تصدم أحيانًا تصريحات السياسيين بطريقة لا تقل إثارة من الأفلام الدرامية العديد من المواطنين، ومن بين هذه الصدمات جلسة مجلس الشعب الأخيرة، التي تحولت إلى حلبة مفتوحة للتهكم والجدل حول سياسات التوظيف المفتوحة في دولة لا تكاد تستحمل أعباءها المالية. 

الاستماع لرئيس الحكومة السورية، حسين عرنوس، وهو يُلقي كلماته المُبطنة عن التوظيف في مؤسسات الدولة، يشي بأن هناك حفل وداع كبير سيقام في قادم الأيام، كما حدث مع نصف مليون عائلة سورية بعد استبعادهم من منظومة الدعم الحكومي.

كلمات عرنوس التي عبّرت عن سياسة التوظيف المفتوحة وتهديدها الذي لم يَعد يُحتمل، وكأنها فِرق تعزف موسيقى الدمار المالي، لتقول إن التوظيف المفتوح أسوأ ما يمكن أن تنتهجه دولة تسعى للتخفيف من أعباء البطالة وإنقاذ موازنتها الهشة.

مصير أفواج الموظفين في خطر

يبدو أن رئيس الحكومة أخيرا فهم الخطأ الذي ارتكبه بتنفيذ سياسة التوظيف المفتوحة هذه، ولكن عندما يتكلم عن سياسة ضبط سعر الصرف يبرز السؤال، هل سيتم التضحية بالموظفين الحاليين والذين يبلغون بحسب إحصائيات رسمية حوالي 2 مليون ونصف المليون.

كانت الدولة بوضع اقتصادي مريح أكثر في سياسة التوظيف - إنترنت
كانت الدولة بوضع اقتصادي مريح أكثر في سياسة التوظيف – إنترنت

هذا السؤال لم يكن موضع اهتمامه خلال الجلسة التي عُقدت الإثنين الفائت داخل مجلس الشعب، إلا أنه يبدو أن هناك خطة محكمة وواضحة للتعامل مع أزمة التوظيف المفتوحة وتقليص أعداد الموظفين الذين يُعيلون أُسرهم بهذه الرواتب الباهتة.

المحامي عارف الشعال، علّق على حديث عرنوس، بأن الحديث عن ضرر سياسة الاستيعاب الوظيفي، وأنه لا يمكن أن تجمع الدول بين سياسة التوظيف المفتوحة وبين الأجور المُرضية للعاملين في الدولة، دون الحديث عن سبل معالجتها، ومصير أفواج الموظفين الفائضين عن الحاجة، لا يعفيه من أن يكون لديه سياسة واضحة ومعلنة.

التوظيف المفتوح، بحسب الشعال واحد من أسوأ السياسات الاشتراكية التي كانت تنتهجها دول المعسكر الاشتراكي، وأكثرها إضرارا بالموازنة العامة للدولة، وغايتها أن تستوعب الدولة بمرافقها المختلفة غالبية القوى العاملة في المجتمع للحدّ أو القضاء على البطالة.

السلطة تسير عكس عقارب الساعة

هذه السياسة المؤذية التي تتنافى مع مبدأ الملاكات الوظيفية حيث تُحدد لكل جهاز حكومي عدد وماهية الوظائف التي يحتاجها لسير عملة وتخصص لها الميزانية المناسبة، ولا يتم تجاوز هذا العدد المحصور بدقة بقانون الملاكات الوظيفة، لم تنتبه لها السلطة عام 1990 عندما انهار المعسكر الاشتراكي بكامله، فلم تعمد لدراسة أسباب انهياره وتلافي السياسات الخاطئة التي ارتكبها وأدت لهذا الانهيار.

هل سيتم تضحية بالموظفين الحاليين؟ - إنترنت
هل سيتم تضحية بالموظفين الحاليين؟ – إنترنت

طبقا لحديث المحامي السوري، فإنه عندما تفجّر الوضع في العام 2011 حينما كانت الدولة بوضع اقتصادي مريح أكثر، كانت هناك فرصة للسلطة أن تراجع سياساتها الاقتصادية، ومن بينها هذه السياسة الضارة، ولكنها لم تفعل؛ بل على العكس قامت بمزيد من سياسة الاستيعاب الوظيفي عبر عقود عمل مؤقتة، كان لها مفعول جيد في البداية ثم تبين ضرره فيما بعد، فتراجعت عنه.

بحسب الصحفي طارق قاسم، فإن الفرضية التي تطرحها المنظومة السياسية، عن إحالة الخلل البنيوي في صلب هذه المنظومة واختزاله في “ضرر سياسة الاستيعاب الوظيفي”، هي محاولة متأخرة جدا لتبرير ما هي مقدمة عليه لقاعدتها الشعبية.

هذا الحديث والعوار الفاضح الذي جله كلام مبهم من قبل عرنوس، في معرض الحاجة إلى بيانات وأرقام توضح بدقة وتغطي كل مرحلة عقدية؛ تعطي فكرة واضحة عن التوجه السائد إلى مرحلة قريبة نسبيا.

الحكومة لم يعد لديها ترف الانتقاء؟

أفواج الموظفين الفائضين عن الحاجة، هذه الكلمات القاسية التي قالها عرنوس، تصف مصير مجموعة من الموظفين الذين وقعت السلطة في فخها بعد العام 2003. فهؤلاء الضحايا، الذين يحملون الآن عبء المسؤولية عن الاندفاع غير المسؤول والمحسوب للسيطرة على كل جزء من حياتهم المهنية والشخصية، يتحملون أثقال القرار الجائر القادم.

هل سيتم تضحية بالموظفين الحاليين؟ - إنترنت
هل سيتم تضحية بالموظفين الحاليين؟ – إنترنت

الأوضاع الاقتصادية الحرجة التي يمر بها البلد بسبب الحكومة يبدو أنها ستجبر عرنوس على اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة. فلم يعُد لديه ترف الاختيار من بين عدة خيارات مريحة وهادئة. بل صار لديه خيار وحيد وهو اللجوء إلى دواء الأمراض العضالة، أي التعامل مع مشكلة العاملين الفائضين بطرق صعبة وقاسية لتخفيف العبء عن الاقتصاد.

في كانون الثاني/يناير الفائت، أشار الاستشاري في برنامج الشرق الأوسط في مركز “تشاتام هاوس” البريطاني، حايد حايد، إلى أن الموازنة العامة للدولة التي أعلنت عنها الحكومة السورية تكشف النّية لخفض الدعم الاجتماعي، مشيرا إلى أن عرض الميزانية الجديدة على أساس قيمتها بالعملة المحلية أمر مضلل.

مشروع ميزانية الدولة للعام 2023، كان بقيمة 16.5 ترليون ليرة سورية، ومع الأخذ بعين الاعتبار التضخم في سوريا، فإن مشروع ميزانية العام 2023 هو في الواقع الأدنى على الإطلاق مقابل الدولار الأميركي، حتى عند احتسابها باستخدام سعر الصرف الرسمي، حيث تبلغ مسودة الموازنة نحو 3.6 مليارات دولار، مقارنة بـ 5.3 مليارات دولار في العام 2022، و6.8 مليارات دولار في العام 2021، و 9 مليارات دولار في العام 2020.

بين الجدّية والتهكم، يبدو أن حفل وداع الموظفين سيُقام قريبا، ولن يكون مُستضيفا إلا من كان ضحية هذه السياسة الجائرة. لا سيما وأن الأوضاع الراهنة لا تزال تبعث على التوتر والقلق، وهذا الجو المشحون بالتوتر يجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل العاملين الفائضين عن الحاجة وكيفية تأثير هذا القرار القاسي على مستقبلهم ومعيشتهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات