بعد سلسلة صدمات تلقاها الاقتصاد الصيني في ظرف زمن قياسي بالنسبة لحالة الصعود التي شهدها طوال السنوات الماضية، يبدو أن بكين تعيش مجددا كابوس أزمة جديدة قد تؤدي بتداعيات كبيرة بسبب تعثر قطاع العقاري، الذي سبق ومرّ في مرحلة من التلكؤ الحادة، ما يثير قلقا واسعا من أن ينعكس ذلك على مستوى نمو الناتج المحلي، بخاصة أن هذا القطاع يمثل ما بين 25 و30 بالمئة من حجم الاقتصاد الصيني.
فبعد عامين من الصدع الكبير الذي أحدثه تخلّف واحدة من أكبر المجموعات العقارية شركة “إيفرغراند” العملاقة عن سداد ديونها ودخولها في دوامة من الخسائر السنوية الضخمة التي توازي حجم موازنات عدة دول نامية مجتمعة، يتعرض القطاع العقاري الصيني لمزيد من التشققات، نتيجة هبوط أسهم شركة “كانتري غاردن” في تعاملات الإثنين الماضي، والتي تواجه أزمة سداد ديونها هي الأخرى.
“كانتري غاردن” التي تُعد أكبر ما تبقّى من الشركات العقارية الصينية التي لم تفلس خلال العامين الماضيين، علّقت التداول على نحو 10 من سندات الدين المحلية، وأدى ذلك إلى موجة بيع كثيفة لكل الأسهم المرتبطة بالقطاع العقاري الصيني، ما أثار مخاوف من أن أزمة السيولة في قطاع العقارات الصيني المستمرة منذ عامين على وشك أن تصل ذروتها، بخاصة مع تخلّف الشركة العقارية عن سداد ما عليها من مستحقات تتعلق بسندات دولية الأسبوع الماضي.
هبوط حاد بأسهم القطاع العقاري الصيني
فسهم الشركة هوى بنحو 18.4 بالمئة، بعدما أغلقت بورصة “هونغ كونغ” دون 1 دولار للمرة الأولى في تاريخها، الأسبوع الماضي، لتتفاقم خسائره المتواصلة منذ بداية العام الجاري وتصل إلى نحو 77 بالمئة، مسجلا أسوأ أداء بين الشركات المدرجة ضمن مؤشر “هانغ سنغ” الرئيسي في بورصة “هونغ كونغ”.
ذلك أدى إلى هبوط أسهم الشركات المماثلة، فتراجع سهم شركة “جينماو هولدنغ” العقارية بنسبة 9.8 بالمئة، ومع انهيار الأسهم المرتبطة بقطاع العقارات، هبط مؤشر الشركات العقارية في الداخل الصيني لبورصة “هونغ كونغ” بنسبة 4.8 بالمئة، وبذلك يكون ذلك المؤشر فقد 50 بالمئة من قيمته خلال الشهر الحالي، بينما انخفض “هانغ سنغ” المؤشر العام لبورصة “هونغ كونغ” بنسبة 2.5 بالمئة، الأمر الذي بات يمثل خطرا جديدا على اقتصاد الصين.
بالتالي ما لم تتدخل الحكومة الصينية لدعم السيولة في القطاع العقاري فإن تبعات تلك الانهيارات ستؤثر بشدة على فرص النمو، بخاصة وأن الحكومة الصينية كانت قد أعلنت عن عزمها دعم النشاط الاقتصادي بحِزم دعم معقولة، لاسيما مع ضعف التعافي إثر فتح الاقتصاد عقب إغلاقات فيروس “كورونا” نهاية العام الماضي.
فبكين كانت تتوقع تحقيق انطلاقة اقتصادية قوية بعد أكثر من عامين من الإغلاق المشدد بسبب “كورونا”، في حين أن معدلات النمو لم تكن قوية كتوقعات السوق، حيث كان آخر تلك المؤشرات هي أرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني للربع الثاني من العام، التي أعلنت قبل أيام وأظهرت نمو الاقتصاد بنسبة 6.3 في المئة، بينما كانت توقعات السوق للنمو في الربع الثاني بنسبة 7.1 بالمئة.
هذه الأزمات المتوالية على الاقتصاد الصيني، تأتي بينما كانت الحكومة الصينية تستهدف نموا لهذا العام كله في المتوسط بنسبة ما بين خمسة و5.5 بالمئة، إلا أن التردد في التدخل بحِزم تحفيز، ربما ليس للقطاع العقاري فقط، وإنما لقطاع التكنولوجيا والقطاع المالي وغيره، قد تجعل تحقيق نسبة النمو المستهدفة أكثر صعوبة، وهو ما قد ينعكس على الوضع الاقتصادي بشكل عام في الصين.
هذا وتأسست “كانتري غاردن” عام 1992، عندما مهدت الإصلاحات الوطنية في الصين الطريق لشركات القطاع الخاص لدفع التوسع الحضري في الصين، حيث نمت الشركة سريعا لتصبح أكبر مطوّر في البلاد من حيث المبيعات، والتي تجاوزت نصف تريليون يوان في كل عام من 2018 إلى 2021.
كما كان يُنظر لها بعد تخلف “إيفرغراند” والمطورين الآخرين عام 2021، على أنها مستقرة، لكن إعلانات التخلف عن سداد الديون والخسائر المسجلة أخيرا ضمتها إلى قائمة شركات القطاع المتصدعة، ففي تموز/يوليو الماضي، تراجعت مبيعاتها إلى 40 بالمئة من مستواها العام الماضي، وانخفضت المبيعات لمدة أربعة أشهر متتالية، مما أدى إلى تفاقم أزمة السيولة لديها.
طموحات كبيرة وقدرات محدودة
تعليقا على ذلك، يقول المختص في النظام المالي والاقتصادي علي التميمي، إن أي تخلّف عن السداد سيؤثر على سوق الإسكان في الصين أكثر من انهيار “إيفرغراند”، ذلك بسبب أن “كاونتري غاردن” تمتلك أربعة أضعاف عدد المشاريع، مضيفا أن أزمة الديون سيكون لها تأثير بعيد المدى على معنويات سوق الإسكان في الصين، ويمكن أن تضعف بشكل كبير ثقة المشترين لدى المطوّرين في القطاع الخاص.
بالإضافة إلى ذلك، فكما هو معروف أن أي نتاج محلي مرتبط بشكل كبير بالقطاع العقاري، يشير التميمي، ويضيف أن تلكؤ القطاع العقاري يعني تأخر نمو الناتج المحلي ما يعني تصدع الاقتصاد الوطني بشكل عام، وهو ما يبدو أن الصين مقبلة عليه ما لم تتخذ الحكومة الصينية إجراءات سريعة ولا تحتمل تكاليف إضافية، خصوصا وإن ما يشهده القطاع العقاري الصيني في الأساس سببه سوء الإدارة منذ سنوات.
فالصين، وفق التميمي، كانت قد تبنت سياسات أكبر من قدرتها الاقتصادية، ومن هذه السياسات دعم القطاع العقاري الخاص، ضمن خطة في الواقع كان لها أثر كبير في البدايات، لكنه على ما يبدو لم تحسب تبعاتها، لذا تواجه الصين منذ سنوات هذه المشكلة المتراكمة والمتمثلة بعدم قدرة الشركات على سداد الديون، وعدم قدرة الحكومة نفسها على دعم هذا العجز لدى المطورين.
التميمي لفت إلى أن الصين لم تكن تمتلك خيارات أمام أزمة الديون المتراكمة في القطاع العقاري، لذلك واصلت تشديد القيود على القطاع الخاص إبّان “كورونا”، لأنها كانت تدرك جيدا أن المشكلة لا تكمن في تخفيف القيود فحسب، بل أن تخفيف القيود كان قد يضعها داخل أزمة مركبة صحية واقتصادية، في حين أن المشكلة في سياسات ونظام عمل القطاع العقاري، فالصين باتت بحاجة إلى إعادة النظر في هذا القطاع، ووضع حدٍّ لسياسات تسعينيات القرن الماضي، وإلا ستكون أمام مأزق يصعب الخروج منه.
في السياق، كانت شركة “كانتري غاردن” يوما ما أكبر مطوّر عقاري في القطاع الخاص في الصين من حيث المبيعات، إلا أنها تراجعت هذا العام إلى الترتيب السادس تحت ضغط من الصعوبات المالية والتشغيلية وثقل الديون التي تصل إلى نحو 194 مليار دولار، لتواجه خطر الانضمام إلى عدد كبير من الشركات المتعثرة، الأمر الذي دفعها لمواجهة أزمة في سداد الديون.
فنتيجة لذلك، اقترحت الشركة الأسبوع الماضي، جدولة سداد سندات بالعملة المحلية تستحق في الثاني من أيلول/سبتمبر المقبل، على مدار 3 سنوات، وفق وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، وذلك بعد نحو أسبوع من تخلف الشركة عن سداد مدفوعات الفائدة على سندين مقومين بالدولار بقيمة 22.5 مليونا.
إلى ذلك، من شأن أي انهيار لـ”كانتري غاردن” أن يحمل تداعيات كارثية على النظام المالي والاقتصاد الصيني، حيث ذكرت في إفصاح نشرته بورصة “هونغ كونغ” مطلع آب/أغسطس الجاري، أنها تتوقع أن تبلغ خسائرها في النصف الأول من 2023 ما بين 45 مليارا و55 مليار يوان، أي حوالى 6.2 مليارات إلى 7.65 مليارات دولار مقارنة بأرباح قيمتها 1.91 مليار يوان بالنصف الأول من العام الماضي، متأثرة بتدهور المبيعات وبيئة إعادة التمويل أخيرا.
عدة أزمات إلى جانب تداع القطاع العقاري الصيني
مشاكل “كاونتري غاردن” تكشف مدى عمق أزمة العقارات التي تستمر منذ عامين في الصين، مما يلقي بظلال من الشك على جدوى المطوّرين من القطاع الخاص الذين قادوا لعقود التوسع الحضري والنمو الاقتصادي في البلاد، إذ إن الأزمة دفعت الحكومة الصينية بالفعل أخيرا إلى إظهار علامات على تخفيف قواعد إقراض المطوّرين العقاريين.
الحالة التي تعيشها “كاونتري غاردن” وتنذر بتداعيات قاسية على مستوى قطاع العقاري والاقتصاد الصيني بشكل عام، هي جزء من مشهد عام يعيشه قطاع العقارات الصيني وتتوالى فيه الأزمات التي بدأت بإفلاس “إيفرغراند” في عام 2021 تحت وطأة مديونية هائلة تصل إلى 300 مليار دولار.
من الأسباب التي فاقمت من هذه الأزمات على مدى العامين الماضيين؛ هو انهيار المبيعات العقارية، بخاصة في ظل تراجع مشتريات الأجانب كذلك تشديد القيود على الوصول إلى السيولة النقدية، بالتالي تراكم المديونيات الهائلة على المجموعات العقارية، جعل بعض الشركات تعلن إفلاسها كما فعلت “إيفرغراند” عندما تخلفت عن سداد مستحقات الدين والسندات، وهو ما يتوقع أن تفعله “كانتري غاردن” ما لم تكن هناك حلول سريعة.
بيد أن هذه التحديات لا تقتصر على الشركات العقارية الخاصة، بل إن شركات التمويل والصناديق الخاصة المنكشفة أكثر على القطاع العقاري في بداية أزمة هي الأخرى، مما يهدد بانتشار عدوى الانهيارات في القطاع المالي الصيني، وربما في قطاعات أخرى.
ما عزز من تلك المخاوف تخلف واحدة من أكبر شركات التمويل الخاصة في الصين “جونغرونغ إنترناشيونال ترست كو” التي تستثمر بكثافة في القطاع العقاري عن سداد بعض التزاماتها من الأوراق المالية في الموعد المحدد، ونتيجة تخلفها عن السداد، هبطت أسهمها أيضاً بقوة لدى فتح السوق هذا الأسبوع.
يشار إلى أن، شركات التمويل وصناديق الإقراض الخاصة تمثل في الصين قطاعا يوصف بأنه “صيرفة الظل”، إذ تعمل تلك الشركات كوسيط يستخدم سيولة المخدرات لدى القطاع المصرفي الرسمي لتمويل الشركات والأعمال التي يصعب عليها الاقتراض مباشرة من البنوك، أو الحصول على التمويل المصرفي بأشكال الائتمان المختلفة نتيجة القيود التنظيمية المشددة.
فحجم قطاع شركات التمويل وصناديق الإقراض والاستثمار الخاصة في الصين، يصل إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار، أي تقريبا ما يماثل حجم اقتصاد بريطانيا، بالتالي فإن انتقال عدوى الأزمة من القطاع العقاري إليه قد يؤدي إلى أزمة أوسع في الاقتصاد ككل، وربما للاقتصاد العالمي أيضا في ظل هشاشة وضعه، بخاصة أن الصين تعد عنصرا اقتصاديا أساسيا في العالم وتتشابك مع معظم الاقتصادات الرئيسة حول العالم.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.