بعد التمرد التاريخي الذي حدث خلال الأيام القليلة الماضية في روسيا على يد مجموعة “فاغنر” بقيادة زعيمها يفغيني بريغوجين، يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الآن أضعف من أي وقت مضى، حيث يعيش أسوأ فترة سياسية له بعد هذا التمرد الذي كان على وشك أن يقود روسيا لحرب أهلية كارثية.

بمجرد قبوله صفقة مع بريغوجين، يدلل هذا التمرد بأنه التحدي الأصعب بالنسبة لبوتين خلال أكثر من عقدين من وجوده في السلطة، ولهذا السبب يقوم الآن بإعادة اصطفاف أوراقه مرة أخرى، فنظامه يبدو هشا للغاية أكثر من أي وقت مضى، ونفوذه في الدول الخارجية باتت مهددة، نظرا لاعتماده بشكل كبير على “فاغنر” لإدارة مصالحه بتلك الدول، ولهذا السبب شرع “الكرملين” في السيطرة الكاملة على الإمبراطورية العالمية التي بناها رجل الأعمال العسكري سيئ السمعة، كما قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخرا.

بوتين، أرسل مبعوثين إلى سوريا وإفريقيا للسيطرة على إمبراطورية “فاغنر”، وفق ما نقلت الصحيفة الأميركية عن مسؤولين أميركيين، مشيرة إلى أن مبعوثا روسيا حثّ دمشق على منع مغادرة قوات “فاغنر” دون تنسيق مع موسكو، مؤكدة أن مقاتلي “فاغنر” في سوريا امتثلوا لتعليمات بالتوجه إلى قاعدة في مدينة اللاذقية السورية.

الكثير من التساؤلات تثار، لاسيما فيما يتعلق بما هو أبعد من الحدود، وبالأخص الساحة السورية، فمنذ التدخل العسكري الروسي بسوريا عام 2015 ارتبط اسم “فاغنر” بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، بحسب مسؤولين غربيين وتقارير محلية سورية، كون عناصر هذه المجموعة من المرتزقة انتشروا على الأرض، وكان لهم دورٌ في قلب الموازين لصالح الحكومة السورية.

ليس ذلك فحسب، بل استحوذ بريغوجين على جزء كبير من الاقتصاد السوري، خاصة في قطاع النفط والفوسفات، وهذا يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول خطوات بوتين القادمة فيما يتعلق بوجود قوات “فاغنر” في سوريا، وتداعيات خروج “فاغنر” من سوريا على نفوذ بوتين هناك والحكومة السورية، وإذا ما سيشكل فراغ “فاغنر” أي فرصة للميليشيات الإيرانية للسيطرة على أماكنهم.

ماذا سيفعل بوتين بـ”فاغنر”؟

تقرير الصحيفة الأميركية أردف أن روسيا بدأت في قص جناح قوات مجموعة “فاغنر” في سوريا، بعد تمرد “فاغنر” خلال الأيام القليلة الفائتة، حيث توجه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين شخصيا إلى دمشق لإيصال رسالة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، مفادها أن قوات مجموعة “فاغنر” لن تعمل هناك بشكل مستقل.

قوات “فاغنر” في سوريا- “إنترنت”

بيان صادر عن مكتب الأسد بعد الاجتماع يقول، إن الجانبين ناقشا التنسيق خاصة في ضوء الأحداث الأخيرة. وصدرت أوامر لمقاتلي “فاغنر”، الذين عملوا بشكل مستقل إلى حد كبير في سوريا، يوم الثلاثاء الماضي، بالذهاب إلى قاعدة جوية تديرها وزارة الدفاع الروسية في مدينة اللاذقية الساحلية السورية، وامتثلوا لذلك، حسبما قال شخصان مطّلعان على الأمر للصحيفة الأميركية.

في الأثناء يدور حديث متضارب عن انسحاب هذه القوات من مواقعها الاستراتيجية الواقعة على خطوط التماس وتأثير ذلك على جبهات القتال.

في المقابل يشكك المحلل السياسي والباحث الرئيسي في “مركز جسور للدراسات”، فراس فحام، في حديثه لموقع “الحل نت”، بصحة هذه المعلومات ولا يعتقد أنه حصل شيء من قبيل انسحاب بعض قوات “فاغنر” من مواقعهم في سوريا، ويستبعد فحام أي تأثير إذا انسحبت “فاغنر” من الأراضي السورية.

فحام استدرك ذلك بالقول “روسيا لا تعتمد على فاغنر بقدر ما تعتمد على ميليشيات سورية مثل الفرقة 25 بقيادة سهيل الحسن، وفيلق القدس وغيرها من الفصائل السورية التي ترتبط بشكل مباشر بقاعدة حميميم في اللاذقية”، فنفوذ روسيا في سوريا هو سياسي ويعتمد على القوات الجوية بدرجة كبيرة وعلى إعادة هيكلة فصائل سورية تتبع لحكومة دمشق، يضيف فحام.

من جهته يرى الباحث في الشؤون الروسية طه عبد الواحد، أن الخيارات المرجّحة التي طرحها بوتين على مقاتلي “فاغنر” في روسيا، وهي إما التعاقد مع “وزارة الدفاع الروسية” أو العودة إلى مواقعهم أو اللحاق ببريغوجين إلى بيلاروسيا هي نفسها مطروحة أمام مقاتلي “فاغنر” في سوريا، حسبما يوضح لموقع “الحل نت”.

بالنظر إلى العلاقات التي قامت بين قادة مجموعات “فاغنر” في سوريا والعسكريين الروس في قاعدة حميميم بالساحل السوري، يمكن التوقع بأن يوافق عدد لا بأس به من هؤلاء المقاتلين على التعاقد والعمل في سوريا لكن تحت أمرة وبإشراف “وزارة الدفاع الروسية”، ممثلة بقيادة القوات الروسية على الأراضي السورية، على حد قول عبد الواحد.

مع ذلك يبقى غامضا مصير تعاون “فاغنر” مع حكومة دمشق، رغم الضغط الرسمي الذي ارتم له. ذلك أنه وكما جاء في تحقيقات صحفية، وقّعت هذه المؤسسة الروسية اتفاقيات مع دمشق بشأن استعادة السيطرة على حقول نفط وغاز، مقابل حصة من الإنتاج. وهناك اتفاقيات تشغيل حقول غاز مع شركات يُعتقد أنها ملكية بريغوجين. وهذا اتفاق بين جهات اعتبارية، هي “وزارة النفط السورية” من جانب ومن الجانب الثاني شركات مسجلة أصولا يملكها بريغوجين.

طبقا لتقديرات عبد الواحد، فإن خروج هذه الشركات من سوريا قد لا يكون بسهولة  خروج محتمل لمقاتلي “فاغنر”. وهنا يبقى كل شيء مرتبط بقدرة السلطات الروسية لممارسة الضغط المناسب بحيث يدفع شركات بريغوجين إما للتنازل أو لتعديل تلك الاتفاقيات بما يتوافق مع الوضع الجديد لشركة “فاغنر” العسكرية، أي بأن يتم تحويل الاتفاقيات لصالح شركات تملكها الحكومة الروسية.

تقرير لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان” يشير إلى أنّه علم أن القوات الروسية خيرت قوات “فاغنر” في سوريا بمغادرة البلاد أو الانضمام للجيش الروسي والعمل تحت قيادة الجيش الروسي، بالإضافة إلى تسريح المتعاقدين السوريين مع مجموعة المرتزقة، وفق جدول زمني حددته القوات الروسية.

تداعيات ذلك على نفوذ بوتين

يتواجد في سوريا أكثر من 2000 جندي من قوات “فاغنر” من جنسيات دول الاتحاد السوفياتي سابقا. ويشير “المرصد السوري”، إلى أن الأراضي السورية شهدت ترقبا، تزامنا مع تمرد قوات “فاغنر” في روسيا. ويتركز انتشار عناصر المجموعة ضمن حقول نفط البادية السورية، بالإضافة لتواجدها ضمن منطقة روسيا وتركيا أي محافظة إدلب في شمال غربي البلاد.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفقة الرئيس السوري بشار الأسد في قاعدة حميميم في اللاذقية السورية- “أ.ف.ب”

في سياق بدائل بوتين عن قوات “فاغنر” في سوريا، يرى الخبير في الشؤون الروسية، أنه ضمن الوضع الميداني الحالي لا يبدو أن بوتين بحاجة لقوات مثل “فاغنر” في سوريا، بنفس قدر حاجته لها في الفترة منذ 2014 حتى 2020. لكن في العموم لا بد من الإشارة إلى أنه ثمة تضخيم لقدرات “فاغنر” إذ تملك هذه الشركة مؤسسة إعلامية ضخمة.

هذا فضلا عن أنها كانت، على خلاف “وزارة الدفاع الروسية”، منفتحة على الحديث للإعلام، وكانت تأخذ معها صحفيين روس يرافقونهم  خلال العمليات العسكرية، وهذه السياسة ساهمت في تضخيم قدراتهم، هذا فضلا عن أنها جذبت الأنظار باعتبارها أول شركة روسية من نوعها تمارس مثل هذا النشاط ويستفيد “الكرملين” من خدماتها.

لذلك لا يبدو أن بوتين قد يواجه الكثير من المشاكل في سوريا حتى لو لم يبقَ أي عنصر من “فاغنر”، وفق تحليل عبد الواحد. بالتالي في حال انسحبت قوات “فاغنر” من سوريا بالفعل، فثمة ميليشيا أخرى مثل “الفرقة “25 و”فيلق القدس” إلى جانب الجيش السوري يمكن أن تملأ الفراغ مكانها. وبالتالي لن يكون لذلك أي تأثير كبير.

لم يكن نفي روسيا لعلاقة الحكومة بـ”فاغنر” مقنعا منذ البداية، لكنه كان يوفر للنظام إمكانية ادعاء عدم المسؤولية عن جرائم المرتزقة في كل مكان. في البداية كانت موسكو ترفض الاعتراف بوجود “فاغنر” أساسا، ثم تحولت إلى نفي علاقة الحكومة بها، قبل أن تغير الحرب الأوكرانية هذا الخطاب كليا. 

الجانب الاقتصادي

مجموعة “فاغنر” كانت قد أحدثت حالة من الجدل خلال تواجدها في سوريا خلال السنوات الفائتة، إذ ظلت أعمالها العسكرية تنحصر حول حقول النفط شرقا، أو حول حقول الفوسفات وسط البلاد، ولعل الأول من تموز/يوليو الجاري الموعد النهائي لتوقيع عقود مع المجموعة في حين أعلن بريغوجين عبر بث مصور بعد وصوله إلى بيلاروسيا أن رجاله لن يرضخوا لتوقيع العقود مع “وزارة الدفاع الروسية”، وفق عدة تقارير صحفية.

بالعودة إلى عبد الواحد فإنه يرى بأن تداعيات “فاغنر” ربما تكون مؤثرة على نفوذ بوتين ولكن سيقتصر الأمر على تضرر بعض “أصحاب النفوذ” في الحكومة السورية الذين ربما تربطهم مصالح مادية مع بريغوجين.

مجموعات “فاغنر”، انتشرت منذ عام 2015 مع التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب قوات الحكومة السورية، في عدة مناطق سورية ومنها اللاذقية وحماة وحمص وتدمر ودير الزور وحلب والحسكة ودمشق، إبان العمليات العسكرية في تلك المناطق، وكانت لا تزال تحتفظ بمواقع لها هناك حتى حدوث التمرد في روسيا قبل أيام.

طبقا لـ”المرصد السوري” فإن “فاغنر” جندت أكثر من 3000 سوري تحت إمرتها داخل وخارج سوريا. وتتراوح رواتب المقاتلين الشهرية بين 1200 و4000 دولار، كما يتقاضى موظفون وعاملون في الخارج أجورا أعلى.

مجلة “نيو لاينز” الأميركية قالت في تقرير سابق لها، إنها حصلت على مستندات مسربة تفيد بأن الاتحاد الروسي قدم قرضين إجماليهما مليار دولار أميركي إلى سوريا، شرط أن تُستخدم الأموال بشكل حصري لتدفع لشركات روسية خلال فترة ستة أشهر.

هذه الشركات الروسية المدرجة في الاتفاقية تتبع لشركتين مملوكتين لصديقي بوتين، جينادي تيموشينكو وبريغوجين. وبحسب الوثائق المسربة، فإن الشركات تستفيد بشكل كبير من القروض، ما يشير إلى أنه ربما تم تصميمها من الجانب الروسي كمخطط للتهرب من العقوبات الدولية وربما تم استخدامها بالفعل لهذا الغرض، وفقا للمجلة الأميركية.

سوريا- “أ.ب.ف”

لذلك فإن إنهاء وجود “فاغنر” في سوريا يشكل ضربة قوية للنفوذ الاقتصادي الروسي في البلاد، إضافة إلى أنه سيكون له آثار سلبية للغاية على الاقتصاد السوري الغارق أساسا في مجموعة من الأزمات الاقتصادية.

أما في سياق إذا ما سيشكل فراغ “فاغنر” أي فرصة للميليشيات الإيرانية للاستحواذ على مواقعهم، فكما تم ذكره آنفا من قبل الباحث الرئيسي في “مركز جسور للدراسات”، فيضيف أن الميليشيات الإيرانية متمددة، ومؤخرا بعد الحرب الأوكرانية تتجنب روسيا أي ضغط على إيران في سوريا وتتيح لها التحرك بحرية أكبر بسبب تمتين التحالف بين الطرفين بعد أن زودت إيران روسيا بطائرات مسيّرة.

يتفق والرأي ذاته، حيث يقول عبد الواحد إن الميليشيات الإيرانية أكيد ستحاول استغلال الوضع لتعزيز نفوذها في سوريا، لكن يرجح أن تقوم القوات الروسية بالانتشار في مواقع “فاغنر”. لكن قد يرى الجانب الروسي في بعض الحالات أنه من المفيد اقحام هذه الميليشيات في مواقع محددة لتتحمّل الأعباء.

كل هذا يبقى خاضعا للتخطيط للانتشار العسكري على الأرض تماشيا مع الرؤية الاستراتيجية للمشهد في مراكز صنع القرار في روسيا، لكن لا شك أن كل هذه التحركات والتغييرات التي ستحدث على الساحة السورية من حيث تحركات روسيا، ستكون لها آثار سلبية على كلّ من نفوذ “الكرملين” وحكومة دمشق معا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة