شيئا فشيئا، بدأت تتلاشى رواية أو أسطورة “الشرق يشرق” التي صدّرتها بكين على مدى سنوات للعالم بقدومها كدولة مهيمنة على الاقتصاد العالمي، ليثبت العكس اليوم، فنمو اقتصاد الدولة الشيوعية المتخمة بالسكان بات بتدحرج ويتراجع بالسرعة التي نما فيها فجأة.

هذا التراجع لا ينم إلا عن فشل في السياسة الاقتصادية الصينية، ومن بين أسبابه العديدة، هو النهج الشيوعي الاشتراكي الذي تنتهجه بكين، رغم إصرارها على مدى عقود بأن هذا النهج هو الأكفأ والأمثل في سبيل نمط اقتصادي ناجح.

تقارير عديدة أوردت وبالأرقام والنسب، تراجع الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي، رغم أن بكين تحاول جاهدة إخفاء الأمر، وتصدير رواية معاكسة، غير أن الحقيقة مغايرة تماما، وهذا ما سنورده في السطور التالية.

الصين التي ارتفعت حصتها في الاقتصاد العالمي بنحو 10 أضعاف من أقل من 2 بالمئة في عام 1990 إلى 18.4 بالمئة في عام 2021، وفي الوقت الذي لم يسبق لأي دولة أن حققت ارتفاعا في النمو بهذه السرعة خلال 3 عقود فقط، باتت تعيش تراجعا في النمو منذ العام المنصرم، والمتوقع أن يستمر هذا التراجع في العام المقبل والأعوام التي تليه.

في العام الماضي تغيّر الوضع، وتقلّصت حصة الصين في الاقتصاد العالمي قليلا، لكن الحصة تقلصت بشكل ملحوظ هذا العام، لتصل إلى 17 بالمئة، وهذا الانخفاض البالغ 1.4 بالمئة لمدة سنتين هو الأكبر منذ الستينيات.

هذه النسب والأرقام بحسب تقرير لموقع “أويل برايس”، هي بالقيمة الاسمية للدولار، أي ما يعني أنها غير معدلة للتضخم، وهو المقياس الذي يصور بدقة القوة الاقتصادية النسبية للدولة التي يقبض على حكمها “الحزب الشيوعي” بيد من حديد.

تعامل غير واضح المعالم!

التقارير الاقتصادية، تتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بمقدار 8 تريليونات دولار ما بين 2022 و2023 ليصل إلى 105 تريليونات دولار، لكن المفارقة هي أنه مع هذا النمو، لن تحصل الصين على أي من هذه المكاسب، إذ ستمثل الولايات المتحدة الأميركية نحو 45 بالمئة، والدول الناشئة الأخرى 50 بالمئة، بحسب “أويل برايس”.

نصف المكاسب التي يُتوقع أن تحققها الدول الناشئة، ستكون من 5 بلدان فقط، وهي على التتابع، كل من الهند وإندونيسيا والمكسيك والبرازيل وبولندا، وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدل على تحولات محتملة في القوى الاقتصادية في المستقبل المتوسط والبعيد.

التراجع في النمو أو عدم تحقيق النمو المطلوب من قبل الصين، يفسّره الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش، في حديث مع “الحل نت”، نتيجة أسباب عديدة، من أبرزها، أن بكين تتعامل اقتصاديا مع دول كثيرة، ومنها روسيا وإيران، وذلك في تجارة غير واضحة المعالم.

التجارة التي تتعامل بها بكين بحسب حنتوش، “لا يتم تسجيلها بأرقام مثبّتة، والسبب أن الصين تخشى أن تخسر أو تتوتر علاقاتها مع واشنطن”، لكن التعامل غير الواضح في المجال الاقتصادي، يتسبب بعدم تحقيق النمو المتوقع بالنسبة للدولة الآسيوية الاشتراكية.

في الواقع، لا يمكن إنكار هدف أساسي كانت ولا تزال تسعى  الصين لأجل تحقيقه، وهو يتمثل باستعادة المكانة الإمبراطورية التي كانت تتمتع بها في الفترة من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر، عندما بلغت حصتها في الناتج الاقتصادي العالمي ذروتها بنحو الثلث، لكن مع الأرقام التي ظهرت حديثا، فإن هذا الهدف بات وبشكل واضح جدا بعيد المنال على بكين.

انهيار القطاع العقاري

من المهم هنا، معرفة أن حصة الصين المتراجعة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالقيمة الاسمية، لا تعتمد على مصادر مستقلة أو أجنبية، ويتم نشر الأرقام الاسمية كجزء من بيانات الناتج المحلي الإجمالي الرسمية، لذا فإن صعود الصين ينعكس من خلال حساب بكين الخاص.

ومن خلال التكيف بشكل إبداعي مع التضخم، تمكنت بكين منذ فترة طويلة من الإعلان عن أن النمو الحقيقي يصل بشكل ثابت إلى هدفه الرسمي، الذي يبلغ الآن زهاء 5 بالمئة، وهذا يؤكد، كل ربع سنة، الرواية الصينية بأن “الشرق يشرق”، ولكن الحقيقة تشير إلى أن معدل النمو الحقيقي المحتمل في الأمد البعيد في الصين، أصبح الآن أقرب إلى 2.5 بالمئة.

بالعودة إلى تقرير “أويل برايس”، فإنه أشار إلى أن انحدار الصين قد يعيد ترتيب موازين القوى في العالم، وهذا يعيدنا بالذات إلى الدول الناشئة، وتحديدا الدول الخمسة، الهند وإندونيسيا والمكسيك والبرازيل وبولندا، وبالطبع النسبة الأكبر للدول الكبرى، وعلى رأسها أميركا وبقية الدول الرأسمالية.

الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش، يلفت إلى نقطة أساسية أخرى تعاني منها الصين، ألا وهي تراجع قطاع المقاولات والبناء في البلاد نتيجة انهيار العديد من الشركات الصينية الكبرى، الأمر الذي تسبّب بتوقف هذا القطاع الذي تعتمد عليه بكين كثيرا، لذا ونتيجة لتوقف القطاع العقاري، لن يكون نمو الاقتصاد الصيني وفق ما هو متوقع من قبل الصين، على حد قول حنتوش.

بالطبع، هنا لا بد من الإشارة إلى أن الصين تواجه أزمة عقارية تغذيها الديون، وهو ما يؤدي عادة إلى انخفاض قيمة العملة المحلية للصين وهي “الرنمينبي”، ووحدتها الأساسية “اليوان”، والأخيرة هي المتداولة دوليا بشكل عام على أنها عملة الصين.

يضاف إلى كل ذلك، أن المستثمرين باتوا يسحبون أموالهم من الصين بوتيرة قياسية، مما يزيد من الضغوط على العملة الصينية، فضلا عن تراجع وتيرة استثمار الأجانب في المصانع الصينية والمشاريع الأخرى بمقدار 12 مليار دولار في الربع الثالث من هذا العام.

ديون مرتفعة

من بين جملة النقاط التي لا يمكن مرورها مرور الكرام، هي أزمة المواليد في الصين التي خفّضت حصتها من السكان في سن العمل على مستوى العالم من ذروة 24 بالمئة إلى 19 بالمئة، ومن المتوقع أن تنخفض إلى 10 بالمئة على مدى 35 عاما مقبلا، بالتالي فإنه ومع تقلص حصة العاملين في العالم، فإنه من المؤكد سيتم تسجيل حصة أقل من النمو في الصين، وفقا لموقع “أويل برايس”.

الموقع أشار أيضا، إلى أن حكومة “الحزب الشيوعي” المتفرد بالقرار، أصبحت أكثر تدخلا في الاقتصاد على امتداد العقد الماضي، وأصبحت ديونها مرتفعة تاريخيا بالنسبة لدولة نامية.

هذه العوامل تؤدي إلى تباطؤ نمو الإنتاجية، التي تقاس بناتج كل عامل، وهذا المزيج ــ عدد أقل من العمال، والنمو الهزيل في الناتج لكل عامل ــ من شأنه أن يجعل استعادة الصين لحصتها في الاقتصاد العالمي بشكل صعب جدا.

أخيرا، ونظرا للقيود المفروضة على نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فإن بكين لن تتمكن في السنوات المقبلة من استعادة حصتها الاقتصادية العالمية إلا بحالتين، ارتفاع كبير في التضخم أو في قيمة العملة المحلية، ولكن الواقع يقول إن أيا منهما غير محتمل ومستبعد بشكل شبه تام.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات