اعتاد الإسلام السياسي ولا سيما جماعة “الإخوان المسلمين” العمل بمبدأ الجاهلية الثانية؛ وهو مبدأ مفاده أن العالم اليوم يعيش حالة من الجاهلية والضلال أشبه بالتي عاشتها شبه الجزيرة العربية عام 610 هجرياً؛ ومن ثم فهم في حاجة إلى نبيٍّ مرشد كالنبي محمد، وهذا يجعلهم يعملون بالمبدأ النضالي المسؤول عن هذه الأمة غير المؤهلة للمسؤولية عن نفسها، ويتضمن هذا نزعة استعلائية تعمل على الفصل بين المنتمينَ إليها والمعترفينَ بدعوتها وغيرهم من غير المنتمينَ إليها وغير المؤمنين بدعوتها.
وظهر هذا الاستعلاء في فترة الحكم التي جاء فيها “الإخوان” في مصر، حيث جاء سعيهم لفرض رؤيتهم والإيمان بها أكثر من سعيهم لتقديم مخططات تتجاوز الأزمات التي يعيشها المجتمع المصري، أو حتى تبنّي مخططات من مصريينَ غير منتمينَ للجماعة.
التمكين سياسة “الإخوان”
حسب ما تعلنه جماعة “الإخوان” من دور بطولي نبوي إرشادي ذات طابع ديني، فإنها بذلك تسعى لصلاح المجتمع وتوفير احتياجاته وحلّ أزماته، وهذا ما تعلنه عادة وتستخدمه كأداة ضغط على النُّظم الحاكمة، ودخلت في العملية الخدمية داخل الدول خاصة في حال غياب بعض الدول عن هذه العمليات، وكانت تتم هذه الخدمات تحت مسميات دينية، لتعلن بذلك نزاهة هدفها وغايتها التي تهدف إلى سدّ احتياجات هذه الشعوب المقهورة، بيد أن سياستهم التي ظهرت من خلال الحُكم جاءت عكس ذلك تماماً.
من خلال تجربة “الإخوان” في الحُكم في العديد من البلدان العربية كمصر وتونس والمغرب، وفشلها الذريع ولفظها من قِبل الأُطر الاجتماعية تظهر سياستهم الإقصائية الإثنية التي تقسم المجتمع إلى جماعة “الإخوان”، والمؤمنين بدعوتها وغيرهم من فئات المجتمع.
وبالسؤال حول سياسة “الإخوان” أجاب الباحث المصري في شؤون الجماعات الإسلامية حسين القاضي لموقع “الحل نت”، من خلال فترة حكم “الإخوان” ظهر اهتمامهم بالتمكين أو “الأخونة” أكثر من اهتمامهم بإدارة شؤون الدولة، وعمليات التمكين هذه لا يمكن أن يكون لها وجود إذا لم يكن لمكتب الإرشاد سيطرة كاملة على الاتحادية، وأن الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي مجرّد أداة ينفّذ خطط مكتب الإرشاد في عدّة صور أوضحها التمكين.
وأضاف حسين القاضي أنه من اللافت للنظر أيضاً شبكة العلاقات الأسرية من زواج ومصاهرة التي تصنعها “الإخوان”، وتعمل هذه الشبكة على التجنيد والاتساع، وهذه الشبكة بتفرعاتها المختلفة تكون مجتمع آخر داخل المجتمع ككل، يخلق فيما بينه نمط من التعاون والتعامل قد يرفض فيه التعامل مع باقي عناصر المجتمع، ويُعد هذا مؤشراً على سياسة الولاء والبراء التي تعد عملية التمكين نتيجة طبيعية لها، وتخلق هذه العمليات تصدّعات اجتماعية ليست هيّنة على كل حال.
ويتضح هذا أكثر في تجربة “الإخوان” في السودان التي تتميز باختلافها عن كافة التجارب “الإخوانية”، فعلى الرغم من أن كل تجربة لـ “الإخوان” لها اختلافها وتلونها باللون الاجتماعي والسياسي الواقعة فيه إلا أن تجربة “الإخوان” في السودان تختلف عنهم جميعاً، في أنها كانت هي النظام الذي تمت الثورة عليه بعد ثلاثين عاماً من الحكم، وليست أحد عناصر الثورة كما تزعم في العديد من البلدان العربية أولها مصر، وتتميز هذه التجربة في بطلان حجة “الإخوان” المعتادة بأنها لم تخوض التجربة كاملة، لأنها هنا ظلت تحكم ثلاثة عقود من الزمن، كما أنها توضح هدف “الإخوان” من التمكين وسياستهم لتنفيذ هذا الهدف إلى حدّ تقسيم السودان إلى ميليشيات عديدة تتحارب فيما بينها، دون السعي لمصلحة الدولة والشعب بقدر السعي إلى الحُكم والتمكين في المجتمع السوداني.
“الإخوان” في حكم السودان
يفرض الإلحاح الشديد على عدم إتاحة الفرصة كاملة لجماعة “الإخوان” في البلدان التي حكمها وخاصة مصر، التساؤل حول ما قدّمته هذه الجماعة طوال ثلاثين عاماً للسودان وهم في منصات الحكم والإدارة السياسية والعسكرية والمدنية، فلا يمكن أن نقول إن نظام عمر البشير “إخواني” بالكامل، ولكنه كان نظاماً إسلامياً يعمل على تمكين “الإخوان”، وتمكنت الجماعة بالفعل من كافة نواحي الدولة للحدّ الذي يجعلنا نقول إن تجربة عمر البشير تجربة عاش فيها السودان في ظل هذه الجماعة الإسلاموية، فإذا كان لم يقول البشير صراحة بأن الحكم في السودان يُقاد من “الإخوان”، فإن الواقع يقول بأنهم كانوا يملكون البنية الفعلية للدولة.
الواقع أن السودان لم تشهد طوال حكم الإخوان أي تطوّر ملحوظ أو حركة اجتماعية أو سياسية، بل ظلت راكدة كغيرها من دول الجوار وخروج الشعب في 2018 والإطاحة بنظام حكم البشير الذي مثّل ضربة قاسمة للجماعة.
وحسب ما أفاد به الباحث السوداني عبد الجليل سليمان موقع “الحل نت”، فإن “الإخوان” طوال فترات تواجدهم في السودان ووجودهم ضمن نظام الحكم إن يكن كله، سعوا إلى التمكين داخل كافة أجهزة الدولة أكثر من سعيهم لسد احتياجات المجتمع السوداني والنظر في مشاكله، فسيطروا على بنية الدولة كاملة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فلا توجد قوى سياسية غير “الإخوان” في السودان، والأكثر من ذلك احتكروا الصناعات والاستيراد والتصدير، ولا ننظر في قيادة أو مؤسسة إلا “والإخوان” هم أغلب عناصرها ويحاصرونها.
والواقع أن السودان لم تشهد طوال هذه العقود أي تطوّر ملحوظ أو حركة اجتماعية أو سياسية، بل ظلت راكدة كغيرها من دول الجوار وخروج الشعب في أيلول/ سبتمبر 2018 والإطاحة بنظام حكم البشير الذي مثّل ضربة قاسمة لـ”الإخوان المسلمين” في السودان خير دليل على ذلك.
ووفقا لماً حدث في مصر فقد كانت حجة “الإخوان” وجود مخلفات النظام السابق في بنية الدولة وتعمّدهم وقوف عجلة سيرها، بالرغم من اعتمادهم على إدارة موازية صنعتها الجماعة ومكتب الإرشاد لها داخل الدولة، فإن ما حدث في السودان كان أكثر فظاعة مما أحدثه نظام حسني مبارك في مصر، فأشعلت جماعة “الإخوان” السودان كاملة ومزقتها في سبيل العودة لحكم السودان من جديد، خاصة أنهم كانوا متغلغلينَ داخل بناء الدولة والبناء الاجتماعي أيضاً.
إشعال الحرب القَبَلية في سبيل الحكم
لم يستسلم “الإخوان” في السودان لرغبة الشعب التي تعلن عادة نفسها وصية عليه ومسؤولة عن مصالحه، بل سعت للعودة إلى الحكم بكل الطرق الممكنة وأهمها صناعة الفوضى الخلّاقة التي تجعل الشعب يأسف على ثورته ويتمنى عودة نُظم الحكم الاستبدادية، فمن خلال تغلغلها داخل أبنية الدولة سعت إلى تفكيك بنية الدولة وتقسيم الجيش، بل صنعت العديد من الميليشيات وسلّحتها وموّلتها من خلال سيطرتها على العملية الاقتصادية في السودان.
وأكد الكاتب والباحث السوداني عبد الجليل سليمان في تصريح خصّ به “الحل نت” أن “مَن يقاتلون الآن في السودان هم الإخوان عبر كتائبهم وميليشياتهم إلى جانب الجيش السوداني، والأخير أيضاً بكامل عتاده من جماعة الإخوان وجميع القيادات الحالية كذلك من الإخوان، بجانب ميليشيات البراء بن مالك، وكتائب الظل، وقوات العمل الخاص، والمستنصرين؛ وهم الذين جنّدتهم جماعة الإخوان من بقايا الميليشيات السابقة، الدفاع الشعبي، والشرطة الشعبية، والأمن الطلابي، وجندوا معهم بعض المواطنين وسموا نفسهم المستنصرين”.
وأضاف سليمان أنه عند فشل هؤلاء المستنصرينَ لتنفيذ مآرب الجماعة وأهدافها على الأرض، فكّرت الجماعة في إطلاق ما يسمى “المقاومة الشعبية” للدعم السريع عن طريق قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وهم الآن يسلّحون في كوادرهم ويزرعون الفتن القَبَلية من خلال تسليح بعض القبائل على أساس أنها في خطر، وعندما فشلوا في جمع الناس وإثارة مشاعرهم الدينية، راحوا يعملون على إثارة المشاعر القَبَلية، لأن السودان في نهاية المطاف مجتمع قَبَلي.
وهذا قد يدفع السودان إلى حروب قَبَلية، التي ستكون عواقبها وخيمة حتماً. ولا يعتقد سليمان أنه “سيكون من المبالغة إذا قلت إن كل المجازر والحروب الأهلية ستكون بمثابة مناوشات صغيرة”.
فالسودان لديه أكثر من 500 قبيلة لكل قبيلة تداخلات إثنية عرقية ومصالح وامتدادات لكل دول الجوار، وبالتالي كل مجموعة قَبَلية ستساندها بقية القبيلة خارج الدول والجهات التي لها مصالح مشتركة.
وأردف سليمان إن “الإخوان” ليس لديهم أي مانع على الإطلاق في حرق السودان حتى الأرض، بل حرق كل دول الجوار من أجل الوصول إلى السلطة. وهذا لا يُعتبر انحيازاً سياسياً أو حكماً عاطفياً، بل هو تحليل علمي وواقع نراه على الأرض التي نعيش فيها، فكل ما يعاني منه السودان اليوم هي حروب وانقسامات صنعتها جماعة “الإخوان المسلمون”.
والواقع السوداني يكشف حقيقة “الإخوان” أكثر من أي مجتمعٍ آخر، وعادة ما يُطلق على تجربة “الإخوان” في السودان اسم “الجريمة الكاملة للإسلام السياسي”، وهي كذلك بالفعل. فحكم الإسلام السياسي عقوداً من الزمن لم يقدم فيها شيئا ذا قيمة لهذا المجتمع سوى محاولة “أخونته” وتمزيقه إلى فئات عديدة، ولعل سبب لفظهم في المجتمع المصري محاولة التميز في القرارات، وصناعة إدارة موازية للجهاز الإداري للدولة ونظام اجتماعي منطوي على نفسه ومنغلق عن المجتمع المصري، والتعالي عليه بداعي التفوق الديني والالتزام العقائدي.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.