في السماء اللازوردية للمحيط الهادئ، تتجلى جوهرة استراتيجية تحمل في طياتها وعودا وتحديات تمتد عبر الساحات الدولية. إنها “غوام”، الجزيرة الأميركية التي تختلط فيها أصداؤها بنسيم السياسة والاستراتيجية العالمية، تكشف الستار عن خطوة جريئة من الولايات المتحدة، التي تستعد بجدية وقوة لمواجهة الصين في مسرح العلاقات الدولية. 

ففي ظل التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الشمالية، تبرز دور جزيرة “غوام” كأحد أهم المواقع الاستراتيجية للقوات الأميركية في المحيط الهادئ. إذ تُعتبر “غوام”، التي تبعد نحو 3400 كيلومتر عن شنغهاي ونحو 3400 كيلومتر عن بيونغ يانغ، نقطة محورية للتواجد العسكري الأميركي في المنطقة، حيث تضم قاعدة “أندرسن” الجوية وقاعدة “نافال بيس غوام” البحرية، إضافة إلى عدد من المنشآت الأخرى. كما تستضيف هذه القواعد نحو 7000 عسكري أميركي، بالإضافة إلى مجموعة من الطائرات والسفن والصواريخ والرادارات والأقمار الصناعية.

لا شك أن معركة النفوذ والتأثير باتت تتصاعد، والأضواء مسلّطة على جزيرة “غوام” كمسرح جديد للتنافس الجيوسياسي. وبينما يتخطى الحديث الشائك حول كيفية التعامل مع تداعيات العلاقات الأميركية – الصينية، يظهر اهتمام واضح من وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” بتصعيد تواجدها العسكري في هذه الجزيرة البعيدة، لكن ما هي الإشارات والتطورات التي تشير إلى أهمية “غوام” كقاعدة عسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، وكيف قد يؤثر تكثيف الوجود العسكري الأميركي في “غوام” على التوازنات الإقليمية والعلاقات الدولية في المحيط الهادئ.

الرهان على جزيرة “غوام”

القوة الجوهرية لـ”غوام” لا تقتصر فقط على جغرافيتها الاستراتيجية، بل تمتد إلى طبيعة تضاريسها وما تمثله من منصة لتنفيذ العمليات العسكرية. إذ يبدو أن التنسيق والتخطيط الدقيق هما في صميم الاستعداد لمواجهة الصين وحتى كوريا الشمالية. 

ما يؤكد ذلك تصريح وزيرة الجيش الأميركي، كريستين ورموت، حين أعلنت الجمعة الفائت بوضوح أن تعزيز الوجود العسكري في “غوام” لن يكون مجرد احتياطي، بل سيشهد زيادة فعلية وتدريجية، وهي رسالة لا لبس فيها بأن هذا القرار ليس مجرد مبادرة فردية، بل يأتي في إطار استراتيجية أوسع لدعم مصالح وأمن الولايات المتحدة.

لا يُمكن النظر إلى الأمور من زاوية واحدة فقط؛ فهناك جوانب معقدة ترتبط بتوسيع التواجد الأميركي في هذه الجزيرة. حيث تحظى “غوام” بأهمية استراتيجية لواشنطن دفعتها لاختيارها مقرا لأهم المنشآت العسكرية بمنطقة المحيط الهادئ، حسب وكالة المخابرات الأميركية.

الجزيرة تضم قاعدتين أميركيتين جوية وبحرية على بعد 3100 كم إلى الجنوب الشرقي من كوريا الشمالية، وقاعدة “غوام” الجوية تعد منطلقا لأسراب القاذفات الاستراتيجية “بي-1″ و”بي-2″ و”بي-52”. أيضا القاعدة يرابط فيها سرب من 4 غواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية وسفينتين لدعم الغواصات وتزويدها بالإمدادات. فضلا عن أنها تضم الدرع الصاروخية لمنظومة “ثاد”؛ ما يحميها من صواريخ كوريا الشمالية والصين.

في جلسة استماع أمام مجلس “الشيوخ” في آذار/مارس 2021، أعرب الأدميرال فيليب ديفيدسون، الذي كان يقود سابقا القوات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، عن تقديره بأن الصين قد تقوم بغزو تايوان في غضون ست سنوات وتشكل تهديدا لجزيرة “غوام”. وشدد على أن ذلك يمكن أن يسرِّع خططها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بحلول العام 2050.

وفقا لتقرير نشرته مجلة “إيكونوميست” البريطانية، فإن الصين تشير بصورة علنية إلى استهداف جزيرة “غوام” بواسطة صاروخ “DF-26″، والذي يتمتع بمدى يصل إلى أربعة آلاف كيلومتر. وقد أطلق عليه اسم “قاتل غوام” نظرا لقدرته المحتملة على التأثير على هذه الجزيرة الاستراتيجية.

من جانبها، كشفت كوريا الشمالية في عام 2017 عن خطتها لاستهداف المنشآت والقواعد الأميركية في جزيرة “غوام” باستخدام صواريخ باليستية من طراز “هواسوانغ 12”. وتلك الخطوة تجسِّد تهديدا واضحا من جانب كوريا الشمالية تجاه هذه المنطقة الحساسة.

إمبراطورية القواعد الأميركية

الدور الاستراتيجي لجزيرة “غوام” في مواجهة الولايات المتحدة للتحديات الصينية والكورية الشمالية في المنطقة بحسب حديث الأكاديمي والخبير في السياسية الأميركية، جاستن كرو، لـ”الحل نت”، هو أنها تعمل كنقطة محورية للتواجد العسكري الأميركي في المحيط الهادئ، حيث تضم قواعد عسكرية تستخدم للمراقبة والاستطلاع والتدريب والتجهيز والتنسيق والتدخل في حالات الأزمات. 

كما تعمل “غوام” كمنصة لإطلاق الطائرات والسفن والصواريخ الأميركية التي تستهدف مناطق حساسة في شبه الجزيرة الكورية ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر الجزيرة كحلقة وصل بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين.

أما العوامل التي تجعل “غوام” مكانا مهما لتوسيع الوجود العسكري الأميركي في المحيط الهادئ تبعا لحديث كرو، فأولا، موقعها الجغرافي المتميز، مما يجعلها قادرة على التأثير على مصالح وأمن دول المنطقة. ثانيا، حالتها السياسية والقانونية، حيث تعتبر أرضا أميركية غير مضمَّنة، مما يعطيها حقوقا خاصة تختلف عن باقي الولايات المتحدة، مثل عدم اشتراط التأشيرات لزائريها من دول أخرى، وإمكانية إبرام اتفاقات دفاعية مع دول أخرى دون موافقة “الكونغرس”. 

أيضا يتشارك معظم سكانها من أصول شامورية وهو شعب أصيل من جزر المحيط الهادئ، مع دول أخرى في المنطقة، مثل بالاو وجزر مارشال وجزر ماريانا، مما يسهل التفاهم والتعاون بينهم. فضلا عن أن التطورات والتحديات في المنطقة، حيث يشهد المحيط الهادئ صراعا متصاعدا بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الشمالية، بسبب النزاعات حول الحدود والموارد والنفوذ والأمن في المنطقة، مما يدفع الولايات المتحدة إلى تعزيز قدراتها العسكرية والدبلوماسية في “غوام” للحفاظ على مصالحها وحلفائها.

وفقا لتقدير كرو، فإن تكثيف الوجود العسكري الأميركي في “غوام” تعزز من قدرة الولايات المتحدة على التصدي للتهديدات الصينية والكورية الشمالية بعدة طرق، منها توفير قاعدة متقدمة للقوات الأميركية في المحيط الهادئ، حيث يمكن من خلالها إطلاق عمليات عسكرية سريعة وفعالة ضد أهداف محتملة في المنطقة، مثل مواقع الصواريخ النووية في كوريا الشمالية، أو جزر متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.

علاوة على ذلك، تحسين قدرات الاستطلاع والإنذار المبكر والدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة في المنطقة، حيث يمكن من خلال “غوام” نشر أنظمة رادار وأقمار صناعية وطائرات بدون طيار وصواريخ مضادة للصواريخ، لرصد وتتبع واعتراض أي هجمات صاروخية أو جوية من قبل الصين أو كوريا الشمالية.

إضافة لكونها نقطة لتقوية التحالفات والشراكات مع دول المنطقة، حيث يمكن من خلال “غوام” إجراء تدريبات وتبادلات عسكرية مشتركة مع دول حليفة للولايات المتحدة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين، لزيادة التنسيق والتكامل بينهم، وإظهار التضامن والتزام بضمان أمن المنطقة.

هل من مواجهة؟

من الواضح أن تمسك واشنطن بالقواعد العسكرية في الجزيرة، هو لإظهار تصميم وإرادة للولايات المتحدة في مواجهة التحديات في المنطقة، حيث يمكن من خلال “غوام” إرسال رسائل سياسية واستراتيجية للصين وكوريا الشمالية، بأن الولايات المتحدة لديها قدرة وإمكانية وجودية عسكرية كافية في المحيط الهادئ، لحماية مصالحها وحلفائها، والاستجابة لأي تهديد أو استفزاز من جانبهم.

بعض الإشارات والتطورات التي تشير إلى أهمية “غوام” كقاعدة عسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، وفقا لتحليل كرو، حيث إن إعلان وزيرة الجيش الأميركي كريستين ورموت، بأن الوجود العسكري في غوام سيتزايد، جاء بعد تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الشمالية بسبب النزاعات حول الحدود والموارد والنفوذ والأمن في المنطقة، فضلا عن تهديد كوريا الشمالية لـ “غوام” بإطلاق صواريخ نووية عليها.

قد يؤثر تكثيف الوجود العسكري الأميركي في “غوام” على التوازنات الإقليمية والعلاقات الدولية في المحيط الهادئ بعدة طرق، منها تحسين قدرة الولايات المتحدة على حماية مصالحها وحلفائها في المنطقة من أي تهديد أو استفزاز من قبل الصين أو كوريا الشمالية.

تواجد القواعد العسكرية في “غوام” من المؤكد سيؤثر على استراتيجية الصين وكوريا الشمالية في المنطقة، من خلال دفعهما إلى عدم تطوير قدراتهما العسكرية والنووية والصاروخية لمواجهة أو التفكير في ضرب المصالح الأميركية، وعدم تنفيذهما أي عمليات استفزازية أو هجومية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة، مثل إطلاق صواريخ أو اختبارات نووية أو احتلال جزر متنازع عليها.

أيضا فإن ذلك، سيدفعهما بحسب رأي الأكاديمي والخبير في السياسة الأميركية، إلى تحسين علاقاتهما مع بعضهما ومع دول أخرى في المنطقة، وعدم تشكيل تحالفات أو شراكات تعزز من نفوذهما وتقلل من الضغط الأميركي. فضلا عن أن ذلك سيدفعهما إلى البحث عن حلول سياسية أو دبلوماسية لحل النزاعات والخلافات مع الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة، مثل المفاوضات أو الحوار أو التعاون.

“غوام” الجزيرة المحيّرة، تبقى هي الجزيرة التي تعيد ترتيب أوراق الصراعات والتحالفات الدولية، خصوصا مع تهديدات بكين وبيونغ يانغ، إذ إن مثل هذه الخطوات تُبنى على أسس قوية ورؤى استراتيجية دقيقة لدى الولايات المتحدة لأنها ليست مجرد قواعد عسكرية، بل هي مفاتيح اللعبة الدولية الكبرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات