في ليلة واحدة، تغيرت حياة الملايين من السوريين بشكل جذري، بعد أن أصدرت السلطات السورية قرارات اقتصادية غير مسبوقة، تشمل زيادة مئوية على الرواتب والأجور والمعاشات للعاملين والمتقاعدين في الدولة، وإلغاء الدعم عن مادة البنزين بشكل كامل، ورفع أسعار النفط ومشتقاته بكافة الأصناف. 

هذه القرارات، التي جاءت في ساعات متأخرة من مساء يوم 15 آب/أغسطس 2023، لم تهدف إلى مواجهة التضخم المتفاقم في سوريا، الذي بلغ نسبة 3000 بالمئة في شهر تموز/يوليو الماضي، والذي يؤثر سلبا على قدرة المواطنين على شراء السلع والخدمات الأساسية.

اعتماد منتصف الليل للإعلان عن قرارات مفاجئة وجريئة في سوريا تُثير تساؤلات متعددة وتفتح نقاشات واسعة حول تأثيرها المحتمل على الاقتصاد وحياة المواطن السوري. فبينما ينظر البعض إلى هذه القرارات على أنها خطوة جريئة نحو تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في وقت تعيش فيه البلاد تحديات ضخمة، يرى آخرون بأنها انعكاسات قد تفاقم من معاناة الشعب وتعقيداته الاقتصادية.

زيادة بزيادة

بقرار متوقع منذ أشهر، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 11 للعام 2023، حيث يتضمن هذا المرسوم إضافة نسبة مئة بالمئة إلى الرواتب والأجور المقطوعة النافذة اعتبارا من تاريخ صدوره. وتشمل هذه الزيادة العاملين في جميع قطاعات الدولة، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، ولا تقتصر عليهم فحسب، بل تشمل أيضا المشاهرين والمياومين والمؤقتين، بغض النظر عن وضعهم الوظيفي الحالي.

بالإضافة إلى ذلك، تشمل هذه الزيادة أيضا العاملين على أساس الدوام الجزئي، أو حتى على أساس الإنتاج أو الأجر الثابت والمتحول.

ليس هذا فقط، فقد شهدت تلك الليلة قرارات توسيع دائرة تغطية الزيادة لتشمل أصحاب المعاشات التقاعدية بتوقيع المرسوم التشريعي رقم 12 للعام 2023. حيث تأتي هذه الخطوة بمنح أصحاب المعاشات التقاعدية للعسكريين والمدنيين الذين يخضعون لأنظمة التأمين والمعاشات والتأمينات الاجتماعية النافذة، زيادة مقدارها مئة بالمئة من قيمة المعاش التقاعدي. 

في ذات الوقت، لم تتوانَ الحكومة عن إصدار قرارها الخاص بإلغاء الدعم عن البنزين بشكل كامل، بل قررت رفع أسعار المشتقات النفطية بخمسة قرارات، حيث أعلنت رئاسة مجلس الوزراء، أنه بناء على مقتضيات المصلحة العامة، فتم تحديد سعر المبيع للمستهلك من مادة المازوت المدعوم بـ 2000 ليرة سورية للتر، والمازوت الصناعي المقدم لكل من الصناعات الزراعية، والمشافي الخاصة، ومعامل الأدوية بـ 8000 ليرة سورية للتر.

كما نص القرار على تحديد سعر المبيع للمستهلك من مادة البنزين الاوكتان 90 المدعوم بـ 8000 ليرة سورية للتر، والمازوت للمخابز التموينية الخاصة بـ 700 ليرة سورية للتر، وسعر مبيع للمستهلك من مادة البنزين الممتاز الاوكتان 95  بـ 13500 ليرة سورية للتر.

أيضا طرح المجلس سعر المبيع للمواد المذكورة الموزعة للقطاع الصناعي والقطاعات الأخرى، المازوت الحر بـ 11550 ليرة سورية، والفيول الطن بـ 7887500 ليرة سورية، وطن الغاز السائل دوكما بـ 9372500 ليرة سورية.

ارتفاع معدلات التضخم وزيادة كبيرة في الأسعار

في تصريحات سابقة برر الوزير المقال، عمرو سالم، أن صدور قرارات الحكومة وخصوصا فيما يتعلق برفع الأسعار عند منتصف الليل كان اضطراري؛ من أجل أن يسري مفعول القرار الجديد عند الدقيقة الأولى من اليوم الجديد. وهذا ما حدث فعلا مع قرار رفع أسعار المشتقات النفطية، إلا أن قرار الزيادة التي أصدرهما الأسد لن يُعمل بهمها إلا من أول الشهر الذي يلي تاريخ صدورهما.

من جهته، يرى الخبير في المجال الاقتصادي، ماجد الحمصي، خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن القرارات الأخيرة هي اعتماد حكومي رسمي للتضخم، ولن تكون إلا شرارة لتبعات أزمات متلاحقة، حيث لن تخفف من حدة الضغوط المالية وستعزز من انهيار القدرة الشرائية للمواطنين. 

رغم أن التحدي الرئيسي الذي كان أمام الحكومة هو التوازن الهش بين زيادة الرواتب والتضخم المحتمل الذي سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل متسارع، إلا أن القرارات الأخيرة النابعة عن سوء السياسة الاقتصادية لدى دمشق لن تعزز الاستدامة المالية للدولة.

من ناحية أخرى بحسب الحمصي، يظهر قرار إلغاء الدعم عن مادة البنزين وزيادة أسعار النفط ومشتقاته كخطوة مثيرة للجدل. إذ يُقدر أن هذه الخطوة تهدف إلى تحقيق موارد إضافية للدولة والتخفيف من العبء المالي الثقيل. ومع ذلك، يعكس هذا القرار تحديا كبيرا في توازن المصالح بين الدولة والمواطن، حيث من المؤكد سيزيد من تكاليف المعيشة ويؤدي إلى مزيد من الضغوط على الشعب المتضرر بالفعل.

تعميق الإفقار.. دون أي تصور للحلول

قرارات الحكومة السورية برفع المشتقات النفطية، هي السبب وراء تدمير القاعدة الإنتاجية والبنية التحتية للبلاد، وتفاقم التضخم والفقر والجوع طبقا للخبير الاقتصادي. 

إذ إن حلول الأزمة الاقتصادية يجب أن تكون مبنية على استراتيجيات جدية تضع في الاعتبار الأسباب التي عصفت باقتصاد البلاد، والتي تتمثل في قدرة الحكومة السورية على زيادة معدلات الإنتاج المحلي في مختلف القطاعات، وتحسين بيئة الأعمال، ومكافحة الفساد، واستثمار الموارد والإمكانيات الوطنية، وليس الذهاب نحو تعميق الهوة.

النشرة السنوية لـ”البنك الدولي” تظهر أن سوريا تشهد انهيارا اقتصاديا وديموغرافيا؛ وتشير التوقعات إلى استمرار التدهور في سوريا، مع انكماش متوقع للناتج المحلي بنسبة 5 بالمئة في عام 2023.

إن تعميق الإفقار وعدم وجود تصور واضح للحلول يعدان تحديين خطيرين يواجهان الحكومة السورية في ظل القرارات الأخيرة التي اتخذتها. ويظهر هذا السيناريو وكأنه لوحة مأساوية ترسم مستقبل غامض، حيث لم تستفد السلطات من هذا الوقت لتقديم خطط واضحة وحلا شاملا للمشاكل الاقتصادية المتنامية.

تبعا لحديث الحمصي، فإن الظروف الحالية من المفترض أن تجبر الحكومة في البحث عن حل شامل ومستدام للتحديات الاقتصادية التي تواجهها سوريا، حيث يجب أن تكون الحكومة على استعداد للعمل على تعزيز الاستثمارات وتشجيع القطاع الخاص وتنمية مصادر الإيرادات غير النفطية. 

خلال السنوات القليلة الماضية عمدت الحكومة السورية على رفع أسعار المحروقات من حين لآخر، بحجة الأسعار العالمية للمادة، بينما لم ترفع بالتوازي قيمة الرواتب، الأمر الذي شكّل فجوة واسعة بين مستوى الأجور والواقع المعيشي الذي أثقل كاهل المواطنين في سوريا.

سعر البنزين “أوكتان 95” سجل تغيرا بنحو ثلاث عشرة مرة خلال الفترة الممتدة بين عامي 2020 والنصف الأول من العام الحالي 2023، بمعدل تضخم كبير تجاوز الألف بمئات المرات.

في العام 2020 ارتفع سعر المادة مرتين فقط من 575 ليرة سورية إلى 850 ليرة، بينما تغيّر سعره في العام 2021 أربع مرات ليستقر عند 2500 ليرة للتر، كما شهد العام 2022 تغيّرا في سعر المادة بنحو ثلاث مرات وهي 4000 -4500 – 5300 ليرة.

ليعاود الارتفاع في الشهر الأول من العام الحالي بنسبة بسيطة حيث سجّل سعر 5750 ليرة، دون تحقيق أي استقرار حيث ارتفع مجددا في شباط/فبراير وأيار/مايو، قبل صدور القرار الأخير في السادس من تموز/يوليو الفائت بالتسعيرة الجديدة للبنزين “أوكتان 95” وحدد سعر المبيع للمستهلك بـ 8600 ليرة.

مستقبل الاقتصاد السوري وسبل التعامل مع التحديات الاقتصادية معقد، إذ إن هناك التحديات الكبيرة التي تنتظر البلاد، لأن هذه القرارات تعكس عدم إرادة حكومية للتصدي للأوضاع الصعبة بقرارات جذرية وشجاعة. ومع مرور الوقت، سيتضح ما إذا كانت هذه الخطوات غير قادرة على تحقيق التحول الاقتصادي المرجو، وأنها ستفتح الباب أمام سيناريوهات غير متوقعة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة