بعد أن عملت موسكو طوال السنوات الماضية على مدّ نفوذها في منطقتي وسط وغرب القارة الإفريقية، وبعيدا عن ما أنتجته تلك المحاولات التي زادت من حدة الاستقطاب العالمي في المنطقة، ودفعت إلى انقلابات عسكرية في عدد من البلدان مدعومة بقوات مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية، وما أفرزه كلّ ذلك من تنامي الجماعات المسلحة؛ يبدو أن روسيا تعمل مجددا على ممارسة تأثير على منطقة الشمال الإفريقي، وذلك من خلال الجزائر.
إذ تحاول روسيا إقناع الجزائر بفكرة إنشاء “مكتب تمثيلي” داخلها، وهو ما يعني أن موسكو ستكون ممثلة بكل إداراتها في البلاد، وأن المكتب سيكون بمثابة إدارة روسية في العاصمة الجزائرية تمرّ من خلالها العلاقات بين الطرفين بسرية البيت الواحد، حيث كشفت “وكالة التعاون الخارجي الروسية” المعروفة بالـ “بيت الروسي”، عن إجرائها مفاوضات بشأن ذلك مع الجزائر، وفق ما نقلته وسائل إعلام روسية أمس الأحد.
في المقابل، أبدت الجزائر استعدادها لاستضافة “المكتب التمثيلي”، حسبما أفاد نائب رئيس الوكالة، بافيل شيفتسوف في تصريحات صحفية، وأشار إلى أن بلاده تجري حاليا محادثات نشطة بشأن هذه المسألة مع الجزائر، وأن الأخيرة هي البلد المثالي لفتح هذا المكتب، بخاصة وإن موقفها إيجابي من الخطوة، كما عبّرت عن استعدادها الكامل لتأسيسه.
تحركات روسيا بالجزائر تثير قلقا إقليميا ودوليا
لكن أوساط إقليمية ودولية تنظر بتوجس إلى سعي روسيا لإنشاء الـ “مكتب تمثيلي” في الجزائر، حيث تعتقد هذه الأوساط أن إنشاء هذا المكتب أخطر من بناء قاعدة عسكرية روسية في البلد، إذ ستصبح كل إدارة روسية حاضرة بمكتب تمثيلها في الجزائر وكل المراسلات ستتم بشكل داخلي مع الجزائريين.
فالمكتب سيكون بمثابة قاعدة عمل إدارية متكاملة توفر السرية والتجهيز المشترك للملفات والصفقات والعمل الاستخباري وتنسيق السياسات الاقتصادية المتعلقة بالنفط والغاز وأسعارها، وهو ما تحرص موسكو على إقناع الجزائريين بأهمية فكرته لما سيشكله من نقلة نوعية باعتبار موقعه الجغرافي القريب من أوروبا والمطلّ على إفريقيا، منطقة العمل المهمة بالنسبة إلى روسيا الآن.
المساعي الروسية لإنشاء هذا المكتب في الجزائر، تأتي ليمثل مركزا متقدما جديدا للروس في أكبر الدول الإفريقية، وأحد مخرجات اتفاق الشراكة الاستراتيجية المعمّقة الذي أُبرم في منتصف شهر حزيران/يونيو الماضي في العاصمة موسكو، من طرف الرئيسين فلاديمير بوتين وعبد المجيد تبون، أثناء زيارة الأخير لروسيا.
فروسيا تتطلع إلى أن يمثل الاتفاق مع الجزائر حول افتتاح “مكتب تمثيلي”، خطوة متقدمة في تاريخ العلاقات بين البلدين، لاسيما مع النظر لما يمكن أن يمثله موقع الجزائر الجيوسياسي والجيوبوليتيكي في الشمال الإفريقي بالنسبة للروس، الذين يأملون بحسب مراقبين إلى تأطير التمدد الروسي الاستراتيجي والاستخباري في المنطقة بواسطة هذا المكتب، الأمر الذي يُعتبر إعلانا عن مرحلة جديدة من التغلغل الروسي.
إلى ذلك، لا يزال الجانب الجزائري يلتزم الصمت حول الموضوع، رغم تأكيدات الروس بموافقة القيادة الجزائرية واستعدادها لاستضافة المكتب التابع لـ “وكالة التعاون الخارجي الروسية” التي تعمل بالتعاون مع “جهاز المخابرات” الروسي، الأمر الذي يشير إلى أن المفاوضات في هذا الشأن قد قطعت أشواطا كبيرة منذ زيارة تبون لروسيا.
“المكتب التمثيلي” يشكل تهديدا للجزائر ومحيطها
بناء على ذلك، إن إنشاء روسيا لـ “المكتب التمثيلي” في الجزائر ليس بالأمر البريء داخل القارة السمراء، حسب تأكيدات الباحثة في العلوم السياسية بجامعة “محمد الخامس” في الرباط، شريفة لموير، خاصةً بعد التصريحات التي صدرت عن ممثلي قادة قوات “فاغنر”، حول ضرورة تكريس وجودها في إفريقيا.
لموير وفي حديث مع موقع “الحل نت”، قالت إن فكرة المكتب التمثيلي تبين أن روسيا اختارت لتغلغل نفوذها داخل القارة الإفريقية أن يكون من خلال الجزائر، بخاصة وأن الجزائر تُعتبر حليفا لروسيا داخل إفريقيا، بالتالي إن إنشاء هذا المكتب يعتبر منفذا روسيا لن يكون من السهل التحكم فيه، لاسيما في ظل قيادة جزائرية تحاول أن تسوّق للعالم مدى امتداد علاقاتها داخل المنتظم الدولي والإفريقي.
لذلك بحسب المختصة بالشأن السياسي في شمال إفريقيا، سيطرح تخوفا حقيقيا من هذا “الغزو الخفي” الذي سوف يكون له تأثيرات ليس فقط على المستوى الداخلي للجزائر التي بلا شك سوف تتأثر بدورها بهذا التواجد، ولكن حتى على المستوى القاري.
وفقا لذلك، ترى الأوساط الإقليمية والدولية، أن هذا المكتب الذي تعتزم موسكو افتتاحه في الجزائر، يعكس أهميته في صناعة الأمن الاستراتيجي والجيوسياسي لروسيا، عبر المنظومة الاستخبارية التي تحصل عليها من مختلف المكاتب والنقاط، لتكون جاهزة بين أيدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، لاسيما في ظل التطورات المتسارعة في منطقة الساحل الصحراوي، والانقلاب العسكري القائم في دولة النيجر، والمدعوم روسياً بحسب المعلومات.
خصوصا وأن الحديث عن ما يعرف بالـ “البيت الروسي” أو “وكالة التعاون الخارجي الروسية” يجري على أنه جهاز تنتسب إليه أعداد معتبرة من الجواسيس والعملاء، وهو يفوق بشريا وكالة المخابرات الخارجية الروسية بنحو ست مرات، حيث يملك خلايا ومكاتب في مختلف ربوع العالم، يتم فيها جمع المعلومات وتحليلها وتقديم تقاريرها إلى القيادة السياسية في البلاد.
على هذا الأساس، أشارت تقارير إلى أن الروس ومن خلال الشراكة مع الجزائر، بصدد البحث عن مكتسبات ومفاتيح استراتيجية قوية تجسد التغلغل الروسي في المنطقة وفي عموم القارة السمراء، وذلك بالتوازي مع التمدد الملاحظ عبر نشاط مسلحي “فاغنر” الذين حققوا انتشارا أفقيا داخل القارة الأفريقية ربط بين شرقها وغربها، مما سيشكل مخاطرا للقوى الإقليمية والدولية.
روسيا والجزائر وحجم العلاقة
هذا ويتبادل المسؤولون الروس والجزائريون في السنوات الأخيرة زيارات رسمية لمختلف الوفود والمسؤولين في المؤسستَين العسكريتَين. كما أجرى البلدان عدة مناورات عسكرية بمختلف الأسلحة، كانت آخرها تلك التي جرت خلال شهر تشيرين الثاني/نوفمبر الماضي في محافظة بشار بأقصى الحدود الغربية، بحسب ما أعلن عنه مسؤولون روس، لكن الجزائر أعلنت عن إرجائها إلى وقت لاحق ضمن مسار تضليل الغرب والإيهام بالحياد.
كما تربط الجزائر وموسكو علاقات قوية رغم أن الجزائر تحاول أن تظهر بأنها غير منحازة، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بين البلدين في 2021 3 مليارات دولار رغم أزمة جائحة فيروس “كورونا”، وعلاوة على ذلك تتعاون الجزائر وروسيا في مجالات للغاز وكذلك في اجتماعات الدول المصدّرة للنفط “أوبك+”.
نحو ذلك، ومع اتهام روسيا بوقوفها وراء الانقلاب العسكري في النيجر، في إطار استراتيجية مدّ نفوذها في إفريقيا عبر سحب البساط من تحت أقدام أنظمة سياسية معارضة لها وتنصيب أخرى تجاهر بولائها لموسكو، فإن مراقبين لا يستبعدون أن يكون إنشاء “المكتب التمثيلي” في الجزائر فرصة أمام الروس لتوسيع نفوذها في الجزائر ذاتها وللحفاظ على مصالحها في الشمال الإفريقي.
يشار إلى أن، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون، وقّعا في حزيران/يونيو الماضي، إعلانا بشأن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وذلك قبل أن يجري تبون زيارة لروسيا منتصف ذات الشهر.
أثناء تلك الزيارة وقّع تبون مع الرئيس الروسي إعلانا مشتركا يحدد عددا من مجالات التعاون الثنائي بين البلدين، حيث تضمنت حزمة الوثائق إعلانا حول تعزيز التعاون الاستراتيجي بين روسيا والجزائر، كما تعهّد الرئيسان تطوير الاتصالات المباشرة بين مؤسساتهما المالية والمصرفية الوطنية، وتعزيز التعاون الهادف إلى زيادة الاعتماد على العملات الوطنية في التجارة، وخلق قنوات مصرفية للمعاملات الآمنة والمستقلة عبر الحدود.
- حماة تدخل بوضع جديد.. وحراك سياسي دولي بعد التطورات في سوريا
- تبعات “ردع العدوان” تظهر في دمشق ودير الزور.. ماذا جرى؟
- وسط انهيار كامل للجيش السوري.. فصائل المعارضة تتقدم في ريف حماة
- دمشق تتواصل مع السعودية ومصر وهذه آخر التطورات الميدانية بحلب
- “ردع العدوان”.. ما هي الأسباب التي أدت إلى التقدم السريع للمعارضة؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.