مع تأخر الرد الإيراني، تتبادر إلى الذهن أسئلة عديدة، جميعها ترتبط بطبيعة الجسم الإيراني الذي تتم صناعته في خطابات ما يعرف بـ”محور المقاومة”، ويبدو شيئاً متجهماً عصبياً بل وقادر على إلحاق الهزيمة التامة بـ”العدو” المتخيل سواء كانت الولايات المتحدة أو إسرائيل، وتحقيق العدالة المزعومة. فهذا التأخير في الرد على استهداف إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية بقلب العاصمة الإيرانية طهران، ثم القيادي بـ”حزب الله” فؤاد شكر/ الحاج محسن، في الضاحية الجنوبية لبيروت، فضلاً عن سلسلة ضربات نوعية في عدة مناطق ضمن ما يعرف بـ”جبهات الإسناد”، أمر متكرر، في حين لا تتوقف الدعاية الإيرانية عن إلحاق هزيمة مدوية بحق “العدو”.
وعليه، فإن تأخر الرد الإيراني لا يختلف عن سوابقه في حوادث متباينة، سواء داخل طهران أو في مناطق نفوذها، كما حدث مع محسن فخري زاده العالم النووي الإيراني أو ما جرى مع القيادي بتنظيم “القاعدة” أبو محمد المصري في العاصمة الإيرانية، يضاف لذلك مقتل قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني مروراً بما حدث بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر مع صالح العاروري وآخرين. غير أن استمرار التهديد الإيراني وخطابات الوعيد التي تتصاعد نبرتها بعد الذي جرى ضد هنية، من دون أثر فعلي، يضاف إلى سلسلة الرد المتأخر الذي لم يتعين “الموعد والمكان المناسبين” بعد، بتعبير زعيم “حزب الله” التقليدي حسن نصر الله.
دلالات تأخر الرد الإيراني
المقصود هو أن تظل الحاضنة المنضوية تحت لواء ما يعرف بـ”محور الممانعة” و”المقاومة” تحت أثر الخطاب المدوي الذي يتبنى الثأر والانتقام ويثير الرعب ويبعث التخويف وينذر بمعركة لا تبقي ولا تذر ضد “العدو” في تل أبيب وحلفائه في الغرب وواشنطن. هذا الخطاب يشكّل حماية وضمانة لاستمرار القوى الولائية في بيئاتها المناطقية المختلفة، بشكل مستقر، وداخل دوائرها ومربعاتها الأمنية والمذهبية، وتظل تحتمي بشعاراتها المتوهمة بأن “طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني والسويداء والحسكة” كما ردد نصر الله ذات خطاب.
وهذا الطريق الدائري الذي لا ينتهي مع الموعد والمكان اللذين لم يتحددا بعد لبدء الرد المطلوب في مواجهة “العدو”، يمثل خريطة بقاء محاور إيران بالمنطقة والإقليم. وتأخر الرد أو قصد المماطلة فيه إنما يماثل هذا الطريق الذي يسير للقدس من أبعد النقاط الجغرافية وأقربها لمصالح طهران. فالقدس لن يتحرر، إنما هي ترتهن في إطار تفاوضي بإدارة ملالي طهران، كما أن الثأر والانتقام ليس أكثر من خطاب تعبوي تحريضي لكسب الوقت وإضافة ورقة ضمن طاولة المفاوضات.
قال عضو مجلس خبراء القيادة الإيراني، محسن حيدري، إن “الإسرائيليين يعيشون حالياً حالة حرب نفسية قاتلة، وترقب الهجوم الإيراني أسوأ من الموت بالنسبة لهم”. وأضاف: “نأمل أن تضرب الجمهورية الإسلامية الإيرانية إسرائيل في الوقت المناسب”.
فبالحسابات الأمنية والعسكرية، تقع إيران تحت مخاطر جسيمة، وقد تعرى ضعفها وانهيار بنيتها الأمنية التي تبدو مخترقة، ليس فقط في إيران إنما في دمشق وبيروت، وذلك بدليل الحوادث النوعية التي حدثت وطالت مواقع وأفراد على مستوى حساس ودقيق بل واستراتيجي.
وتم تداول أحاديث عديدة عن عملاء إسرائيليين ميدانيين موجودين في تلك المناطق. فضلاً عن وسائلها أو بالأحرى قدراتها التكنولوجية الهائلة وفائقة الدقة نظراً لوفرة المعلومات التي توظفها في إدارة حروبها عبر استخدام الذكاء الاصطناعي. فهذا العالم السيبراني الذي تموج فيه إسرائيل وتنشط بإمكانياتها التكنولوجية المتطورة، يجعل الأرض تحت أقدام وكلاء إيران و”الحرس الثوري” مهددة بالدرجة التي تجعل الرد الإيراني أو إيجاد معادلة للردع أمر بالغ الصعوبة، حتى أن خطابات الوعيد في ظل هذه المعادلة والكفة الراجحة لحساب إسرائيل، تبدو فيلم إيراني طويل وممل.
“لعبة الأعصاب”
ولهذا، تتكرر بين الحين والآخر، تصريحات عن الرد على مقتل إسماعيل هنية، بما يجدد تكهنات الخبراء، بأنه خلال ساعات أو أيام، وقد يكون محدوداً أو يجعل المنطقة على الحافة. وهي لعبة الأعصاب التي يمتهن إدارتها ملالي طهران. وقبل فترة وجيزة، أعلن الناطق بلسان “الحرس الثوري” علي محمد نائيني أن رد إيران على إسرائيل قد يأخذ وقتاً طويلاً.
وتابع: “الوقت في صالحنا وفترة الانتظار لهذا الرد قد تكون طويلة”. مبرراً قوله بأن الرد سيكون محسوباً ودقيقاً. هذا الغطاء الذي يمنحه القيادي بالحرس الثوري لنظام “الولي الفقيه” على تلكؤه في الرد على مقتل هنية، يعد ضمن تكتيك حرب الدعاية الإيرانية التي تبحث عن ضوضاء وصخب “طبول الحرب” التي لن تبدأ، والثأر بالمنطق القبلي التاريخي الذي لن يحدث، حتى تبرد الأعصاب وتتململ وتأتي حوادث أخرى تغطي على مركزية ما سبق. إذ إن قدرات الحرب الإقليمية ليست في وسع إيران، كما أنها خارج حساباتها وربما طاقتها. والمطلوب فقط هو دخان كثيف حول القضية يتخفى وراءه الإيرانيون بينما يبدو للأطراف الأخرى طرف النار التي ستمتد للإقليم وتبدأ تحرق أطراف إسرائيل.
تبدو طهران في رغبتها الظاهرية على الرد كما هي العادة “في الوقت والزمان المناسبين” بشكل مفتوح، عازمة على الاستمرار في المماطلة للبحث عن صفقة تضمن استحقاقات النظام الإيراني في اليوم التالي للحرب.
ومن ثم، هناك جانب آخر لهذا التأخر في الرد، يتصل بالجانب الداخلي على مستوى النظام الإيراني وبين النخبة الحاكمة، لا سيما أنها مرتبكة نتيجة جملة أمور، منها الوضع الاقتصادي المأزوم، والعزلة الدولية، ورغبة أطراف في بناء مقاربة إصلاحية للابتعاد عن أي مغامرات خارجية تفاقم من أزماتها وصراعاتها المحلية.
وهذا التشظي الداخلي في قمة السلطة، له انعكاسات عديدة. وقد سبق ببعثة إيران في الأمم المتحدة أن قالت: “لدينا الحق المشروع في الدفاع عن النفس، وهي مسألة لا علاقة لها على الإطلاق بوقف إطلاق النار في غزة. ومع ذلك، نأمل أن يكون ردنا محدد التوقيت، وأن يتم تنفيذه على نحو لا يضر بوقف إطلاق النار المحتمل”.
فالبيان فضفاض وصياغته تعكس لغة ضعيفة غير متماسكة، تقول الشيء ونقيضه، حيث تؤكد على ما هو ثابت ومعروف سياسياً بشأن مشروعية دفاع أي دولة عن أمنها، بينما عرج على الأزمة الراهنة وألمح إلى إمكانية الرد لكن “بشكل لا يضر بوقف إطلاق النار”. وهذا ما يبدو غامضاً وغير مفهوم. فهل سيحدث رد إيراني؟ كيف؟ وكيف سيكون الرد بشكل لا يؤثر على مفاوضات وقف إطلاق النار؟.
“في الوقت والزمان المناسبين”
وهنا، تبدو طهران في رغبتها الظاهرية على الرد كما هي العادة “في الوقت والزمان المناسبين” بشكل مفتوح، عازمة على الاستمرار في المماطلة للبحث عن صفقة تضمن استحقاقات النظام الإيراني في اليوم التالي للحرب. ولا تبدو الخلافات بين أركان النظام، سوى صوت متروك لإحداث الأثر النفسي المعنوي لدى الكتل الراديكالية الباحثة عن العنف الدموي، والثأر الانتقامي، كما قال ممثل المرشد الإيراني حسن عاملي “إن تراجع النظام، وعدم انتقامه لمقتل هنية سيمهد الطريق إلى اغتيالات أكبر، بما في ذلك اغتيال كبار مسؤولي النظام”.
وواقع الحال، يشير إلى إدارة براغماتية لمقتل هنية كما حدث في كل ما سبق من محطات الحرب في غزة، والتي رغم محاولات الدفع بطهران وتوريطها بالحرب بشكل مباشر، إلا أنها تقف على الحافة وتتفادى الانزلاق. فتنظر بواقعية وتتخوف من الفرص الضائعة وتفتش عن لحظة المفاوضات ومكاسب ما بعد الحرب.
وهنا ما عبر عنه علي محمد نائيني، حينما قال: “الزمن بصالحنا، وقد تطول فترة انتظار ردنا. على العدو أن ينتظر ضربات دقيقة ومدروسة في الوقت المناسب”. وذات الأمر مع قال النائب البرلماني الإيراني السابق، جهان بخش محبي نيا بأن بلاده “تواجه اختراقات أمنية خطيرة، حيث قامت أقذر أجهزة التجسس في المنطقة بعمليات داخل البلاد، مما جعل القضايا الأمنية تتصدر الأولويات، ومن يعتقد أننا لا نعاني مشاكل أمنية فهو ساذج”. والأخير عمد إلى إحالة بأن الوضع الداخلي دقيق ويحتاج لمعالجة أبعد من شن حرب، بينما ما تزال أحوالك الأمنية رخوة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.