على وقع تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا وزيادة الأعباء المادية وهجرة نسبة كبيرة من السوريين خارج الحدود وخاصة فئة الشباب الذكور، تزداد نسبة عمالة النساء يوما بعد يوم في عموم المحافظات السورية، حيث تعمل هؤلاء النسوة في عملين بدلا من عمل واحد بهدف تلبية الاحتياجات المعيشية اليومية لأُسرهم وأبنائهم.
يُرجع العديد من الخبراء أسباب ارتفاع نسبة عمل المرأة في المجتمع السوري إلى الظروف المعيشية القاسية، وأنها السبب الأساسي والجوهري لبحث المرأة عن عمل آخر إلى جانب وظيفتها الحكومية، خاصة أن الرواتب لا تكفي سوى ليومين فقط، وسط استمرار ارتفاع الأسعار وتدهور الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.
عمالة النساء
على الرغم من أن نسبة كبيرة من النساء يفضلن الاستقالة من العمل للتركيز على رعاية أُسرهن، إلا أن الزوج وحده لا يستطيع تحمّل المصاريف المطلوبة، لذلك جاء العمل كحل للمرأة في ظل الظروف المعيشية الصعبة المفروضة على الجميع، وفق تقرير لصحيفة “تشرين” المحلية يوم أمس الثلاثاء.
إحدى المواطنات تعمل في محل لبيع النظارات الطبية من الرابعة عصرا وحتى الحادية عشرة ليلا، وذلك بعد عودتها من وظيفتها الحكومية الصباحية. وتشير للصحيفة المحلية إلى أن الظروف المعيشية الصعبة وغلاء الأسعار دفعاها للبحث عن عمل آخر خاصة وإنها تسكن بالإيجار بعد وفاة زوجها؛ علما أن لديها ثلاثة أبناء أكبرهم بعمر 14 عاما، وهم بحاجة إلى مصاريف كثيرة.
ممرضة تتحدث أيضا عن تجربتها لذات الصحيفة، فتقول إنها تعود من المشفى الذي تعمل به صباحا لتستلم عيادة طبيب من الساعة الخامسة عصرا وحتى التاسعة والنصف ليلا، واصفة عملها بالمرهق جدا على عكس عملها في المشفى حيث يتواجد معها أكثر من ممرضة لتساعدها؛ أما في العيادة فموجودةٌ وحدها ومضطرة لمساعدة الطبيب في بعض العمليات الإسعافية التي يجريها.
تلك الممرضة تتقاضى في عيادة الطبيب مبلغ 250 ألف ليرة سورية شهريا، ويزداد دخلها حسب عمل العيادة، إلا أنها كما تقول مضطرة لأن تعمل في هذه الوظيفة، نظرا لأن دخلها من المشفى الحكومي بالكاد يكفيها لمدة أسبوع.
في تقرير سابق لموقع “أثر برس” المحلي، أشار إلى الظاهرة نفسها، وهي أن النساء يعملن في وظيفتين أو “ورديتين”، كما يسمونها، وهنا تقول لينا، إنها تعمل في محل “البياضات” بعد عودتها من عملها وتبيّن أن عددا كبيرا من السيدات يعملن أكثر من عمل في سبيل تحسين دخولهم والتغلب على هذا الغلاء؛ حيث أوضحت أن أولادها في الجامعة وكل واحد بحاجة إلى 20 ألفا كلما ذهبوا لدوامهم الجامعي، وهذا ما يرهق ميزانية الأسرة ويضطرها للعمل في أكثر من دوام.
بدورها رهف، التي وجدت نفسها تعمل في محل لبيع المكياجات والعطور مقابل دخل شهري يبلغ 300 ألف ليرة سورية، مقابل العمل لمدة ثماني ساعات، من الساعة الثانية ظهرا وحتى العاشرة ليلا نظرا لضيق حالها ولأنها تدفع إيجار منزلها الذي يبلغ 400 ألف.
العمل ضرورة وليس طموحا!
في المقابل، توضح الباحثة الاجتماعية أسمهان زهيرة، أن نظرة المجتمع تختلف تجاه عمل المرأة الثاني، فهناك من يعتبره ضرورة ملحّة في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وبالتالي هو أمر طبيعي مبرر وحاجة أساسية لتحسين دخل الأسرة.
كذلك ومنهم من يعدّ عمل المرأة الثاني غير مشروع وخاصة بخروجها وعودتها بأوقات متأخرة من العمل، وما يشاع عن طبيعة هذا العمل ما يحدث خللا اجتماعيا على نطاق الأسرة والمجتمع.
إضافة إلى أن العمل الثاني ساهم في تقليل فرص العمل للرجال المسؤولين عن عائلات أو الشباب الذين يحتاجون لبناء أسرة وتكوين عائلات، والبعض منهم يرى أن عمل المرأة هو رعاية الزوج والأبناء فقط، وعلى الزوج رعايتها وتوفير كل متطلباتها ما يحمله عبئا إضافيا.
عمل النساء وخاصة المتزوجات بدوام إضافي يقلل من تواجدها بشكل دائم مع أطفالها وأفراد أسرتها، ما يسبب خللا في توازن الأسرة وتأثر سلوك ونفسية الأطفال وزيادة الضغوطات عليها بسبب كثرة المهام داخل وخارج المنزل، وعدم حصولها على الراحة الكافية كما تصبح عرضة أكثر للمشاكل الصحية.
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي فاخر القربي، إن مشاركة المرأة في ميدان العمل ما قبل عام 2011، كانت بنسبة قليلة ولم تكن هناك إحصاءات دقيقة بغض النظر عن أعمالها المنزلية والتنموية والاقتصادية بشكل عام، إلا أنه بعد التدهور المعيشي خلال السنوات الماضية، أُجبرت المرأة لتكريس طاقاتها في ميدان العمل، حيث تلجأ للعمل المزدوج بشكل يومي في سبيل مواجهة الظروف الاقتصادية التي حوّلتها إلى حاملة المسؤولية الكاملة عن أسرتها في ظل غياب معيل الأسرة.
اختصاصية الصحة النفسية الدكتورة غالية أسعيد، ترى من جانبها أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة في عدد النساء العاملات في مختلف القطاعات، حيث تضطر المرأة إلى العمل لساعات طويلة وتأخرها أو إلى استقطاب عمل ثانٍ ما قد يؤدي إلى أسباب نفسية واجتماعية قد لا تكون مُرضية أبدا ولكن ظروف المعيشة وغلاء الأسعار، هو ما دفعها إلى اختيار العمل بوردية ثانية للتّغلب على مصاعب الحياة.
كما أثبتت دراسات أخرى أن النساء اللواتي يعملن أكثر من 40 ساعة في الأسبوع يكنّ عرضة لخطر الإصابة بأمراض تهدد حياتهن، مثل خطر الإصابة بالسرطان والسكري والتهاب المفاصل وبعض الاضطرابات النفسية كالوسواس القهري والاكتئاب، كما أنهن أكثر عرضة لمتلازمة الاحتراق الوظيفي بشكل أكبر من الرجال.
مِهن غريبة
في أعقاب تدهور الأوضاع المعيشية بسوريا تظهر بين الحين والآخر مِهنٌ جديدة بين النساء السوريات تتنوع وتختلف حسب الحاجة، فمنها ما هو موسمي ومنها الدائم، وتبدو هذه المِهن غريبةً على المجتمع السوري نوعا ما، مثل بيع الدخان والعسل على الأكشاك، والمازوت والبنزين والخبز على الطرقات، إضافة إلى انتشار ظاهرة “المطابخ المنزلية”، إضافة إلى التسويق الإلكتروني والعمل من المنزل.
اللافت هذه المرة أن البعض يلجأ إلى العمل كـ “فاليه باركينغ” في شركات المواقف المدفوعة الأجر للسيارات، والعمل كمساعدة في إحدى حافلات النقل الداخلي، حيث أصبحت هذه المشاهد مألوفة لدى شريحة كبيرة من المجتمع السوري من النساء العاملات في مِهن قاسية لم يعتادوا على ممارستها، فرضتها عليهنّ الظروف الاقتصادية القاهرة.
في إطار عمل النساء في أعمال جديدة وغريبة نوعا ما، تعمل شابة في مقتبل العمر، لا يتجاوز عمرها العشرين عاما، كمساعدة في إحدى باصات النقل الداخلي العاملة على خط جديدة عرطوز، بدوام كامل، ابتداء من الساعة التاسعة صباحا ويستمر حتى العاشرة مساءً.
هذا العمل الشاق كله مقابل عشرين ألف ليرة يوميا، إلا أن الشابة ترى في هذا العمل فرصة مناسبة لكسب بعض المال والعيش بكرامة، كونها مسؤولة عن إعالة أسرتها بعد وفاة والدها، حسبما أوردته صحيفة “البعث” المحلية مؤخرا.
أما تجربة نادية التي تعمل في إحدى شركات المواقف المأجورة، فهي الأخرى تعاني ما تعانيه، لا سيما وأن عملها لا يخلو من صعوبات كثيرة، لافتة للصحيفة المحلية إلى أن ورديتها تبدأ عند التاسعة صباحا وتنتهي بحدود الثالثة ظهرا براتبٍ لا يتجاوز 130 ألف ليرة سورية، وهو أجر ضئيل مقارنة بالواقع المعيشي البائس في سوريا.
نادية، أردفت أنها في بعض الأحيان قد تعمل لساعات إضافية مأجورة ضمن وردية جديدة. وعن عملها كـ”فاليه” أوضحت أنها بدأت رحلتها مع هذه المهنة منذ حوالي ثلاث سنوات، أي بعد تقاعدها، كونها معيلة لأخواتها وأولادهنّ، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تمر بها أثناء العمل، إن كان لجهة التعامل مع الزبائن أو لجهة طبيعة العمل نفسه، إلا أنها مضطرة للاستمرار به، وتحمّل تصرفات وأفعال بعض الزبائن الغاضبة، نظرا لعدم وجود فرص عمل في البلاد بشكل عام.
نتيجة للغلاء المعيشي المهول، وفي ظل تدني الرواتب والمداخيل، اتجهت نسبة كبير من الجامعيين للعمل في أعمال تبدو غريبة على المجتمع السوري، مثل تنظيف البيوت أو العمل في المعامل والمِهن الحرفية أو التجارة اليدوية الحرة، كتصميم حرفيات خزفية سواء خشبية أو فضة وبيعها للمحال التجارية. كما يوجد بعض الشباب الجامعيين يعملون في بيع الخضار أو الفواكه أو أي مهنة أخرى في الأسواق، أو حتى سائق “تاكسي” أو عامل في مطعم، بغية إعالة أنفسهم وأُسرهم، وتغيير واقعهم الاقتصادي الهش إلى مستويات تتناسب مع الواقع المعيشي الصعب الراهن.
كما أن البعض يعمل في المطاعم والفنادق طمعا بوجود “البقشيش” أو الإكراميات، إذ غالبا ما يترك الزبون هامشا من المال على الطاولة للعامل. إذ يقول أحد العاملين في مطاعم دمشق القديمة إنه لولا الإكراميات التي يأخذها من الزبائن في المطعم، لكان قد ترك وظيفته، نظرا لأن الراتب ضعيف، وما يشجّعه على البقاء هو موضوع “البقشيش”، وفي معظم الأحيان يكون “البقشيش” أكثر من الراتب نفسه.
- وفيق صفا.. ما الذي نعرفه عن أول قيادي ينجو من ضربات إسرائيل
- ما بين النفط والموقع الاستراتيجي.. الصين عينها على السودان
- بموافقة 26 دولة.. مجلس حقوق الإنسان يعتمد قرارا حول سوريا
- إسرائيل تحيّد قائد وحدة الصواريخ بقوة “الرضوان” واستهداف جديد لـ”اليونيفيل”
- العراق وتعديل قانون الأحوال الشخصية.. الرجعية تكسر التنوير!
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.