في ظل الغلاء الذي يجتاح كافة المحافظات السورية، وبسبب تدني الرواتب والأجور، تضطر نسبة كبيرة من السوريين للعمل في أكثر من مكان لتأمين مستلزمات الحياة المعيشية، حتى لو كان ذلك على حساب الصحة الجسدية والنفسية.

بين الحين والآخر تظهر عادات جديدة في الحياة اليومية للمجتمع السوري، إذ تعمل نسبة كبيرة من الموظفين السوريين في وظائف ثانية إلى جانب وظائفهم الحكومية، وتتنوع هذه الوظائف وتختلف حسب الحاجة. ومنهم من يعمل سائق “تاكسي” في المساء، ومنهم من يعمل في المطاعم أو المحلات التجارية فضلا عن مهنة تعقيب المعاملات والأوراق الحكومية، التي تبدو غريبة بعض الشيء على المجتمع السوري، لكن الحاجة لها كلمة الفصل.

العمل في “ورديتين”

نحو ذلك، تقول ديالا، وهي أم لثلاثة أطفال إن الظروف المعيشية الصعبة فرضت على الجميع العمل بفترتين، فهي مثلا وبعد عودتها من وظيفتها الصباحية تستلم عملها في محل لبيع النظارات الطبية من الساعة الرابعة عصرا حتى الحادية عشرة ليلا مقابل 200 ألف ليرة سورية شهريا.

ديالا، أردفت في حديثها لموقع “أثر برس” المحلية يوم أمس الأربعاء “الظروف المعيشية الصعبة وارتفاع الأسعار، دفعني للبحث عن عمل آخر خاصة كوني أسكن بالإيجار ولدي ثلاثة أبناء أكبرهم بعمر 14 عاما وهم بحاجة إلى مصاريف كثيرة”.

بينما تعود صباح من المشفى الذي تعمل به صباحا لتعمل في “وردية” ثانية ضمن عيادة الطبيب من الساعة الخامسة عصرا وحتى التاسعة والنصف، تصف عملها بالمرهق جدا، وكل ذلك في مقابل 150 ألف شهريا، لكنها مضطرة للعمل بدوام آخر لأن دخلها من المشفى بالكاد يكفيها لمدة أسبوع، على الرغم من أنها غير متزوجة إلا أنها تصف معيشتها كالأم التي لديها أبناء لمجرد أنها تعيش في منزل لوحدها وتشتري الحاجيات وهي مسؤولة عن الطبخ والطعام.

أما الشاب أمجد وهو مصمم غرافيك يعمل في مكتب إعلاني لمدة 8 ساعات يوميا، وبعدها من منزله يأخذ طلبات تصاميم، وذلك يساعده لتأمين مصروفه الشهري إضافة إلى أنه ينوي الزواج عما قريب وهذا يتطلب منه العمل لساعات إضافية لتأمين متطلبات العرس والمنزل.

بدورها رهف التي وجدت نفسها تعمل في محل لبيع المكياجات والعطور مقابل دخل شهري يبلغ 300 ألف ليرة، تقول إنها مضطرة للعمل من الساعة الثانية ظهرا وحتى العاشرة ليلا نظرا لضيق حالها ولأنها تدفع إيجار منزلها الذي يبلغ 400 ألف.

الرواتب هزيلة!

في المقابل، يقول الخبير الاقتصادي والدكتور في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق محمد كوسا، إن ثمة نسبة كبيرة من الموظفين من الصنفين رجالا ونساء تلجأ إلى الوظيفة الإضافية أو العمل الإضافي بعد الدوام الأساسي وسط تدهور الأوضاع المعيشية.

بالتالي قد يصل البعض إلى العمل لأكثر من 14 ساعة في اليوم لتأمين احتياجاتهم المادية في ظل هذا الارتفاع الجنوني للأسعار حيث يعتبرون أن العمل الإضافي هو الخيار الأمثل لزيادة الدخل وأن الوظيفة الإضافية ستؤثر على حياتهم اليومية على الأمد البعيد لجهة تأمين ما قد يصعب تأمينه من الدخل الواحد الذي يجنيه الأهل، وفق تقدير الخبير الاقتصادي.

لهذا يعتبر البعض أن العمل الثاني أو ما يطلق عليه “الوردية” الثانية هي بوابة العبور لتحصيل دخلٍ ثانٍ؛ ولا نخطئ عندما نقول إن 14 أو 16 ساعة عمل، لا تكفي أي مردود يحصل عليه أي شخص مهما كانت طبيعة العمل في ظل الارتفاع الكبير لكافة السلع والمواد الغذائية.

لكن الخبير الاقتصادي شدد على أن ظروف المواطنين المعيشية الصعبة أجبرتهم على البحث عن عمل آخر في ظل تضخم الموارد وارتفاع سعر الصرف الذي بمجرد ارتفاعه ولو بشكل بسيط ترتفع معه كل الأسعار.

من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي علاء الأصفري إلى أن التضخم الحاصل في سوريا غير مسبوق وبالتالي يحتاج الفرد إلى العمل في عملين أو ثلاثة لسد الحد الأدنى من احتياجاته، خاصة وأن الأسرة السورية تحتاج اليوم أكثر من مليوني ونصف المليون شهريا لتأمين الحاجات الغذائية فقط، دون تكاليف الإيجار أو أمور أخرى.

الخبراء يشيرون إلى أن أكثر من 90 بالمئة من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، وهي كارثة اجتماعية واقتصادية على مجموع الشعب السوري، فضلا عن غياب العدالة بالرواتب في القطاعين العام والخاص ما يدفع الفرد للعمل صباحا ومساءً ما يؤثر سلبا على صحته الجسدية والنفسية، خاصة وأن المرأة أيضا باتت تلجأ للعمل المزدوج بشكل يومي في سبيل مواجهة الظروف الاقتصادية التي حولتها في أغلب الأحيان إلى حاملة المسؤولية الكاملة عن أسرتها في ظل غياب معيل الأسرة.

الأمثلة التي ذُكرت أعلاه من بين العديد من السوريين الذين يعملون في وظيفتين حتى يتمكنوا من تمرير ومواكبة الحياة المعيشية، بعد أن وصل راتب الموظف الحكومي إلى أدنى مستوياته مقارنة بالواقع المعيشي الصعب. ويُلاحظ أن معظم السوريين اليوم ينفقون أضعاف الراتب الشهري الذي يتلقونه من الحكومة، حيث يُنفق البعض نحو مليوني ونصف مليون ليرة سورية، والبعض الآخر 3 و 4، حسب حاجة كل أسرة.

الحوالات المالية أو السفر

في المقابل، أجمع نسبة كبيرة من السوريين على أن الحوالات التي يتلقونها من أقاربهم في المغترب، هي أفضل معيل لهم في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، ويقول أحدهم وفق تقارير صحفية محلية “لا راتب ولا راتبين بيكفي، لولا الحوالات كنا متنا من الجوع”.

تقارير اقتصادية محلية، كشفت في وقتٍ سابق عن أن 70 بالمئة، من السوريين يعيشون على الحوالات المالية الخارجية، مقدرة حجم المبالغ التي تصل سوريا من المغتربين يوميا بـ5 ملايين دولار، ومعدل تحويلات السوريين العاملين في الخارج لمساعدة عائلاتهم 5 مليارات دولار سنويا.

من جانب آخر، ومع تزايد مرارة الواقع الاقتصادي في سوريا، أصبح المئات من الشباب والعائلات السورية مهووسة بالسفر إلى الخارج بهدف الذهاب إلى بلد يوفّر لهم الأمن والاستقرار المعنوي والمادي، خاصة بعد ارتفاع أسعار مختلف السلع في السوق بنسب كبيرة، إضافة إلى تسيّد حالة من الفوضى والتفلّت بالأسعار في الأسواق، وهو ما انعكس أيضا في ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الأساسيات، بالتالي وصلت اليوم تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد إلى 10 ملايين ليرة سورية، فيما يتراوح متوسط دخل الموظف الحكومي بين 200-260 ألف ليرة.

خلال العامين الماضيين وحتى الآن، يشهد مركز الهجرة والجوازات في سوريا وتحديدا في العاصمة السورية دمشق موجات تدفق من السوريين الراغبين في الهجرة، حيث تصطف أرتال المنتظرين بالآلاف منذ ساعات الصباح الأولى وإلى منتصف الظهيرة بفارغ الصبر، للحصول على جواز سفر يمكّنهم من الخروج من البلاد في أقرب فرصة.

لا يختلف اثنان على أن الظروف الاقتصادية والأمنية، هي أبرز الأسباب التي تدفع بالشباب والعوائل السورية للهجرة باتجاه بلدان أخرى بحثا عن حياة أفضل.

ولعل تزايد معدلاتها خلال الآونة الأخيرة خير مثالٍ على ذلك؛ وخاصة الهجرة غير الشرعية، وما تمثّله من خطر على حياة من يُقدم عليها. إذ لا يكاد أن يمرّ شهر دون ورود أخبار عن وفاة أشخاص خلال رحلتهم إلى أوروبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات