“من أجل تذوق المغامرة، وتذوق ما هو غير متوقع، وأيضًا خوفًا من أن أجد نفسي يومًا ما في دار لرعاية المسنين أتساءل عما فعلته في حياتي بحق الجحيم، معتقدًا أنه فيما يتعلق بالحياة، فأنا راضٍ فقط بالوجود، أحيانًا أُظهر جرأة غير حكيمة”، هكذا علّق الكاتب الفرنسي فرانسوا هنري ديزيرابل على تجربته المثيرة والخطيرة في إيران التي نشرها في كتاب بعنوان “بلاء العالم.. عبور إيران”، والذي صدرت الطبعة الأولى منه في حزيران/يونيو 2023.

في خريف 2022 بينما كان النظام الإيراني يقمع بعنف المظاهرات عقب مقتل “مهسا أميني” على يد الشرطة الإيرانية لرفضها ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، قرر فرانسوا هنري ديزيرابل الذهاب إلى إيران، برحلة كان مُخططاً لها خطط منذ فترة طويلة إلى إيران، لكنه أجّلها بسبب وباء “كورونا” والإغلاق الذي ضرب العالم، فيما أراد الكاتب الفرنسي أن يقوم بكتاب على خطى كاتب الرحلات نيكولا بوفييه، الذي كان كتابه “استخدام العالم”، الذي نُشر عام 1963، بمثابة “صدمة قراءة” و”انفجار”.

رحلة خطيرة إلى إيران

في مذكرات سفره الرائعة “بلاء العالم”، يجسّ فرانسوا هنري ديزيرابل نبض إيران والشعب المتعطش للحرية، والسلطة العنيفة التي تحكمهم، ويروي ما حدث له خلال 40 يوماً قضاهم نهاية عام 2022 في إيران، حيث رسم الكاتب الفرنسي قصة مثيرة، تكشف بلدًا كما وصفه في مراحله الأخيرة، يعج بالحياة والغضب تحت السطح.

تجاهل فرنسوا تحذيرات وزارة الخارجية الفرنسية التي حثّته على التخلي عن هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى الجمهورية الإسلامية، فأبلغوه إذا تم القبض عليه، فلن يتمكن أحد من زيارته في السجن، فيما رأى الكاتب أن “الجرأة المتهورة” لها ما يبررها.

واليوم هناك الكثيرين الذين هنأوا عناده، لأن رحلته كانت ناجحة، وتجربته كانت هامة، فقدّم كتابه في مذكرات سفره صورة حقيقية عن بلد مُقيّد يعيش تحت نيران “الملالي”، والغضب يغلي تحت السطح، كما كشف لنا عن صوت شعب لم تنجح أداة إطفاء الإرهاب الحاكم في ترويضه، بل فقط في تخويفه، مؤكداً من خلال تجربته إنه على الرغم من القمع الهمجي والتعذيب والاغتصاب والقتل المتسلسل للأبرياء، يواصل ذاك الشعب المقاومة والأمل في المستقبل.

الكاتب الفرنسي فرانسوا هنري ديزيرابل مؤلف كتاب بعنوان “بلاء العالم.. عبور إيران” – إنترنت

زار الكاتب عدة مدن، تبريز، سقز، أصفهان، شيراز، برسيبوليس، إلخ، ورغم أن فرنسوا ليس خبيراً في شؤون بلاد فارس، لكن نظرته ثاقبة وفهمه كان كبيراً إلى حدّ أنه حصل على جائزة “مونتين” لعام 2024 في أواخر حزيران/يونيو الماضي، فالكاتب الفرنسي ولاعب الهوكي السابق الذي دخل الأدب من باب تاريخ الثورة الفرنسية، أثبت نفسه لاحقاً في مجموعة من القصص القصيرة وثلاث روايات، كأحد الأصوات الأساسية في الأدب الفرنسي.

المقاومة في كل مكان

يقول فرنسوا من خلال تجربته الفريدة في إيران، إنه في الجمهورية الإسلامية، حيث تؤيد الأغلبية الساحقة من السكان المظاهرات (87 بالمئة وفقاً لاستطلاعٍ غير رسمي)،فإن جميع الإيرانيين يعارضون النظام على طريقتهم الخاصة، سواءً بسرّية أو بجرأة أكبر، أو بتكتم. 

مثالاً حيّا على ذلك، “المرأة التي رأيتها عائدة إلى المنزل من السوق ومعها ثلاث قطع حديدية في حقيبة: في كل مرة يطارد أحد عملاء النظام شخصًا ما تحت نوافذها، كانت تلقى قطعة حديدية عليهم من النافذة بشجاعة، مثلها مثل كل هؤلاء النساء في الخطوط الأمامية اللاتي خرجن إلى الشوارع وشعرهن يتطاير مع الريح”.

فرانسوا هنري ديزيرابل

أو الشابة نيلوفر، التي قالت “كم هو رائع الصدى في طهران”، وفي وسط أحد شوارع وسط المدينة، بدأت فجأة بالصراخ، والبوق في يدها: “الموت للديكتاتور”.

بنظرة دقيقة ولطف مشوب غالبًا بالفكاهة، يحكي فرانسوا عن مواقفه مع الإيرانيين، ويرسم صورة بلد غاضب، متعطش للحرية، وفُهم من خلال أحاديثه مع المحللين أنه بعد الإعلان عن “إلغاء الشرطة الأخلاقية” والذي تناولته جميع وسائل الإعلام الغربية، إنه لم يكن كذلك على أرض الواقع، حيث أكد المحليون له: هي كذبة الدعاية والأخبار التي يتم تداولها.

طالبة تتظاهر ضد الرقابة في جامعة طهران، بعد إغلاق الصحف الإصلاحية. وهي تحمل نسخة من صحيفة “كيهان” المعروفة بأفكارها المتطرفة المؤيدة للنظام، مقلوبة رأساً على عقب. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

وتحدث فرانسوا مع رجل عجوز يدعى “تبريز”، وهو رجل أميّ يجمع منذ عام 1954 كلمات بجميع اللغات لمئات الأجانب الذين مرّوا بمتجره حيث يطلب منهم أن يدونّوا بدلاً عنه كلمات تشرح الرغبة في الحرية والتخلص من الظلم.

التخلص من خامنئي

كذلك استكشف الكاتب الفرنسي “الجانب المُظلم” للمجتمع الإيراني، حيث التقى برجل يدعى “أمير” نشأ في ظل الإسلام الشيعي الصارم والذي حضر جلسة الرجم في سنّ الثانية عشرة، ثم فقد كل إيمانه بالله. واليوم، ينتظر “أمير” أن يحتفل بكرامة بما سيكون “أسعد يوم” في حياته: وهو يوم وفاة المرشد الأعلى علي خامنئي.

وقال أحد الإيرانيين الذي تحدث معهم فرانسوا والذي التقى به في المسجد السنّي في زاهدان: “المشكلة إنه لدينا شعب مصمم على طرد نظام فاسد من السلطة، ومن ناحية أخرى، هناك نظام فاسد مصمّم على البقاء هناك”، مضيفاً: “رجال هذا النظام لن يتوقفوا عند أي شيء، صدقني، لكننا لن نفعل ذلك أيضا، وصوت رصاصهم سيواجه صعوبة في طمس أصواتنا”.

وتحدّث فرانسوا عن أن الإيرانيين الخائفين من السلطة يدعمون الشجعان سرّاً، في بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر، في طهران، خرجت نصف الفتيات تحت سنّ الثلاثين بدون حجاب. وقد استبدلته بعضهن بقبعة، أو قلنسوة، أو وشاح يغطي الجزء السفلي من شعرهن؛ وكانت القيادة في طهران مذهولين من حجم الحركة ومدتها. 

بل؛ فإن أولئك الذين شاركوا في الاحتجاجات لم يكونوا وحدهم: فقد شجّعهم الكثيرُ من الرجال على النصر، وكافأتهم النساء المحجبات بابتسامة، كما لو كانوا يشكرونهم على الجرأة التي لم يتمتعوا بها بعد.

وأضاف الكاتب الفرنسي: إنّنا “نقيس شجاعة هذا الشعب بشكل سيئ ولا نأخذها بعين الاعتبار. دعونا لا نتحدث عن لا مبالاة مَن هُم في السلطة وإحراجهم تجاه دولة غنية بالنفط. دعنا ننتقل أيضاً إلى هؤلاء المؤثّرين الذين يدعمون الشعب الإيراني في قصصهم على إنستغرام، وحتى إلى هؤلاء النساء اللاتي قصن خصلة من شعرهنّ، في أوروبا أو أي مكان آخر”.

عام من النضال

سرد الكاتب الفرنسي في كتابه صور رائعة عن الحياة في إيران، وفسّر إلى أي مدى هذا البلد محكوم بحكومة فاسدة مقترنة بحكومة ثانوية فاسدة، ووصفه بأنه نظام فاسد يستولي على ثروات بلد ويحافظ على نفسه في السلطة من خلال الحكم بالموت والخوف من القتل.

شاركت رايت، واسمها الحقيقي بريتني راين ويتينغتون، لقطات على حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي يوم الاثنين من عدة مواقع في العاصمة الإيرانية طهران. (إنترنت)

كما تطرّق فرانسوا إلى قواعد المواعدة المحرمة في طهران، وقواعد الأدب غير المكتوبة التي تحكم الحياة والعلاقات العاطفية، أو حتى راغبي المتعة الذي يحاولون التحايل على القوانين بالزواج المؤقت، وهو الذي وثّقها في كتابه بأنها أحد الإجراءات المنافقة التي تسمح للرجال والنساء بالاجتماع لمدة ساعة أو عشرة أو بضعة أيام، دون التعرّض للعقاب.

منذ الليلة الأولى بدا الكاتب الفرنسي فضولياً تجاه المجتمع الإيراني، لكن شيدا، الفتاة الصغيرة التي تعمل في النزل، حذّرته من أن هؤلاء الأتباع الذين يخدمون خامنئي و”الحرس الثوري”، يراقبون ويتحكمون في كل شيء.

ورأى الكاتب إنه حتى لو كان الإيرانيون يتسوّقون، ويمشون في الحدائق، ويلعبون كرة الطاولة والشطرنج، لكن ما يتم نشره عن هذا البلد قليل، قائلاً: “نحن لا نعرف ما يحدث في هذا البلد إلا من خلال تأثيرات العدسة المكبرة المعتادة لوسائل الإعلام. هذه البلاد في نار ودم”.

وبينما كان السكان المحليون منفتحون إلى الحديث معه في طهران، إلا إنه الكاتب واجه واقعاً مختلفاً على هامش البلاد، في مدن مثل بلوشستان وكردستان (المدن السنية)، فرأى كيف تتواجد الدولة وأجهزتها للمراقبة والقمع في كل مكان، وغالبًا ما تكون مغمورة في السكان، مما جعل السكان خائفون من الحديث معه، وفضولين جداً حوله إلى درجة تشكّكهم فيه، وعدم شعورهم بالراحة حيال الحديث معه، وحكى كيف أطلق النظام الحالي النار على الحشود من فوق أحد الأسطح هذه المنطقة السُّنية.

والتقى فرانسوا كذلك بالعديد من الرحّالة، المتحمسين من جميع الجنسيات، مثل ماريك الذي يريد الذهاب بالدراجة إلى باكستان، والأفغان الذين يمثلون بالنسبة للإيرانيين ما يمثله المكسيكيون بالنسبة للأميركيين.

خلال رحلته رأى الكاتب الفرنسي، أن الإيرانيين قد يحتاجون سنة من النضال لإسقاط هذا النظام. ومن الممكن أن يستغرق الأمر نفس القدر، أو حتى أكثر، للإطاحة بحكم الملالي، وأضاف إنه لا ينبغي اختزال هذه القصة في العنف الذي يعاني منه الشعب الإيراني، فهم على الرغم من ذلك شعب لديه حب الشعر، ويحب المكتبات التي تمتلئ بها شارع كامل في طهران، وكذلك يحب الحفلات.

وقد حرص الكاتب على عدم الاحتفاظ بأي شيء، ومثل السكان المحليين، قام بحذف حساباته على الشبكات الاجتماعية ولم يحتفظ بالكثير من الصور بخلاف الصور السياحية، وذلك تحسّباً لأي موقف مع أي رجل أمن، فهو يعلم أن إيران تحتجز الغربيين وتبادلهم مثلما يتم التعامل مع الرهائن، فرأها دولة من المحتالين، دولة تقتل بلا خجل. ولكن كما يقول المقاتلون: “وراء كل إنسان يموت، ينبض ألف قلب آخر”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات