ضبط الخطاب الديني الذي اتجهت له عدة دول، اكتوت بنار الإسلام السياسي، كما في مصر، أصبح له أثر في المغرب. ومنذ اندلاع “الربيع العربي” الذي أسفر عن موجة صعود للإسلامويين سياسياً ووصولهم للحكم في مصر وتونس والمغرب، فإن سقوطهم الحتمي في البلدان الثلاث، وتباعد القوى المجتمعية عنهم، أعقبه رغبة لجهة فصل الخطاب السياسي عن الدعوى، ومنع توظيف تلك الجماعات لخطابها الأيديولوجي في أهداف مصالحها نحو السلطة. فتديين الخطاب السياسي، تسبب في صعود أحكام التكفير في قضايا مدنية، تشريعية وقانونية وسياسية، حتما هي محل جدل ونقاش وخلاف.
وبشكل مبكر، طرحت مصر فكرة “تجديد الخطاب الديني”، لتخطي مرحلة الكراهية التي حاولت أن تفرضها جماعة الإخوان المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، بل منعت وصول الأئمة والخطاب إلى المنابر لاستغلالها سياسياً وفي القضايا الإقليمية بما يتوافق مع أجندتهم البراغماتية. وكان الإخوان قد حاولوا كثيراً ونجحوا أحياناً في مصادرة بعض المساجد لصالحهم، وروجوا من فوق المنابر وفي خطب الجمعة حملات لاستهداف خصومهم السياسيين.
قبل فترة وجيزة، قرر المجلس العلمي الأعلى، عمل “خطبة الجمعة الموحدة”، وهو قرار له ما يماثله في مصر، حيث سعى المجلس في قراره الصادر نهاية الشهر الماضي حزيران/ يونيو، تطبيق خطة تبليغ دينية جديدة هي “خطة تسديد التبليغ”. وأوضح البيان الصادر عن المجلس أن “خطة التبليغ مشروع تسعى من خلاله مؤسسة العلماء إلى النهوض بأمانات العلماء في واجب تبليغ الدين من أجل تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي للناس، بحيث يكون لإيمانهم وعباداتهم ثمرات تنعكس على نفوسهم بالتزكية وصلاح الباطن، وعلى سلوكهم بالاستقامة وصلاح الظاهر”. كما صدر لاحقا قرار يمنح الخطباء فرصة الاختيار من بين عدة موضوعات سيقترحها المجلس لتكون موضوع خطبة الجمعة.
جدل في المغرب بشأن قرار الخطب
وبحسب نص القرار المنشور على منصة وزارة الأوقاف المغربية: “يعلن المجلس العلمي الأعلى أنه سيقترح على السادة الخطباء، خطبة الجمعة الموالية كل يوم أربعاء على الساعة الثانية بعد الزوال لمن أراد اعتمادها، وذلك على موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وعلى صفحاتها الاجتماعية وكذا على صفحات المجالس العلمية الجهوية والمحلية”.

وفوراً تلقى خطباء محسوبين على تيار الإسلام السياسي هذا القرار بالهجوم والتشنيع، حيث هاجم القيادي في جماعة “العدل والإحسان”، محمد حمداوي، “خطة “تسديد التبليغ” تستهدف، كما قيل، ترشيد تبليغ أمور الدين في البلد. وقد تزامن ذلك مع توحيد خطبة الجمعة على الصعيد الوطني، وتوقيف أحد الخطباء لأنه لم يلتزم حرفيا بما برمجته الوزارة في خطبتها”.
واتهم القيادي بالجماعة الإسلاموية “تحنيط وتعليب” التبليغ، وتحويل “الخطباء والوعاظ والعلماء مجرد مذيعي قنوات موظفين لديها ينطقون بما يقدمه المخرج في دهاليز الوزارة”، وطال الاتهام على لسان هذا القيادي مستوى من التكفير الصريح حيث اعتبر القرار “يخالف صريح الدين والشرع والسنة في الحرية التي أناطها الإسلام بالدعاة من خطباء وعلماء ووعاظ ومؤطرين في اختيار ما يرونه مناسبا لما هو مطروح أمامهم من قضايا مجتمعية تستلزم التوجيه والإرشاد”.
وفي ما يبدو أن الوزارة تحت هذا الضغط الإسلاموي، حاولت تخفيف الأمر وقالت في بيان توضيحي أن “تعميم الخطب أمر مؤقت وليس دائماً”. وتابعت: “سيستمر الخطباء بعد ذلك في إعداد خطبهم مجتهدين في بناء هذه المضامين اعتماداً على كفاءتهم وهم محل ثقة، مبلغين ومرشدين وناصحين للناس بما ينفعهم ويصلح أحوالهم في دنياهم وأخراهم إن شاء الله”.
الانفلات في المجال الديني يمكن القول إنه سمة تشترك فيه بلدان عديدة عربية، وقعت تحت ابتزاز القوى الإسلاموية بأن الاقتراب من الأمور الدينية/ الشرعية يضعها في دائرة الشبهات والتكفير، بما يجعلها في مواجهة قد تفقد على إثرها الشعبية والشرعية، ولهذا، كانت الماكينة الدعوية لهذه التيارات هي تصنيف الأنظمة بين “كافر” أو “طاغوت” أو “مؤمن” بحسب التوافق السياسي مع أهدافهم وتحقيق مصالحهم. وفي الحالة المغربية، لا تكف جماعة مثل العدل والإحسان عن توظيف أفكارها في تعبئة المجتمع ضد النظام القائم وتعتبر أن هدفها هو “دولة القرآن” في مقابل “دولة السلطان”.
وقد سبق للمغرب أن رفض منح الجماعة الإسلاموية تراخيص للاعتكاف في المساجد قبل سنوات، بعد أن تكشف لها إدارة لهذا الجانب الديني في جهة حساباتها السياسية. وتتعدد استراتيجياتها لفرض أنماطها الفكرية الأيدولوجية والعقائدية، بحيث يكونوا مجرد حوامل مجتمعية لسياساتها في الداخل وإقليمياً، وعلى عدة مستويات. فالهدف هو بناء تلك الحوامل التي سيكون بمقدورها “الانقلاب على دولة السلطان” وفق أدبياتهم إلى “دولة القرآن”.
استغلال حرب غزة
وبحسب الكاتب المغربي سعيد الكحل في منصة “الصحيفة” المغربية، فقد شكلت الحرب على غزة فرصة للمغاربة ليكتشفوا الأهداف الحقيقية التي جعلت جماعة العدل والإحسان تتفرغ للدعوة إلى المظاهرات المنددة بـ”العدوان على الفلسطينيين وتتزعم المسيرات المطالبة بوقف العدوان”. ذلك أن الجماعة، وهي تدعو إلى المظاهرات يومياً في المدن المغربية، وتحرض على استغلال صلاة الجمعة للتعبئة من أجل حشد أكبر عدد من المواطنين فيما تسميه بـ”جمعة الغضب”، لا تستحضر مصالح المواطنين التي تتعطل بسبب المظاهرات، خصوصاً في الشوارع التي يمر منها المتظاهرون، ولا المصالح العليا للوطن وهي تقرن بين “وقف العدوان وبين إسقاط التطبيع وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. ولعل المتتبع لخريطة المظاهرات وشعاراتها التي تتولى الجماعة وحلفاؤها من اليساريين صياغتها، سيدرك أن الهدف ليس وقف العدوان”، ولكن التحريض على النظام والسعي لتجريده من كل عناصر القوة العسكرية التي أفشلت مخططات أعداء الوحدة الترابية ومموليهم وداعميهم بالمال والسلاح والتدريب.
إن الضوابط الجديدة لتطوير الخطاب الديني بما يقوض الخطابات المتشددة، يحتاج إلى هيكلة المجال الديني، ومنع التنافس المحموم بين مرجعياته لشرعنة خطاباتها سياسياً.
وتابع: من هنا يكون الهدف من رفع شعار إسقاط التطبيع والدعوة إلى التظاهر رغم توقف الحرب على غزة، هو ممارسة مزيد من الضغط على النظام حتى يقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل؛ الأمر الذي سيترتب عنه وقف التعاون العسكري مع إسرائيل وأميركا معاً وحرمان الجيش المغربي من أحدث المعدات والتقنيات العسكرية المتطورة التي كانت وستكون الرادع القوي لـ”عصابات البوليساريو” وداعميهم. فالجماعة، بمواقفها المعادية للمصالح العليا للوطن، تخدم أهداف إيران التي تستغل تنظيمات الإسلامي السياسي لزعزعة استقرار الدول العربية، ومن ثم، جر الخراب والدمار والفتن إليها على النحو الذي انتهت إليه الأوضاع في ليبيا وسوريا واليمن والعراق”.
وقبل نحو عام تقريباً، سعت وزارة الأوقاف المغربية، إلى تطوير الخطاب الديني، وذلك من خلال عدة خطوات تستهدف التصدي إلى نشر التطرف وتعميمه في الفضاء الالكتروني، ولهذا، تم توفير منصات إلكترونية للغرض ذاته، وتشكيل منابر رقمية يتماشى جنباً إلى جنب مع “توحيد الخطبة” لجهة ضبط الخطاب الديني. والإصلاح الديني في المغرب يبدو ضرورة في ظل تهديدات “داعش” في شمال إفريقيا، وانتقال نفوذهم في تلك المنطقة التي تتمدد فيها البادية وتستغلها الجماعات الإرهابية لإعادة التموضع وتشكيل هياكلها التنظيمية مجدداً.
التحريض ضد قضايا “الأمن القومي”
وتعد الحالة المغربية لها خصوصيتها في مواجهة التيار الإسلاموي الذي لا يكف عن التحريض ضد قضايا تمثل “أمنها القومي”، منها التطبيع مع إسرائيل والمكون اليهودي المؤثر، فضلاً عن شن هجمات على الأمازيغ، وذلك بهدف التلويح بإشعال فتيل الأزمات الهوياتية.

بالتالي، فإن الضوابط الجديدة لتطوير الخطاب الديني بما يقوض الخطابات المتشددة، يحتاج إلى هيكلة المجال الديني، ومنع التنافس المحموم بين مرجعياته لشرعنة خطاباتها سياسياً. وقد سبق للباحث المغربي يحيى اليحياوي أن قال: “إن مشروع “الإصلاح” لا يتطلع فقط، بهذه النقطة، إلى إعادة البناء المؤسساتي للوعاء الديني برمته، بل ويتطلع أيضا إلى سلك “سياسة في القرب”، لم تكن السلطة المركزية بغيابها، تعلم بدقة ما يدور بالمساجد أو الزوايا أو المشيخات أو بالآلاف من الكتاتيب القرآنية المنتشرة هنا وهناك، والعاملة في العديد من الحالات، بغفلة تامة عن عيون السلطة إياها ذاتها.
أما الهدف الثاني، فيكمن في وعي الدولة، لدرجة تصريحها بذلك صراحة، بضرورة إيلاء أهمية خاصة للتأطير الديني، باعتباره أداة الإصلاح الأساس، ودعامة نجاحه ونجاعته في الزمن والمكان. إن التقصير الحاصل على هذا المستوى، بنظر المشروع، لا يتأتى فقط من ضعف ما يرصد للمجالس المحلية والإقليمية من ميزانيات، بل ويتأتى أيضاً من هشاشة الوضعية المادية، للعديد من الأئمة والقيمين الدينيين ومؤذني الجوامع وما سواهم، مما يجعلهم إما غير قادرين على تأدية وظائفهم، أو مكمن ابتزاز، ثم استقطاب فيما بعد، من لدن بعض “المشوشين على الخط العام، الذي ارتضته الدولة المغربية في تدبيرها لشؤون الدين”.
وفي المحصلة، يتعين تجديد الخطاب الديني بحيث لا يكون خاضعاً لأي سياسة تهدد الهويات والقوميات المتنوعة بالمغرب، أو يثير شبهات حول الأهداف الإقليمية والخارجية والتشنيع على مواقفها سواء في ما يخص “التطبيع الإسرائيلي” أو ما استهداف مواقفها من حرب غزة.
- تحرك رسمي من “الأوقاف” و”العدل” بشأن أحداث جرمانا يثير انتقادات السوريين
- هجومان لـ”داعش” يستهدفان مواقع “قسد” بريف دير الزور في سوريا
- بعد تصاعد التهديدات ضد “الدروز”.. دعوات سورية لوقف التحريض الطائفي
- طوارىء حكومية وتحذيرات من أزمة مياه غير مسبوقة في سوريا.. ما التفاصيل؟
- أزمة حادة بالشبكة المصرفية تخنق السوريين.. وتساؤلات حول مصير إنهاء الأزمة
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة
الأكثر قراءة

وفد سوري يغادر إلى أميركا للمشاركة في اجتماعات صندوق النقد.. لماذا لم يرافقه وزير الاقتصاد؟

وسط غياب المحاسبة.. دوافع طائفية وانتقامية وراء تصاعد القتل ضد المدنيين بسوريا

وداع أصالة وسيرين لصبحي عطري.. الصورة تتحدث والكلمات تدمع!

هوية تُمحى.. استبدال اسم قرية مهجّرة بسوريا يثير مخاوف من تغيير ديموغرافي

هل تنقذ اتفاقية “الأمم المتحدة” البنوك السورية؟.. وخطة مساعدات ضخمة خلال 3 سنوات

نضال الشعار.. خبرة عالمية: هل تكفي لإنعاش اقتصاد سوريا؟
المزيد من مقالات حول عين على التطرف

هجومان لـ”داعش” يستهدفان مواقع “قسد” بريف دير الزور في سوريا

13 هجوما لـ “داعش” في نيسان.. هل يستعيد التنظيم نشاطه؟

تحذيرات من استعادة “داعش” لقوته في سوريا

كُردستان العراق: منفذ الهجوم على احتفال “أكيتو” سوري وينتمي لـ”داعش”

شرعي سابق بـ”تحرير الشام” يدعو لتوطين “المجاهدين” في الساحل السوري

الجيش الأميركي يعلن قتل قيادي في تنظيم تابع لـ”القاعدة” بسوريا

“لأول مرة منذ عامين”.. فرنسا تقصف مواقع لـ”داعش” بسوريا
