغيير.

رحلتهم المليئة بالتحديات والمخاطر بدأت بعد نهاية الموسم الدراسي، حيث تركوا وراءهم بيوتهم وألعابهم، لكن قسوة الظروف ومرارة الفراق، أجبرتهم ألّا يتراجعوا أمام مصاعب الحياة. إذ يتجولون بين السيارات الملتفة على الطرق المزدحمة، يرفعون أيديهم المتواضعة لبيع العلكة والبسكوت والمحارم، في محاولة لتحقيق رزق يومي بسيط.

لكن هذا الجهد الذي يبذلونه ليس بدون سبب، فالأوضاع الاقتصادية الصعبة تحتّم عليهم العمل والسعي من أجل البقاء. فيمتهنون غسيل السيارات بدقة وحرفية، يُعطون كل سيارة حقها من النظافة والبريق، وفي مقابل جهودهم المضنية، يمكن أن يحظوا بأجر يتجاوز ما يحصلون عليه في بقية المِهن التي تناسب أعمارهم الصغيرة.

البحث عن نمرة سيارة غير سورية

رغم صغر أعمارهم، إلا أن هؤلاء الأطفال يبذلون الطاقة والجهد ليعيشوا حياة أفضل ويساهموا في توفير المساعدة المادية لأسرهم، وأكثر ما يسعدهم هو رؤية سيارة لا تحمل النمرة السورية، لأن أقل عملة تحملها قد تكون قيمتها تساوي يومية عامل سوري.

غسيل السيارات تعتبر واحدة من المهن التي تصنف ضمن عمالة الأطفال - إنترنت
غسيل السيارات تعتبر واحدة من المهن التي تصنف ضمن عمالة الأطفال – إنترنت

الصبي الصغير، محمد، الذي يعمل في مهنة غسيل السيارات في منطقة الدحاديل بدمشق، يروي قصته بكل تفاصيلها المؤثرة. فالبرغم أنه في عمره لا يتجاوز الـ 10 سنوات، إلا أنه يعمل بهذه المهنة منذ عامين. ويتقاضى مبلغا قدره 1000 ليرة سورية مقابل غسيل كل سيارة، لكنه يصف هذه المهنة بأنها شاقة جدا. 

بحسب ما نقله موقع “أثر برس” المحلي، أمس الاثنين، عن هؤلاء الأطفال، فإن محمد يتعرض للعديد من السيارات التي لا ترغب في دفع أجرة الغسيل وتوبخه أحيانا، لأنه بمفرده بدون أي شخص يشرف على عمله، ويحمل معه أدواته الخاصة ويعتمد على نفسه لمساعدة عائلته في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهونها في الوقت الحالي.

أيضا يشارك محمد وجهة نظره زميله علي، الذي لم يتجاوز عمره الـ 11 سنة. حيث يوضح علي أنه يعمل في غسيل السيارات من الصباح الباكر حتى ساعات المساء المتأخرة. ويعمل جاهدا لتأمين قوته وأن يكون سندا لأسرته. 

علي ومحمد يتقاضون ما بين 1000 و1500 ليرة سورية عن غسيل كل سيارة، وهناك بعض أصحاب السيارات الذين يكافئونهم بمبالغ أعلى، خاصة إذا كانت السيارة غير مسجلة بلوحة سورية.

يومية الطفل أكثر من الأب

لا تزال مهنة غسيل السيارات تعتبر واحدة من المِهن التي تصنّف ضمن عمالة الأطفال، والتي تفتح أبوابها لتحول حياة الطفل من كونه تلميذا مجتهدا إلى عامل نشيط يجد مصيره بين السيارات والعربات والحافلات.

الأطفال يحققون أرباحا كبيرة، خاصة عند تعاملهم مع السيارات الأجنبية - إنترنت
الأطفال يحققون أرباحا كبيرة، خاصة عند تعاملهم مع السيارات الأجنبية – إنترنت

فيما يخص سائقي التاكسي، يشرح العديد منهم أن هؤلاء الأطفال يحققون أرباحا كبيرة، خاصة عند تعاملهم مع السيارات الأجنبية، ويقدر الدخل اليومي للطفل بنحو 20 إلى 30 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ ليس بالقليل بالنسبة لهم.

صاحب أحد سيارات التاكسي في دمشق، ذكر تجربته مع أحد الأطفال الذي كان يحمل مئة دينار أردني ولم يكن يدرك قيمة ما يمتلكه أو كيفية إنفاقه. بالإضافة إلى ذلك، يعطي جميع السائقين لهؤلاء الأطفال أجرتهم قبل بدء عملية غسيل السيارة، وهذا يحدث عند فتح الإشارة وتحرك السيارة، حيث لا يتم غسيلها.

ظاهرة الأطفال المتسولين تتجلى في سوريا بشكل واضح، حيث يتراوح أعمارهم بين 3 و 9 سنوات. ويقوم هؤلاء الأطفال ببيع مناديل ورقية ومنتجات أخرى، حيث يتجمعون بصفة خاصة على الإشارات الضوئية في المناطق الصناعية، حيث يستغلون توقف السيارات لاقترابهم من سائقيها وإلقاء نظرة استعطافية لاستدراجهم، ومن ثم بيع المنتجات التي يحملونها.

هؤلاء الأطفال يمارسون أساليب متنوعة لجذب انتباه قائدي المركبات، حيث يطرقون بأيديهم بشكل مستمر على نوافذ السيارات بهدف عرض بضاعتهم على قائدي المركبات. ويعملون لتحقيق بعض الدخل وتحسين وضعهم الاقتصادي، على الرغم من صغر أعمارهم وضعفهم الجسدي.

عمالة الأطفال ترتفع في سوريا

بسبب الفقر والتشريد تشكل عمالة الأطفال تهديدا كبيرا، حيث إن المساعدات الإنسانية لا تكفي ولا تغطي إلا قرابة 20 إلى 25 بالمئة من الاحتياجات، لذلك يلجأ الأطفال إلى العمل ويتسرّبون من العملية التعليمية لذلك نسبة الأمية مرتفعة بين الأطفال.

عمالة الأطفال بسبب الفقر والتشريد تشكل تهديدا كبيرا - إنترنت
عمالة الأطفال بسبب الفقر والتشريد تشكل تهديدا كبيرا – إنترنت

ووفقا لتقرير منظمة صندوق الطوارئ للطفولة التابع للأمم المتحدة “اليونيسيف”، فإن 90 بالمئة من الأطفال السوريين يحتاجون إلى دعم، واصفا عمالة الأطفال بالمشكلة الأوسع انتشارا والأكثر تعقيدا من مشكلات حماية الطفل. وأشار التقرير إلى أن أكثر من 2.4 مليون طفل في داخل سوريا لا يذهبون إلى المدارس.

من جهتها، قدّرت الأستاذة في علم الاجتماع في جامعة “دمشق”، هناء برقاوي، في سبتمبر/أيلول 2022، ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في سوريا خلال أعوام الحرب بنحو 20-30 ضعفا. فالظاهرة كانت تقتصر سابقا على مِهن محددة في الصيف، بينما اليوم الأطفال يعملون على مدار السنة وبكل المهن.

قانون “حقوق الطفل” الذي أصدر في آب/أغسطس 2021، لم ينص على عقوبة تعاقب تشغيل الأطفال تحت السّن القانونية، إلا أنه يحظر تكليف الطفل بالعمل ساعات إضافية، مهما كانت الأسباب، وإبقاءه في مكان العمل بعد المواعيد المقررة له، ولا يجوز تشغيله ليلاً وفي أيام الراحة الأسبوعية والعطل الرسمية والأعياد بما يتوافق مع القوانين ذات الصلة.

إن قصص هؤلاء الأطفال السوريين الذين يصطفون على إشارات المرور تحمل في طياتها رسائل قوية ومؤثرة. فهم ضحايا الظروف ويعملون لتحقيق مبلغ يساعد أهاليهم وتحسين وضعهم المعيشي، معلقين آمالهم على السيارات ذات اللوحات الأجنبية التي تدخل سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات