مع تزايد مرارة الواقع الاقتصادي في سوريا، أصبح المئات من الشباب والعائلات السورية مهووسة بالسفر إلى الخارج بهدف الذهاب إلى بلد يوفّر لهم الأمن والاستقرار المعنوي والمادي، ونظرا لأن تكاليف الهجرة عالية، الأمر الذي حرّك سوق البيع العقاري من جديد في العديد من المحافظات السورية، أي أن السوريين عادوا إلى بيع ممتلكاتهم من أجل السفر.

منذ أشهر، يعرض السوريون عقاراتهم، من منازل ومحلات تجارية وأراضي، على منصات التواصل الاجتماعي، وينشرون أوصاف وأسعار العقارات المعروضة للبيع للمهتمين، سواء أشخاص أو مكاتب عقارية. ويأتي الانتشار المتزايد لهذه العروض عبر تلك الوسائل الاجتماعية، نتيجة لرغبة الكثيرين من أصحابها في السفر.

بداعي السفر

بحثُ الشباب غير المتوقف في جميع المحافظات السورية عن طرق تهريب للسفر أو مكاتب السفر من أجل الحصول على تصاريح عمل خارجية “فيزا”، أمرٌ يستغلّه كثيرون من أصحاب هذه المِهن والمكاتب ليؤمنوا لهم الـ “فيزا” بأسعار فلكية وبالعملة الصعبة، “الدولار”، مما يدفع عائلاتهم وأمام المبالغ التعجيزية المطلوبة، لعرض ممتلكاتهم لبيعها بأقل من تكلفتها الحقيقية.

هاجس السفر خارجاً لمئات الشباب بهدف تحسين أوضاع أُسرهم ماديا مضافٌ إليه رغبة العديد من الأُسر بالهجرة، حرك المياه الراكدة من تحت سوق بيع العقارات في محافظة السويداء، نتيجة لعدم توافر السيولة المالية اللازمة لديهم، ما أدى إلى توجه الراغبين بالسفر ولإكمال معاملاتهم بدءا من الجواز وانتهاء بـ “بتكيت الطيارة” نحو المكاتب العقارية لعرض منازلهم للبيع، كونها تحتاج إلى ميزانية مالية كبيرة تتجاوز 30 مليونا للشخص الواحد، فما بالبال إذا كان السفر يضم كامل أفراد الأسرة، وفق تقرير لموقع “غلوبال نيوز” المحلي يوم أمس الثلاثاء.

بدوره، أشار رئيس دائرة المساحة بمديرية المصالح العقارية في السويداء المهندس رفيق الجباعي، إلى أنه رغم التوقف شبه التام لحركة البيوع العقارية على ساحة المدينة، ولاسيما في الآونة الأخيرة، نتيجة للتحليق غير المسبوق لأسعار العقارات، إلا أن اضطرار الكثير من الأُسر لبيع شققهم السكنية لتأمين تكاليف السفر، دفعهم لإدخالها في بورصة البيع غير الربحية.

كما أن أغلب العقارات المعروضة للبيع هي غير متوافقة على الإطلاق مع تكلفة البناء الحقيقية لهذه الشقق، فمثلا شقة مكسية مساحة 100 متر مربع تُعرض للبيع بسعر لا يتجاوز 170 مليونا، وبجردة حساب بسيطة يلاحظ أن تكلفتها البنائية على الأسعار الرائجة تتجاوز 300 مليون ليرة، والمتتبع لحركة بيع وشراء العقارات سيلاحظ أن لغتها لم تعد تجارية كما كان سابقا، فأغلب الذين يراجعون المصالح العقارية لإتمام معاملة الإفراز، السمة الغالبة على عملية بيعهم هي اضطرارية ومستعجلة بداعي السفر.

يقول أحد سكان العاصمة دمشق، وهو خريج حديث من كلية الهندسة، إنه يبحث منذ أشهر عن وسيلة للسفر إلى ألمانيا أو أي دولة أوروبية، وهي الأماكن المفضلة للهجرة السورية، حيث توجد حياة آمنة وكريمة لمجموعة كبيرة منهم. ويضيف في مداخلة هاتفية لموقع “الحل نت”، أنه قبل نحو 4 أشهر اتفق مع أحد المهرّبين على ترتيب تأشيرة دراسية إلى رومانيا ليتمكن من السفر إلى ألمانيا أو النمسا بعد ذلك، لكن المهرب لم يؤمن ذلك حتى الآن.

الشاب نفسه، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أشار إلى أن عائلته باعت منزلهم الواقع في حي “مشاريع الوادي، زورآفا”، فضلا عن أنهم استدانوا مبلغا آخر حتى أمّنوا له نحو 15 ألف دولار ثمنا لـ”التأشيرة”، موضحا أنه لم يعد للسوريين أي مستقبل في هذا البلد، خاصة بالنسبة للشباب، ويضيف أنه سجل على درجة الماجستير حتى لا يذهب إلى الخدمة العسكرية، والآن بعد أن فَقَد الأمل في الحصول على “فيزا” أوروبية، يحاول قدر المستطاع تأمين طريق آخر عبر تركيا للهجرة برا أو بحرا إلى إحدى الدول الأوروبية.

نسبة كبيرة من الشباب السوري يرغبون بالسفر إلى خارج سوريا، فقد أكد العديد من المواطنين لموقع “الحل نت” أن معظم الناس وخاصة خريجي الجامعات، يريدون السفر إلى أوروبا أو أي دولة خليجية تؤمّن لهم عملا جيدا فضلا عن الاستقرار النفسي والمعنوي، بالإضافة إلى رغبتهم في مساعدة أُسرهم ماديا.

في الواقع هذا حال عموم الشباب المتخرجين من كليات كبيرة بسوريا، فما بالبالُ عن بقية المواطنين الذين يملكون شهادات عادية أو من لا يملكون، فضلا عن العوائل التي تبحث هنا وهناك عن طرق علّها تنجّيهم من براثن الفقر في هذه البلاد.

حالات عدة من سوريا

في تقرير آخر لموقع “أثر برس” المحلي، نُشر مؤخرا، يؤكد فيه أصحاب مكاتب عقارية ازدياد عروض بيع المنازل مقارنة بعمليات الشراء، الأمر الذي دفع إلى تقييم العقارات بأقل من سعرها المفترض، نتيجة حاجة أصحابها إلى المال بداعي السفر والهجرة خارج البلاد.

من جانبه، قال سمسار عقارات في منطقة جرمانا بريف دمشق، إن المنزل الذي كان معروضا بـ 200 مليون ليرة عندما كانت قيمة الدولار بـ 9 آلاف ليرة، يُعرض اليوم بـ 230 مليون ليرة، أي بنحو 14 ألف دولار في السوق السوداء.

السمسار، أردف أن معظم أصحاب المنازل يضطرون للبيع مجبرين، لتوجه نسبة كبيرة منهم نحو الهجرة أو دفع أحد أبنائهم على الأقل للسفر نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي واستحالة القدرة على المعيشة. وأشارت ممرضة تعمل في إحدى المستشفيات الحكومية أن راتبها الشهري بالكاد يكفي ثمنا للطعام والشراب، ما دفعها إلى عرض منزلها للبيع والحصول على “فيزا” للعمل في العراق.

كذلك الوضع مع أنور الذي يعمل سائق براد على خط الأردن – دمشق ذهابا وإيابا بمعدل رحلتين في الأسبوع؛ إذ قرر هو الآخر الاستقرار في إحدى الدول المجاورة بعد أن ينهي معاملة بيع المنزل واستخراج جوازات السفر لأبنائه وزوجته فقد حظي بفرصة عمل في أحد المشافي “سائقا”، مضيفا للموقع المحلي “المعيشة باتت لو في أبعد بلد أفضل من هذا الوضع الذي نعاني منه”.

أنور، لفت إلى أن جوازات السفر ستكلّفه ما يقارب 36 مليونا لزوجته وأبنائه الثلاثة، بينما أسعار “تيكت الطيارة” للشخص الواحد ما بين 12 إلى 15 مليونا بحسب البلد. ووصلت كلفة تأمين حجز جواز السفر المستعجل إلى 9 ملايين ليرة أي نحو 650 دولارا، بوساطة أشخاص يعملون بهذه المهنة ويروجون لها في الإنترنت، بحسب مصادر محلية.

يقول بعض الخبراء إن عروض بيع العقارات هائلة وأغلب أصحابها يرغبون ببيع ممتلكاتهم العقارية بغرض السفر، وعلى سبيل المثال معظم إعلانات بيع العقارات ترافقها عبارة “للبيع بدواعي السفر”. والجدير بالذكر أن سوق العقارات في سوريا، يشهد ركودا كبيرا نظرا لرغبة الكثيرين في بيع عقاراتهم، وفق ما يفيده خبراء اقتصاديون وعاملون في مكاتبٍ عقارية.

“السفر حلم الجميع”

اللافت أن برنامجا إذاعيا محليا طرح مؤخرا سؤلا حول الفرصة الذهبية التي لا يمكن للسوريين تفويتها، ليتبين أن الأغلبية ترغب في السفر خارج سوريا، وخاصة إلى الدول الأوروبية. وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها طرح مثل هذه الأسئلة أو استطلاعات الرأي، إذ تنتشر بشكل شبه يومي منشورات متعددة على منصات التواصل الاجتماعي تشير إلى رغبة من بقي في الداخل السوري في الهجرة إلى الخارج.

في برنامج “كود مورنيغ سوريا” مع المذيعة سالي أبو حمزة على إذاعة “المدينة إف إم” المحلية، تم طرح تساؤل مؤخرا عبر منصة “فيسبوك” على الشكل التالي “فرصة ذهبية لو صحتلكم ما ممكن تفوتوها.. شو هي؟، فكانت معظم الاجابات حول السفر من البلاد والوصول إلى أوروبا.

البعض الآخر أخذ الموضوع بشكل ساخر من الواقع المعيشي البائس في سوريا، فكتبوا “الحمدلله بسوريا متحققة كل أحلامي ماني بحاجة فرص ذهبية.. يعني من كتر ما الواحد عايش مبسوط بالبلد فما بعازة فرص ذهبية”، فيما أشار آخرون إلى تأكيد رغبتهم في السفر قائلين “بلم على أوروبا، السفر أكيد”.

خلال العامين الماضيين وحتى الآن، يشهد مركز الهجرة والجوازات في سوريا وتحديدا في العاصمة السورية دمشق موجات تدفق من السوريين الراغبين في الهجرة، حيث تصطف أرتال المنتظرين بالآلاف منذ ساعات الصباح الأولى وإلى منتصف الظهيرة بفارغ الصبر، للحصول على جواز سفر يمكّنهم من الخروج من البلاد في أقرب فرصة.

لا يختلف اثنان على أن الظروف الاقتصادية والأمنية، هي أبرز الأسباب التي تدفع بالشباب السوري للهجرة باتجاه بلدان أخرى بحثا عن حياة أفضل، ولعل تزايد معدلاتها خلال الآونة الأخيرة خير مثالٍ على ذلك؛ وخاصة الهجرة غير الشرعية، وما تمثّله من خطر على حياة من يُقدم عليها. إذ لا يكاد أن يمرّ شهر دون ورود أخبار عن وفاة أشخاص خلال رحلتهم إلى أوروبا.

13 مليون سوري نزحوا/هاجروا منذ اشتعال الحرب السورية، وهو ما يمثل حوالي 60 بالمئة من عدد السكان قبل الحرب، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، بحسب “مركز بيو للأبحاث”، في وقت سابق.

المركز أردف في دراسة نشرها على موقعه الإلكتروني في عام 2018 بأن أكثر من ستة ملايين و300 ألف سوري، أي حوالي 49 بالمئة من عدد المهاجرين قد نزحوا داخليا، لكن هذه النسبة تغيّرت خلال السنوات الأخيرة مع عودة مئات الآلاف إلى ديارهم وظهور نازحين جدد. ويقول المركز إن حوالي 700 ألف سوري نزحوا داخليا في النصف الأول من 2017 بسبب الصراع المستمر.

Syrians gather on the first day of the Eid al-Adha Muslim holiday in al-Qamariya street in old Damascus on June 28, 2023. (Photo by LOUAI BESHARA / AFP)

خلال أيار/مايو الماضي، أعلنت إدارة الهجرة والتجنيس الهولندية “آي إن دي”، أن حوالي 40 ألف طالب لجوء من بينهم سوريون، ينتظرون قرارا للموافقة على اللجوء، مشيرة إلى أنها غير قادرة على مواكبة عدد طلبات اللجوء بسبب كثرة الطلبات، ويمكن اتخاذ حوالي 22.000 قرار سنويا فقط.

إدارة الهجرة الهولندية في تقرير أخير لها، قالت إن القوانين أصبحت أكثر تعقيدا من قبل، بالإضافة إلى أن أنظمة الكمبيوتر أصبحت قديمة وميزانية غير كافية مقابل عدد الأشخاص القادمين إلى هولندا. وتوقّعت المديرة العامة روديا ماس، أن يتعين على المتقدمين الانتظار لفترة أطول لاتخاذ قرار هذه السنة وربما أيضا في السنة القادمة 2024.

وكالة الهجرة في الاتحاد الأوروبي أردفت أن طلبات اللجوء في دول الاتحاد ارتفعت في النصف الأول من العام 2023 بنسبة 28 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وتم التقدم بحوالي 519 ألف طلب لجوء في هذه الدول التسع والعشرين بين كانون الثاني/يناير وحزيران/يونيو، على ما أوضحت الوكالة معتبرة أن الطلبات قد تتجاوز المليون بحلول نهاية السنة بحسب الميول الحالية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات