منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلوح بتهديدات مباشرة بشأن إمكانية استعمال النووي. هذا التلويح المتكرر لبعث مخاوف عديدة وتشكيل ضغوطات جمة على الغرب والولايات المتحدة، تتعاطى معه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على نحو جاد، وليس باعتباره مجرد مناورة في الفراغ.

بايدن سبق واعتبر أن التهديد الروسي “حقيقي” وذلك عندما نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، مشيراً إلى أنه “تصرف غير مسؤول”. وفي حزيران/ يونيو العام الماضي، اشترط بوتين تنفيذ تهديده في حال وجود “خطر وجودي” لبلاده، لافتاً إلى امتلاكه “أسلحة بأكثر مما لدى حلف شمال الأطلسي”.

وفي النصف الثاني من العام الماضي، اتخذ مجلس الاتحاد الروسي، الغرفة العليا في البرلمان، خطوة لافتة في إطار التصعيد النووي، وقام بإلغاء تصديقه على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، مما أثار قلق الأطراف كافة بشأن احتمالية استئناف موسكو محاولاتها أو تجاربها النووية، لجهة تعطيل وتجميد ووقف المساعدات الغربية والأميركية لكييف.

عاودت هذه التهديدات نطاق الاهتمام والمتابعة بعدما عرضت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، بعض الوثائق الروسية المسربة والتي تكشف عن شروط استعمال الأسلحة النووية التكتيكية بالنسبة لروسيا، وذلك أثناء المراحل الأولى من أي صراع قد يحدث بين موسكو وقوى عالمية، بما فيها الحليف الصيني المقرب من بوتين.

ما أبعاد خطورة النووي الروسي؟

الوثائق التي كشفت عنها الصحيفة البريطانية، وتتضمن نحو 29 ملفاً عسكرياً سرياً، وتعود ما ورد فيها من مخططات أمنية وعسكرية استراتيجية لفترة عامي 2008 و2014، تتناول شروط ومعايير استخدام النووي، ومنها على سبيل المثال تدمير أو القضاء على “20 بالمئة من غواصات الصواريخ الباليستية”، لافتة إلى أن “عتبة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية أقل مما اعترفت به روسيا علناً”.

من جانبها نددت الولايات المتحدة الجمعة الماضي، بتحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن خطر نشوب حرب نووية، ووصفتها بأنها “غير مسؤولة”، لكنها قالت إنه لا يوجد ما يشير إلى وجود تهديد وشيك. ورغم أن هذه الوثائق المسربة تعود إلى نحو 10 أعوام سابقة، إلا أنها تتمتع بالثبات وتؤكد راهنيتها داخل “العقيدة العسكرية الروسية”.

الناطق بلسان الخارجية الأميركية ماثيو ميلر تحدث عن هذه الوثائق، وقال: “هذه ليست المرة الأولى التي نرى فيها خطاب غير مسؤول من فلاديمير بوتين. لا يمكن لزعيم دولة مسلحة نوويا أن يتحدث بهذه الطريقة”. وقال: “تواصلنا في الماضي بشكل خاص ومباشر مع روسيا بشأن تداعيات استخدام السلاح النووي. ليس لدينا أي مؤشر على أن روسيا تستعد لاستخدام سلاح نووي”.

كما أوضح وزير القوات المسلحة الفرنسي سيباستيان ليكورنو: “لقد استمعت بعناية إلى ما قاله رئيس الاتحاد الروسي هذا الصباح. عندما تمثل قوة نووية، ليس لديك الحق في أن تكون غير مسؤول وأن تقوم بالتصعيد”.

وفق “الأمم المتحدة“، فإن انتشار الأسلحة النووية والتهديد باستخدامها يخلق قلقاً له ما يبرره في جميع أنحاء العالم. ففي مواجهة الظروف الحالية، قد يكون من الصعب تمييز الآليات والأدوات التي تم بذلها بشق الأنفس لمعالجة الشواغل بشأن التهديد العالمي الحقيقي الذي تشكله هذه الأسلحة الرهيبة. كما أقرت الجمعية العامة بالحاجة إلى زيادة الوعي العام والتثقيف بشأن مخاطر التجارب النووية وضرورة إنهاء هذه التجارب بعد أكثر من 60 عاماً من الاستخدام المدمر للأسلحة النووية في مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

وتابعت المنظمة الأممية: “بين عامي 1945 و1996، تم إجراء أكثر من 2000 تجربة نووية في عشرات المواقع حول العالم. خلال تلك الفترة، كان متوسط القوة التفجيرية للتجارب النووية كل عام يعادل ما يقرب من 1000 قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما. ساعدت الاختبارات في صنع أسلحة ذات قوة أكبر من تلك المستخدمة خلال الحرب العالمية الثانية ولها عواقب صحية وبيئية طويلة الأمد. في عام 1996، مع الاعتراف بأن سباق التسلح النووي هو سباق لا يمكن الفوز به، اعتمدت الدول معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTBT)  لحظر التجارب النووية من قبل أي شخص في أي مكان وفي جميع الأوقات”. 

“في السنوات الخمس والعشرين التي انقضت منذ فتح باب التوقيع على المعاهدة، وقعت عليها 186 دولة وصدقت عليها 174 دولة؛ تم إجراء أقل من عشرة تجارب نووية مع قيام دولة واحدة فقط بإجراء التجارب في هذه الألفية. وهذا يؤكد الإسهام الهادف والقابل للقياس الذي تقدمه معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في منع زيادة انتشار واستخدام الأسلحة النووية”.

ونقلت الصحيفة البريطانية “فاينانشال تايمز”، عن مدير مركز “كارنيغي روسيا أوراسيا” في برلين، ألكسندر غابويف، قوله، إن “هذه المرة الأولى التي نرى فيها وثائق مثل هذه منشورة في المجال العام.. إنها تظهر أن العتبة التشغيلية لاستخدام الأسلحة النووية منخفضة جداً إذا لم يكن من الممكن تحقيق النتيجة المرجوة من خلال الوسائل التقليدية”. 

كما أن الأسلحة النووية التكتيكية الروسية، التي يمكن إطلاقها عن طريق الصواريخ البرية أو البحرية أو من الطائرات، مصممة للاستخدام المحدود في ساحة المعركة في أوروبا وآسيا، وذلك على عكس الأسلحة الاستراتيجية “الأكبر حجماً” التي تهدف إلى استهداف الولايات المتحدة، وفق “فايننشال تايمز“، التي أردفت، أنه “لا تزال الرؤوس الحربية التكتيكية الحديثة قادرة على إطلاق طاقة أكبر بكثير من القنابل التي ألقيت على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان عام 1945”.

ضرورة التهيؤ أمنياً وعسكرياً

اللافت في الوثائق المسربة هو تلك الخطط الدفاعية الروسية التي تكشف عن وجود شكوك عميقة تجاه بكين وبناء دفاعات شرقية لمواجهة احتمالات خطر عسكري من الحليف الذي يصطف في نفس الزاوية لمواجهة العقوبات الغربية. وتابعت الصحيفة البريطانية، بأن “روسيا والصين عملت على تعميق شراكتهما، وخاصة منذ تولى شي جين بينغ السلطة في بكين في عام 2012. وقد عززت الحرب في أوكرانيا مكانة روسيا كشريك صغير في علاقتهما، حيث مدت الصين لموسكو شريان حياة اقتصادي حيوي لمساعدتها. ومنها درء العقوبات الغربية. ومع ذلك، حتى مع التقارب بين البلدين، تظهر مواد التدريب أن المنطقة العسكرية الشرقية لروسيا كانت تتدرب على سيناريوهات متعددة لاحتمالية حدوث غزو صيني. تقدم التدريبات نظرة نادرة حول الكيفية التي تنظر بها روسيا إلى ترسانتها النووية باعتبارها حجر الزاوية في سياستها الدفاعية، وكيف تدرب قواتها لتكون قادرة على تنفيذ ضربة نووية أولى في بعض ظروف ساحة المعركة”.

ويكشف أحد التدريبات، كما في الوثائق المسربة التي تحدد الخطوط العريضة لهجوم افتراضي من جانب الصين، بأن روسيا، التي يشار إليها باسم “الاتحاد الشمالي”، يمكن أن ترد بضربة نووية تكتيكية من أجل منع الجنوب (بكين) من التقدم بموجة ثانية من الهجمات.

مدير الاستراتيجية والتكنولوجيا والحد من الأسلحة، في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ويليام ألبيرك، ذكر بحسب ما جاء في “فايننشال تايمز”، أنه من المرجح أن يكون بحوزة موسكو “عتبة أعلى لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية ضد أوكرانيا، بسبب المخاوف من أنها ستؤدي إلى تصعيد الصراع” مع الغرب.

حفرة في موقع للتجارب النووية للاتحاد السوفيتي السابق، روسيا حاليا – إنترنت

إذاً، ألحقت روسيا ضرراً ببنية معاهدة حظر الانتشار النووي بعدة طرق من خلال إخلالها بالتزامها، وربما تكون قد علمت دولاً أخرى دروساً خطيرة فيما يتعلق بالسياسات النووية، بحسب مؤسسة “راند” البحثية الأميركية، وقالت إنه يمكن التعاطي مع الغزو الروسي لأوكرانيا “على أنه درس أكثر وضوحاً للدول التي لم يسبق لها امتلاك ترسانات أسلحة نووية وليست محمية بالدرع النووي للقوى العظمى. قد تسعى الآن البلدان التي لم يسبق لها السعي لامتلاك أسلحة نووية إلى الحصول عليها لضمان عدم قيام أي دولة مسلحة بالأسلحة النووية بغزوها”.

وبحسب المؤسسية البحثية الأميركية، تسمح العقيدة النووية الروسية لعام 2020، والتي كانت محل جدل كبير حتى بين الخبراء الروسيين، باستخدام الأسلحة النووية للحيلولة دون تصعيد صراع مسلح، وضمان الوصول إلى شروط في صالح روسيا لإنهاء الصراع. يرسل النظام رسائل غامضة من خلال الرئيس فلاديمير بوتين بالإعلان أن الحرب النووية غير مقبولة.

وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن “روسيا لا تخطط لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، لكن يرى المروجون للدولة صراحة وأكثر من مرة أن التصعيد النووي خيار قائم”. رغم أن موسكو لم تُظهر تفوقاً عسكرياً متوقعاً في الكثير من المجالات وكانت غير قادرة على تحقيق أهدافها، فقد ذكّرت الغرب مراراً بإمكاناتها النووية، وقد تحاول الصين العثور على سبيل لاستخدام الإكراه النووي والتجربة الروسية بطريقة مماثلة للتعامل مع قضية تايوان.

في حديثه لـ “الحل نت” يقول مدير التحالف الأميركي الشرق أوسطي لدعم الديمقراطية وعضو “الحزب الجمهوري الأميركي” توم حرب، إن ما صرحت عنه الصحيفة البريطانية هو كشف وقائع مثبتة وتعكس استراتيجية روسية محتملة، لافتاً إلى أن هذه المعلومات المسربة والموثقة ستبعث بمخاوف حقيقية لدى المجتمع الدولي خاصة الأوروبي والأميركي، والذي بدأ كل منهما الضغط على حكوماته لجهة رفع سقف المساعدات الموجهة لكييف، مع الأخذ في الحسبان ضرورة اتخاذ مواقف وعمل اصطفافات لتفادي المخاطر وتأمين المصالح الغربية. ومن هذا المنطلق يرجح توم حرب، أن تلك التسريبات ربما تكون مخابراتية وتحفز القوى المختلفة الأوروبية والأميركية على الإبقاء على المساعدات الأوكرانية.

ويقول مدير التحالف الأميركي الشرق الأوسطي لدعم الديمقراطية، إن روسيا تقوم دائماً بتطوير السلاح النووي التكتيكي، وهي تطور هذا السلاح لمواجهة الأعداء المحتملين والقوى المعادية لهم، سواء في كييف أو آسيا أو الغرب، وفي كل الأحوال ينبغي لتلك القوى أن تتهيأ أمنياً وعسكرياً بخطط لمواجه مخاطر النووي الروسي التكتيكي.

ويشير توم حرب في حديثه، إلى أن “الدول الغربية تقوم بتدريبات تكون سرية لمواجهة استعمال السلاح التكتيكي في حرب محدودة. وهناك ضغط شديد لوقف هذه الحرب في الأحوال كافة”، وبالتالي، فإنه “ومن دون شك، يحاول بوتين إقناع القوى الغربية أو بالأحرى تخويف الغرب بأنهم لو استمروا بالدعم ربما يستعمل النووي بأماكن محدودة. ومن هذا المنطلق؛ ينبغي مراقبة موسكو وكبح تهديداتها ثم البدء في إيجاد حل وأفق لإنهاء المسألة الأوكرانية بشكل جاد”، يُضيف توم حرب مُختتماً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات