كان من الضروري أن تستفيد حركة “حماس” من الهدنة في الأسبوع الفائت لإعادة النظر في استراتيجيتها السياسية التي اعتمدتها منذ 1998 وحتى اليوم، وقد بدأت منذ ذاك التاريخ العلاقات مع إيران على المستويين السياسي والعسكري، وقد اعتمدت في صراعها مع إسرائيل على أدبيات إيران ومفهوم “القوة” وزوال اسرائيل.

ويبدو أن إيران تكتفي بعيش هذه المفاهيم كشعارات لغسل أدمغة شعوب “الممانعة”،  فيما بادرت “حماس” إلى تطبيق هذه الشعارات في 7 تشرين الأول/أكتوبر عبر عملية “طوفان الأقصى” من دون حسابات كبيرة لمرحلة ما بعد “الطوفان” الذي تحوّل إلى حرب إبادة شنّتها إسرائيل على كل من يعيش في غزة أي “حماس” والشعب الفلسطيني، وحددت هدفَين لحربها: الأول تحرير الرهائن، والثاني القضاء على “حماس”.

تحديات مصيرية

بالنسبة إلى إسرائيل أصبحت مسألة حياة أو موت، فحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحظى بالدعم الأميركي والأوروبي نسبياً والشعب الإسرائيلي الذي كان منقسماً حيال نتنياهو  قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلا أنه بات اليوم موحّداً لشعوره بالخطر الذي تشكّله “حماس”.

حماس أمام مصيرَين الزوال أو الابتعاد عن إيران إلى الحضن العربي (4)
مقاتلو حماس والجهاد الإسلامي يسلمون الرهائن المفرج عنهم حديثًا إلى الصليب الأحمر في رفح، كجزء من صفقة تبادل الرهائن والأسرى بين حماس وإسرائيل. (سترينجر / وكالة الأنباء الألمانية)

لذلك، لن تتوقف حرب إسرائيل حتى تحقيق الهدفَين المذكورَين أعلاه، ولن تقبل إلا بإنهاء “حماس” عسكرياً، وهذا واضح من سير العمليات العسكرية، ورفض إسرائيل الاستمرار بالهدنة والعودة إلى لغة “القوة” بدلاً من المحاولات التي كانت تجري في قطر بين الاستخبارات الأميركية والمصرية والقطرية للتوصّل إلى وقف إطلاق النار والبدء بمفاوضات سياسية تُنهي الحرب القائمة.

إذاً، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة بالنسبة لإسرائيل، وأصبح على “حماس” التي تُركت وحيدة من إيران و”محور الممانعة”، أن تتصرف بحكمة ووعي، وخصوصاً أن الشعوب العربية وأكثرية أنظمتها تتضامن معها في هذه الحرب، رغم أن هناك ملاحظات عدّة على أدائها السابق على الصعيد الداخلي الفلسطيني، وارتباطها بإيران، وعقيدتها الدينية المتطرفة إلى حد إلغاء الآخرين.

لا شك في أن “حماس” تستغل إعلامياً وشعبياً جنوح إسرائيل نحو الإفراط بالعنف وعدم تمييزها بين الفصائل العسكرية والمدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، وهذا ما يشكّل ضغطاً معنوياً على إسرائيل من المجتمع الدولي لتقصير أمد العملية العسكرية. 

وقد تكون هذه الظروف مؤاتية لاستجابة “حماس” للمبادرات العربية للهُدن ووقف إطلاق النار، ليس لشراء الوقت، والعودة إلى المنطق العسكري، إنما لمحاولة تغيير داخلية في “حماس” من فصيل عسكري مسلّح إلى حركة سياسية مبنية بعقلية جديدة على أسس الاعتدال والأولويات الفلسطينية الوطنية والانتماء العربي، والتمسّك بالقيم الاجتماعية الحضارية، والانفتاح على المجتمعَين العربي والدولي بدلاً من التقوقع في محور لم يجلب إلى الشعب الفلسطيني إلا الدماء والموت والدمار والفقر والبؤس، وهو المحور الإيراني غير المؤهل لمواكبة الحضارة الإنسانية؛ لأنه مشروع ظلامي يستمد بقاءه من زعزعة استقرار الدول العربية والصراعات المستمرة.

مفارقة الولاء

تشير استطلاعاتُ رأي جديدة صُدرت مؤخراً عن معهد “الديمقراطية” الإسرائيلي ومؤشر السلام التابع لجامعة “تل أبيب”، إلى أن المواقف الإسرائيلية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبحت أكثر تشدّداً من أي وقت مضى في الذاكرة الحديثة.

حماس أمام مصيرَين الزوال أو الابتعاد عن إيران إلى الحضن العربي (6)
زعيم حماس الفلسطيني خالد مشعل (الصف الأمامي الثالث إلى اليمين) يقف مع قادة الأحزاب والسياسيين الآخرين خلال مسيرة نظمتها حماس(تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

وعلى الرغم من تجمع آلاف المتظاهرين في تل أبيب للمطالبة بالإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم “حماس”، قال 10 بالمئة فقط من اليهود الإسرائيليين إنهم سيؤيدون وقف القتال من أجل تبادل الرهائن. في غضون ذلك، قال 44.3 في المئة من أغلبية اليهود الإسرائيليين إنهم يريدون أن تتفاوض الحكومة من أجل إطلاق سراح الرهائن فوراً دون وقف القتال.

علاوة على ذلك، يوافق نصف الأميركيين على العمل العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة الذي تقوده “حماس”، بينما يعارضه 45 بالمئة، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” بعد عدة أسابيع من شنّ “حماس” هجوماً على إسرائيل.

أغلبية كبيرة من الجمهوريين 71 بالمئة يوافقون على العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، فيما تقول الشريحة الأكبر من الأميركيين 42 بالمئة، أن الولايات المتحدة تقدم القدر المناسب من المساعدات العسكرية لإسرائيل، ويقول 25 بالمئة آخرون إن الولايات المتحدة لا تفعل ما يكفي، ويبلغ إجماليهم 67 بالمئة، يؤيدون على الأقل المستوى الحالي من المساعدات العسكرية لإسرائيل.

لا شيء سيوقف حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل إلا توجّه “حماس” إلى الحضن العربي الذي يؤمن بحل الدولتين، وليس سرّاً أن اجتماعات أمنية عُقدت في الدوحة حضرها رئيس “الموساد”، ديدي برنياع، ورئيس وكالة المخابرات الأميركية المركزية، وليام بيرنز، ورئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل، ورئيس وزراء قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. 

وبدا أن هناك توجّهاً لإنشاء “نيو حماس” (حماس جديدة) بعد وضعها تحت جناح السلطة الفلسطينية وتأسيس لمرحلة “نيو سلطة” (سلطة جديدة) تحظى بتأييد شعبي وعربي ودولي، بهدف العمل على تحقيق حلّ الدولتين وفق مقررات القمة العربية الإسلامية التي انعقدت مؤخراً في الرياض.

لا شيء سينقذ “حماس” من الزوال إلا عملية سياسية تُبعدها عن القرار السياسي الإيراني الذي لا يأخذ في الاعتبار إلا مصلحته الشخصية، وبالتالي هو يُتاجر بالقضية الفلسطينية، ولو كان غير ذلك، لدخل في الحرب بصواريخه وفيالقه وميليشياته، إلا أنه اختار المهادنة والبحث عن مكاسب من تحت الطاولة مع القوى العظمى.

فشعار “رمي إسرائيل بالبحر” أو إزالتها من الوجود بات أضحوكة، نظراً إلى عدم واقعيته، فالمجتمع الدولي لن يرضى بإزالة إسرائيل، ولا توازن في القوى بين “حماس” وإسرائيل، لتتمكن الأولى من رمي الثانية بالبحر، وبات على “حماس” أن تعرف بعدما تُركت وحيدة في المعركة، وبأن إيران تستخدم البراغماتية في سياستها للمحافظة على نفسها. 

بين المبادرة العربية والانفصال عن إيران

ما هو مطلوب الآن لتفادي الأسوأ هو تفكير براغماتي من قادة “حماس” للاستفادة من التعاطف الشعبي الفلسطيني معها بكل فئاته وانتماءاته، وحتى السلطة الفلسطينية لم تستجب لدعوات غربية كي تدين عملية “طوفان الأقصى”، وتبدو اللحظة السياسية مناسبة لإعادة خلط الأوراق وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني والتموضع عربياً وفق مشروع حلّ الدولتين.

يحيى السنوار (الثاني من اليسار)، زعيم حركة حماس الإسلامية الفلسطينية في قطاع غزة، يقف متفرجًا بينما يحمل مقاتل ملثم من كتائب القسام التابعة لحماس سلاحًا ناريًا (تصوير محمد عابد / وكالة الصحافة الفرنسية)

فالمشهد اليوم لا يزال معاكساً، لأن إيران تحاول إفهام الجميع في المنطقة والغرب أن الحل الوحيد للحرب والأزمة هو عبر طهران وذلك من خلال أجندة “حماس” الرافضة للدولتين، والرافضة للسلطة الفلسطينية؛ بل يبدو كأن المشروع العربي للسلام قد افترسه المشروع الإيراني.

أما الموقف العربي فهو حازم في أهدافه المعلنة: دولة موحّدة بين الضفة والقطاع تحت قيادة السلطة الشرعية مع تنازلات إسرائيلية تحسم الاتفاق النهائي حول حجم الأرض والعاصمة. ولعل ما يجب أن يحصل في موازاة ذلك، هو تحرك أميركي لإقناع إسرائيل بأن أفضل حماية للسلام بالإضافة إلى قوتها هو شراكة عربية تحتوي الفلسطينيين وتحميهم من إيران. 

لكن هذا لا يُخفي أن إسرائيل تستمد تماسكها الداخلي من متابعة الحرب، فإذا توقفت، قد يؤدي ذلك لانفراط الحكومة الإسرائيلية ومواجهة المزيد من المآزق ستُطيح مبدئياً بنتنياهو.

أما من جهة “حماس”، فقد يكون توقّف الحرب وقبولها بحلّ الدولتين، سبباً لتشقّقات في داخلها بين الجناحين السياسي والعسكري، فالأول بات أكثر استيعاباً لحلّ الدولتين وتقرّباً من العرب، فيما الثاني أي “كتائب القسام”، فلا يزال أكثر ارتباطاً بالسياسة الإيرانية مستفيداً من دعمها بالسلاح والمال. 

وهذا ما يؤكده بعض قياديي “حماس” بأن الجناح السياسي لا يتلقى أي دعم مالي من طهران، وأن المساعدات الإيرانية تأتي حصرا لـ”كتائب القسّام”، وأنهم يخشون لحظة قد تأتي قريباً، يقلّص فيها عسكر “حماس” من تأثير خالد مشعل وإسماعيل هنيّة والمكتب السياسي والسيطرة على مقاليد النفوذ في الحركة من خلال سياسيين تدعمهم “القسّام”.

مما لا شك فيه أن الدول العربية ولا سيما الخليجية، قدّمت للقضية الفلسطينية ما لم تقدّمه على مرّ الأعوام أية جهات إقليمية أو دولية من مساهمات ضخمة ومساعدات جسيمة طالت مختلف مناحي الحياة لتعزيز مقوّمات صمود الشعب الفلسطيني في أرضه وسبل نضاله.

حماس أمام مصيرَين الزوال أو الابتعاد عن إيران إلى الحضن العربي (1)
إبراهيم الأمين، رئيس المكتب السياسي لحزب الله (يسار)، يمر أمام ماهر الطاهر (الرابع على اليمين)، عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأحمد جبريل (الثالث على اليمين)، الأمين العام لحزب الله الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، أحمد درغام (الثالث على اليمين)، عضو قيادة حزب البعث الحاكم، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل (على اليمين) أثناء اجتماعهما في دمشق. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

لكن مع سطوع نجم “حماس” ومنظماتها الشقيقة في قطاع غزة و ارتمائها في أحضان إيران بحجة دعم القضية الفلسطينية ومساعدتها على المقاومة والصمود، بدأت الإشكالية الكبرى تُطرح من زاوية رأي عام عربي وإسلامي يستغرب ّتنكّر”حماس” لكل ماضي الدعم والمساندة العربية للقضية الفلسطينية، ويفاضل بينها وبين الدعم الإيراني بالسلاح والعتاد والمال.

وما هو ثابت اليوم أن “حماس” معرّضة للزوال، والطريق إلى إنقاذ نفسها يتطلب العبور إلى الحضن العربي الذي يهمّه العمل على حلّ القضية الفلسطينية كقضية شعب وأرض، بينما إيران لا يهمّها من القضية الفلسطينية إلا اللعب على المحتوى العاطفي والمعنوي للقضية في سبيل تحقيق أهدافها وأجندتها، ولو على حساب دماء ومصالح الشعب الفلسطيني، وهو ما يظهر تحديداً في الوقت الراهن في الحرب التي تدور رحاها بين غزة وإسرائيل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.6 5 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات