في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، حذر المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي من تعبئة المسلمين التي لا يمكن وقفها إذا استمر القصف الإسرائيلي لغزة، ومما لا شك فيه أنه كانت هناك مظاهرات عديدة للتضامن مع الفلسطينيين في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ولكن عدداً كبيراً من الإيرانيين نأوا بأنفسهم عن الصراع، وانحازوا بدلاً من ذلك إلى إسرائيل. 

إن تواطؤ قيادة النظام الإيراني مع “حماس” وغيرها من الميليشيات التي تشكل ما يسمى “محور المقاومة” يعمل على اتساع الفجوة بين النظام والمجتمع الإيراني، وهذا ما تبين بعد أن أثارت اعترافاتُ مسؤولين إيرانيين حول الدافع الحقيقي لتحريضهم على إشعال الحرب في قطاع غزة، جدلاً واسعاً نظراً لارتفاع مستوى الانتهازية الذي وصل إليه حكّام طهران، وعدم تردّدهم في التضحية بدماء شعوب المنطقة من أجل الحفاظ على مراكزهم في السلطة.

وكانت غالبية الاعترافات تتعلق بتسبب النظام الإيراني بالتحريض على الحرب في المنطقة دون الالتزام الكامل بها، بهدف استثمارها في الداخل لتخفيف الضغوط وتشتيت الانتباه عن قضايا المعارضة والانتفاضة. وأكد مسؤولون إيرانيون أن النظام يستفيد من حرب غزة لتعزيز هيمنته على دول المنطقة والإيحاء بأدوار استراتيجية حول العالم، مع ممارسة المزيد من القمع ضد الإيرانيين ومنع تكرار انتفاضة العام الماضي.

حروب الأجنحة

تقول الصحفية الإسبانية، أنجيليس إسبينوزا، أنه أثناء رحلاتها إلى إيران، كانت تسمع في كثير من الأحيان شكاوى حول المساعدات المقدمة إلى فلسطين وميليشيا “حزب الله” اللبناني، وخاصة من الأقليات العرقية والدينية التي كانت ترى في هذه المساعدات غير مستحقة. والآن، بعد أن أصبحت البلاد في قبضة أزمة اقتصادية حادة ناجمة عن العقوبات الدولية وسوء الإدارة المالية، أصبح تحويل الأموال لصالح صراعات عسكرية خارجية أمراً لا يطاق.

في هذا السياق، كشف عضو البرلمان الإيراني، حميد رضا حاجي بابائي، عن الهدف الحقيقي لحرب غزة، والذي يتمثل في عرقلة انتفاضة الشعب الإيراني وقمع القوى المنتفضة في الداخل، وأوضح أن الهدف هو متابعة نهج استخدام الأزمات الخارجية وإثارة الحروب في المنطقة للتغلب على الأزمات الداخلية.

التحريض على الحرب في المنطقة بهدف استثمارها في الداخل لتخفيف الضغوط وتشتيت الانتباه عن قضايا المعارضة والانتفاضة – إنترنت

يظهر من هذه التصريحات، التي أدلى بها ممثلون عن محافظات ومستشارين في المكتب السياسي العقائدي للمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، تصوّر يركّز على ضرورة الاحتفاظ بالمنطقة في حالة من الاضطراب؛ وذلك لتبرير إيران كقوة إقليمية وربما عالمية، بهدف تجنّب تجسيد المنتقدين والمعارضين في الداخل كخونة للقوة الدافعة لحماية المسلمين ودعم قضاياهم.

في خلاف مع التصريحات التي نشرها قادة إيرانيون وأكد فيها الأمين العام لـ “حزب الله” اللبناني، حسن نصرالله، أن إيران لم تكن على دراية مسبقة بتوقيت عملية “طوفان الأقصى”، أكد الملا سعيدي، رئيس المكتب السياسي العقائدي للمرشد الأعلى، مسؤولية النظام الإيراني لهذا الحدث بوصفه “العقل المدبر وقلب المقاومة”.

وتتّسق هذه الرؤية مع تسلسل الأحداث، حيث تشير إلى أن تجهيزات عملية “طوفان الأقصى” بدأتها طهران بالتنسيق مع وكلائها وأذرعها في المنطقة خلال قمع انتفاضة “المرأة والحياة والحرية” التي شملت جميع المناطق الإيرانية في العام الماضي. وذلك من خلال زيادة الدعم المالي لحركة “حماس” الفلسطينية في نفس الوقت، وتلويح المرشد بأن “إسرائيل ستتعرّض للتدمير” قبل تنفيذ العملية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

صحيفة “جوان” التي تتبع لقوات “الحرس الثوري” الإيراني، ربطت في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بين تصريحات المرشد الأعلى علي خامنئي في الثالث من الشهر نفسه وانطلاق عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، مؤكدة أن هذا يُعتبر مؤشراً واضحاً على “التنبؤ الدقيق من قبل المرشد الأعلى بشأن هذا الهجوم”.

في تصريحاته في الثالث من الشهر ذاته، قال المرشد الأعلى علي خامنئي: “إن الرأي الثابت للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هو أن الحكومات التي تلجأ إلى سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني كنموذج لها ستواجه الخسارة، وسيكون لها ثمن باهظ لتلك الأخطاء”. وفي أعقاب اندلاع الحرب، أعرب مسؤولون إيرانيون عن فرحهم ووصفوا ما حدث بأنه “انتصار مُشجع” لنظامهم الذي يُعزز مكانته في منطقة الشرق الأوسط، مشيرينَ إلى أن العوائد التي حققوها تبرّر دفع مزيد من الدماء.

“الحرس الثوري” الإيراني في أسوأ أحواله

ما يُعزز فكرة دفع نحو إشعال صراع في المنطقة، بحسب صحيفة “العرب” اللندنية، حتى لو تسبب في حرب هائلة كوسيلة لتجنب اندلاع انتفاضة جديدة في إيران، هو الواقع الذي يُظهر أن التحدي الذي يواجهه النظام لا يقتصر فقط على الغضب الشعبي المتزايد بسبب الوضع الاقتصادي الصعب ونقص الحريات. 

المعنويات في صفوف “الحرس الثوري” الإيراني قد تراجعت بشكل كبير – إنترنت

وتتعلق التقييمات بفقدان النظام الإيراني لسيطرته على المجتمع، وتفتقر الأمور إلى وحدة داخلية بسبب انقسام غير مسبوق بين أجنحة النظام، الأمر الذي يثير شكوكًا في استعداد واستيعاب قادة “الحرس الثوري” للحفاظ على النظام الحالي في مقعده السلطوي.

وفي ظل عجز النظام الإيراني عن تقديم تنازلات كبيرة للرأي العام، وفقدان بعض العسكريين والعلماء الدين الثقة في طهران، أصبحت القضية الفلسطينية وسيلة لتعزيز سلطة المؤسسة الدينية داخل إيران ومواجهة التحديات الداخلية المستمرة التي قد تتحول في أي لحظة إلى تحركات احتجاجية تهدد بالتحول إلى ثورة ضد النظام، من خلال تعزيز نفوذها في المنطقة العربية.

شمل الغضب والإحباط الشديدين في الداخل الإيراني صفوف القيادة العسكرية العليا، ووفقاً لوثائق نُشرت من قِبل “إيران إنترناشيونال” و”إيران واير” في نيسان/أبريل الماضي؛ ويُظهر ذلك أن هواجس النظام تنشأ أيضاً نتيجة لانتقادات تأتي من ضباط مسؤولين عن المحافظات.

قدمت وثيقة خطيرة ومهمة، وهي مجموعة من الملاحظات التي وصِفت بأنها خطيرة حول تفاصيل اجتماع عُقد في الثالث من كانون الثاني/يناير الماضي بين قادة نافذين في “الحرس الثوري” الإيراني والمرشد الأعلى، تصويراً سلبياً لاستقرار النظام وحالة “الحرس الثوري”، وهو تقديم مختلف عن الصورة الرسمية داخل إيران وخارجها.

أظهرت الوثيقة، من خلال تعليقات وملاحظات الضباط في مختلف الرّتب، مدى انهيار المعنويات العسكرية ووصولها لحالة ضعف، معبرة عن قلّة الاحترام والدعم الذي تظهره الطبقة العليا للقيادة العسكرية تجاه قيادة “الحرس الثوري” والنظام الحاكم.

ممثل المرشد الأعلى في “الحرس الثوري”، عبدالله حاجي صادقي، اعترف بأن المعنويات في صفوف “الثوري” قد تراجعت بشكل كبير، وليست في المستوى نفسه الذي كانت عليه العام الماضي. وأدى التضارب في المعتقدات والقناعات داخل حوزات قوات “الباسيج” التي يدرس فيها علماء دين شيعة إلى خروج آلاف الأعضاء في الأشهر الأخيرة.

كما كشف محسن كريمي، قائد لواء “روح الله” التابع لـ”الحرس الثوري” في منطقة قرب طهران، عن مفاجأة، حيث أكد أن الإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية في صفوف “الحرس” قد تراجع بنسبة النصف، مشيراً إلى اعتقال بعض الجنود بعد تنظيمهم لاحتجاجات.

كانت طهران وفقا للمعارض الإيراني، محمد الموسوي، أول من أدركت أهمية قضية فلسطين وكراهية إسرائيل كوسيلة لتفريق العِداءات السّنية ضد الشيعة وتوحيد العالم العربي تحت راية إيران؛ كما أدركت أن هذه القضية تعتبر وسيلة فعّالة للتصدي للاضطرابات الداخلية والانقسامات بين أجنحة السلطة. ويظل من الصعب على النظام الإيراني أن يتقبل حلّاً للأزمات الإقليمية منفصلًا عن مصالحه واعتباراته، وسيستمر في استغلال القضية الفلسطينية، وسيظل يعارض إقامة دولة فلسطينية بناءً على مبدأ حلّ الدولتين، نظراً لأن طموحاته الخارجية وأزماته الداخلية تتطلب استمرار المساومة على قضية فلسطين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات