بين الحين والآخر ترفع الحكومة السورية أسعار حوامل الطاقة، مبررة ذلك بالارتفاعات العالمية، أي أنها تسعّر خدماتها للمواطنين بالدولار الأميركي، بينما تتناسى أن الرواتب والأجور في سوريا في أدنى المستويات وتخسر قيمتها مع كل زيادة تحدث.

في هذا السياق، ثمة تساؤل لا بد من طرحه، وهو إذا ما كانت المعيشة بالدولار فمن أين يعيش المواطن السوري، إلى جانب تداعيات اتساع الهوّة بين الأسعار والأجور في البلاد، سواء على صعيد تفكير المواطنين بالهجرة أو بترك وظائفهم الحكومية والتوجه نحو أعمال أخرى بعيدة عن اختصاصاتهم إلا أنها قد تحميهم من براثن هذا الغلاء الجامح.

المعيشة بالدولار!

نحو ذلك، يعتبر معظم المسؤولين الأسعار في سوريا واقعية، ويتم تسعير الخدمات الحكومية بما يتماشى مع الأسعار العالمية. في الوقت نفسه، يعترفون بأن المعضلة تكمن في قيمة الرواتب والأجور، وليست في الأسعار، بحسب العديد من التقارير المحلية السابقة.

الأسعار في سوريا خيالية- “إنترنت”

على سبيل المثال ارتفاع أسعار المطاعم الشعبية مؤخرا، لا يمكن لوم أصحاب مطاعم ومحال الأكلات الشعبية برفع أسعارهم بنسب تتراوح بين 40– 50 بالمئة، فاللوم الوحيد يقع على مَن رفع أسعار الغاز، غير مكترث بما سيخلّفه قراره على أسعار الوجبات التي بالكاد هي متيسّرة لملايين العاملين بأجر، وفق تقرير لصحيفة “البعث” المحلية مؤخرا.

ولم يعد مستغربا أن تتجاهل “اللجنة الاقتصادية السورية”، في كل مرة ترفع فيها أسعار حوامل الطاقة، الإجابة عن سؤال واحد فقط، إذا ما كان دخل ملايين الأُسر السورية كافيا لزيادة أسعار أكلاتها الشعبية التي تتضاءل كمياتها شهرا بعد شهر، بعد أي رفعٍ لسعر الغاز أو الكهرباء أو المازوت.

من اللافت وصف رئيس “جمعية المطاعم” كمال النابلسي، تعديل أسعار المأكولات الشعبية بنسب لا تقلّ عن 40 بالمئة بأنها واقعية، لكنه يتجاهل بدوره الإجابة عن تساؤل مدى واقعية هذه الأسعار ولمن واقعية، هل هو للموظف الحكومي الذي راتبه لا يكفي لثمن طعام يومين، أما للطبقة الغنية.

إجابة هذا السؤال لا بد أن يكون واضحا ومن قبل المسؤولين الكبار وأصحاب القرار، فإذا كانت الحكومة السورية عاجزة عن تدبير أمور البلاد فعليها الاعتراف بذلك وإعطاء الدور لمَن هم أجدر بهذه المسؤولين، وإذا كانت الحكومة تعول على مدّخرات المواطنين والمصادر المالية الأخرى لدى المواطنين، سواء من الحوالات المالية الخارجية أو غيرها، فإن هذا يعتبر أمرا خطير وسيحمل معه تداعيات سلبية جمّة على الوضع العام في البلاد.

حيث إن المواطنين لن يصمدوا لفترات طويلة حيال الوضع المعيشي الذي يتدهور يوما بعد يوم، دون قيام الحكومة بأية من واجباتها تجاه الأهالي، سواء عبر رفع الرواتب بما يتماشى مع الواقع المعيشي أو ضبط سعر الصرف وتفلّت الأسعار شبه اليومي في الأسواق.

بالتالي إذا ما بقي الحال على وضعه، فإن المواطن إما سيفكّر بالهجرة خارج البلاد كما هو متداول بين أحاديث العامة.

أو أن الموظفين سيستقيلوا من وظائفهم والتوجه نحو أعمال أخرى، مثل العمل كسائق “تاكسي” أو في أحد المحال بالأسواق، أو أي عمل آخر يؤمن له قوت يومه وإن كان بشق الأنفس.

كيف يعيش المواطن السوري؟

يبدو أنه ما يهم النابلسي أولا وأخيرا الدفاع عن مصالح أصحاب مطاعم ومحال الأكلات الشعبية، وهذا أمر جيد لهم، لأن “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك” تستجيب دائما لمطالب من يُسوّق السلع والخدمات للمستهلكين من منطلق أن ما من مُنتج سيُباع بأقل من الكلفة مع هامش قليل أو فاحش من الربح.

بالمقابل، فإن التنظيم العمالي بدوره يدافع ويتقدم باقتراحات لمصلحة ملايين العاملين بأجر، لكن الحصيلة دائما سيئة لأن ما من جهة حكومية، وتحديدا “اللجنة الاقتصادية”، تستجيب لاقتراحاته أو تسمع أجراسه، “أجور عمالنا لا تكفيهم سوى ليوم واحد”.

لذلك، المعادلة اليوم وصلت إلى نقيضين، الأسعار واقعية والرواتب الأجور خيالية، كما تصفها الصحيفة المحلية، إذ تتسع الهوة بين الأسعار والأجور يوما بعد يوم إلى حد أن الأُسرة لم تعد قادرة على شراء ما يكفيها لمدة شهر من أرخص أكلة شعبية وهي الفلافل.

العاصمة دمشق- “أ.ف.ب”

أحد سكان العاصمة دمشق وهو موظف حكومي، وراتبه بالكاد يصل لـ 180 ألف ليرة سورية، يقول عن سؤاله كيف يمرر قوت يومه، إنه يعمل كسائق سيارة أجرة في أوقات المساء وحتى ساعات الليل المتأخرة، ويضيف لموقع “الحل نت”، “لولا عملي على هذه السيارة لما كنت استطعت تأمين رزق عائلتي، وخاصة الرحلات من وإلى المطار، التي تكون الغلة فيها جيدة مقارنة بباقي السفرات”.

المواطن نفسه يشير إلى أن معظم الموظفين الحكوميين ونسبة كبيرة ممن يعملون في القطاع الخاص يعتمدون على مصادر دخل إضافية لهم، مثل الحوالات المالية الخارجية أو مزاولة عملين، حتى يستطيعوا تمرير حياتهم اليومية وتأمين مستلزمات أُسرهم.

كما نوّه إلى أن معظم أفراد العائلة باتوا يعملون، من الأب والأم والأبناء الراشدين، حتى وإن كانوا طلابا في الجامعات، فإنهم يعملون في أعمال مثل تدريس طلاب المدارس أو العمل في المحال التجارية سواء في الأسواق أو المولات، واستدرك ذلك بالقول “مافي عائلة بتعيش على راتب شخص واحد، لازم الكل يشتغل لحتى يقدر يعيّش حالو”.

تداعيات الغلاء

في السياق، وبالعودة إلى حديث النابلسي، فإن الأسعار الجديدة لن تحمّل المواطن أعباءً كبيرة، فهي مناسبة لواقع تكاليف تحضير كل صنف من أصناف المأكولات الشعبية بدءا بقرص الفلافل وانتهاءً ببقية الأصناف.

رئيسُ الجمعية صادق تماما، فهو بالتأكيد من أصحاب المطاعم أو محال الأكلات الشعبية، أي لن يعاني إطلاقا من تأمين كميات كافية منها لأسرته يوميا مهما ارتفعت أسعارها، وحاله يشبه تماما حال “اللجنة الاقتصادية”، فآخر اهتماماتها عند اتخاذ القرارات برفع الأسعار مدى تأثيرها الكارثي على ملايين العاملين بأجور محدودة.

مثال على هذه التداعيات لأسرة من أربعة أشخاص لم يبقَ أمامها ما يسدّ جوعها سوى الفلافل، إذ لا يقل سعر أرخص سندويشة فلافل بعد صدور التسعيرة الجديدة للغاز الصناعي عن 3000 ليرة، فإذا اكتفى الفرد الواحد بسندويشتين فقط يوميا، فهذا يعني أن دخل الأُسرة يجب ألا يقل عن 720 ألف ليرة شهريا، أي المواطن أمام دخل خيالي غير متوفر لأي أسرة.

هذا ناهيك عن أجور النقل وفواتير الخدمات الأساسية ففي هذا الحالة يبدو المشهد قاتما، ولا يمكن وصفه سوى بالسريالي، وهذا ما يفسر أسباب انتشار الفساد، والظواهر الخطيرة غير المسبوقة في المجتمع السوري كالسرقات والتسول، والتفكير في الهجرة إلى خارج البلاد.

العديد من الخبراء والمواطنين، يلقون باللوم على الحكومة وسياساتها الخاطئة، التي أدت بالبلاد إلى أسوأ أزمة معيشية يعيشها السوريون اليوم.

مثلا في تقرير آخر لموقع “غلوبال نيوز” نُشر اليوم الأربعاء، مفاده أن أزمة الكهرباء ألقت بظلالها الثقيلة على الكثير من الصناعات الغذائية ولعل في مقدمتها صناعة البوظة، والتي كانت في وقت من الأوقات من الصناعات المربحة والمزدهرة. بالتالي فإن عجز الحكومة عن توفير أبسط الخدمات يؤدي إلى نتائج سلبية على الواقع المعيشي.

عدد من أصحاب محال البوظة بدمشق أشاروا للموقع المحلي إلى الصعوبات الكثيرة التي تواجه عملهم، في مقدمتها ارتفاع تكاليف إنتاج المادة، والتي تحتاج بالدرجة الأولى لتأمين حوامل طاقة بديلة عن التيار الكهربائي، ناهيك عن ارتفاع أجور العمال والمواد الداخلة بصناعة البوظة.

كما أشاروا إلى أن الإقبال على شراء البوظة  في هذه الأيام بات في حدوده الدنيا، فقد وصل سعر ”طابة“ البوظة إلى أكثر من 3 آلاف ليرة سورية في بعض المحال، وكيلو البوظة بالفستق الحلبي وصل لأكثر من 70 ألفا حسب كمية الفستق الموضوعة سواء أكانت 50 غراما أو 100 غرام.

بدوره بسام قلعجي رئيس “الجمعية الحرفية لصناعة البوظة والحلويات والمرطبات” بدمشق، أوضح بأن سبب غلاء البوظة يعود إلى ارتفاع التكاليف من سكر وحليب ومسكة والفستق الحلبي واللوز والكاجو إضافة لغلاء مسحوق الكاكاو الذي يُستخدم في بعض الأصناف لتصنيع البوظة المنكهة بالشوكولا، إضافة لتكاليف إضافية كشراء المازوت بالسعر الحر من السوق السوداء لتشغيل المولدات بسبب زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي، فهناك العديد من صناع البوظة لم يحصلوا سوى على 25 بالمئة من مخصصاتهم.

زيادة الهوة بين الأسعار والواقع المعيشي في سوريا-“إنترنت”

قلعجي نوّه إلى أن تكلفة كيلو البوظة تتراوح بين 35 – 45 ألف ليرة سورية، ويباع بحوالي 70 ألف ليرة، كما تباع كرة البوظة الواحدة بسعر 3000 ليرة، والكورنيه بـ 6 آلاف ليرة، و 8 آلاف ليرة لكأس البوظة، مبيّنا أن الأسعار ارتفعت هذا العام إلى الضعف عن العام الماضي.

المسؤول الحكومي أردف أن الإقبال على شراء البوظة تراجع بنسبة كبيرة تصل لأكثر من 80 بالمئة، وقد وصل عدد المشتركين بالجمعية من صنّاع البوظة والحلويات والمرطبات والسكاكر ومعامل الحلاوة الطحينية حتى اليوم 350 مشتركا بدمشق، فأغلب العاملين بصناعة البوظة والمثلجات باعوا محالهم، ولم يبقَ سوى 4 معامل كبيرة فقط تعمل في صناعة البوظة فقط توزع على فروعها بكل المناطق وتنتج ما بين 60 – 80 طنا يوميا.

بالتالي فإن تراجع إقبال المواطنين على العديد من السلع وتقنينهم للمواد يدلل بمدى اتساع الفجوة بين الأسعار والأجور في سوريا، وسط ثبات الرواتب وفقدانها قيمتها يوما بعد الآخر، وهو ما سيترك أسوأ آثاره على الواقع المعيشي في البلاد خلال الفترات القادمة.

هذا ما أكده العديد من الخبراء للصحف المحلية مؤخرا، أن قرارات الحكومة حول رفع أسعار حوامل الطاقة وتعديل أسعار المطاعم وغيرها من المنشآت يجب أن ترافقها إجراءات احتياطية من الحكومة إذا كان سيؤثر في جميع مفاصل الحياة، وهو ما يعني زيادة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة ولن يدفع ضريبته سوى المواطن السوري الذي يكافح يوميا حتى يستطيع تأمين قوت يومه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات