أزمة جدية عصفت بالشارع العراقي لم تنته تداعياتها منذ أكثر من شهرين وإلى الآن، حين كشف أعضاء في البرلمان العراقي، نيتهم تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 المعدل، وجعله باختصار “قانون الأحوال المذهبية”، وانتزاع مهمة القاضي والقضاء بغطاء شرعي نيابي مع هذا القانون إن جرى تعديله، وبالتالي صعود الرجعية في عصر التنوير!

واقعيا، يبدو أن القوى الشيعية -معظمها- عازمة وبشكل جدي هذه المرة على تعديل قانون الأحوال الشخصية، بعد سنوات من المحاولات المتعددة -غير الجدية- لتعديله، وما يدلل على ذلك، أنه ورغم السخط الشعبي الكبير والوقفات الاحتجاجية المنددة والرافضة للتعديل، قرأ البرلمان مشروع التعديل قراءة أولى ثم قراءة ثانية مؤخرا، في تحد صارخ للمجتمع الذي يفترض بالبرلمان أن يكون ممثلا له في القبة التشريعية.

التشريع مسألة وقت!

قانون الأحوال الشخصية النافذ، ينظّم أحوال الأفراد والأسر، من ناحية الزواج والطلاق والحضانة والنفقة والإرث والميراث وغيرها، وهو معمول به منذ 65 عاما في المحاكم العراقية، ويحتكم له الناس على اختلاف مرجعياتهم تحت يافطة هذا القانون، أما التعديل فسيجعل البلاد متعددة المحاكم؛ لأنه سيحكم وفق المذاهب الدينية، وبالتالي لا عدالة للناس فيه، ففي كل مذهب هناك اختلافات تطال النساء والرجال في حقوقهم عن المذهب الآخر، بينما القانون المدني يعدل بين الكل.

حتى الآن، تم تنظيم 3 وقفات احتجاجية شعبية -كبرى- رافضة للتعديل، أبرزها يوم 8 آب/ أغسطس 2024، إذ شاركت في الوقفة 9 محافظات رافضة لتعديل قانون الأحوال الشخصية، على إثر دعوات أطلقها “تحالف 188 للدفاع عن قانون الأحوال الشخصية”، وهو التحالف الذي أسّسته منظمات مجتمع مدني وأحزاب مدنية وشخصيات حقوقية وقانونية، وجوبه بحرب إعلامية شرسة، ورغم كل ذلك صعّد البرلمان من تحديه للمجتمع، بإدراجه مشروع التعديل على جدول البرلمان بهدف القراءة الثانية له ونجح بذلك، ولم يتبق إلا التصويت على تشريعه رسميا.

تظاهرات في ساحة التحرير وسط بغداد رفضا لتعديل قانون الأحوال الشخصية – (إنترنت)

عمليا، قبل القراءة الثانية، فشل الساعون لقراءة المشروع قراءة ثانية وتم تأجيلها أكثر من مرة، والسبب هو امتناع نسبة كبيرة من مناقشة القانون، منهم من القوى الشيعية نفسها، فالحقيقة الثابتة أن بعض الأطراف الشيعية -من الإطار التنسيقي حصراً- هي فقط من تريد تشريع هذا التعديل، فيما ترفضه كل الأحزاب السياسية الأخرى من بقية الطيف العراقي، بما فيهم الشيعة من خارج “الإطار”، وطبعا الكتلة النسوية البرلمانية أيضا، والتي تأسست بهدف منع تشريع تعديل قانون الأحوال الشخصية، لكن في 16 أيلول/ سبتمبر 2024، فرضت رئاسة المجلس التشريعي إرادتها -بالقوة- بالقراءة الثانية للتعديل رغم الأصوات المعترضة والتي ناهز عددها 130 نائبا.

في هذه السطور، سنسلّط الضوء على مخاطر تعديل قانون الأحوال الشخصية الجديد، بعد استعراض أبرز ما سيجلبه التعديل حين تشريعه بشكل رسمي، والذي -أي التشريع- بات مسألة وقت لا غير، فهو بحاجة إلى جلسة التصويت عليه وينتهي الأمر بفاجعة مجتمعية على يد ممثلي الشعب والمجتمع، وأبرز ما يجلبه التعديل، هو اعتماد الأحكام الشرعية الدينية (الفقهية)، وهو ما يشكل خطرا كبيرا على الحقوق المدنية للإنسان، لا سيما النساء والأطفال.

مخاطر تعديل قانون الأحوال الشخصية

التعديل الجديد سيجعل مسائل الأحوال الشخصية، لا سيما عقود الزواج والطلاق والميراث والنفقة وحضانة الأطفال، تكون بناء على المذاهب، وخاصة المذهبين الشيعي (الجعفري) والسّني (الحنفي) كما أسلفنا الذكر، وبالتالي فإن القضاة عليهم الرجوع في كل الأمور إلى مذهب الشخص عند حكمهم بأي حكم بدل الحكم بالقانون الوضعي النافذ، إذ سيعتمد التعديل في تطبيق قضايا الأحوال الشخصية على مدونتين للأحكام الشرعية من قبل الوقفين الشيعي والسّني، وعلى القاضي الأخذ يتلك الأحكام، والغريب أن المدونات لا أحد يعرف عنها شيئا؛ لأنها ستطرح بعد 6 أشهر من تشريع تعديل القانون!

خطورة القانون الجديد تكمن في أنه ينسف الكثير من الحقوق للمرأة ويهدرها، ويثير مشاكل عائلية لا حدود لها، ناهيك عن تأثيره على الأطفال وحتى على الآباء، فضلا عن مخاوف من عدم الزواج من مذاهب مختلفة، إذ سيتيح التعديل القانوني للمُقبل والمُقبلة على الزواج، اختيار مذهبهما الديني عند إبرام عقد الزواج، سواء كان شيعيا أو سنّيا، وفي حال عدم اتفاق الزوجين على مذهب محدد، يُطبّق مذهب الزوج، وحتى في أي خلاف بين الزوج والزوجة، ومنها مسألة التفريق والطلاق، فإن التعديل يعتمد على مذهب الزوج بشكل تعسفي.

ذلك ليس كل شيء، قالتعديل سيتيح وفق المذهب الشيعي (الجعفري)، إبرام عقد زواج الأنثى بعمر 9 أعوام بدلا من 18 عاما، أي أنه يشرعن زواج الأطفال أو القصّر والقاصرات، كا أنه لا يمنح النفقة للزوجة الناشز، أو الصغيرة التي لا يمكن لزوجها التمتع بها، وإذا كانت كبيرة وزوجها صغيرا لا يستطيع التمتع بها، ولا للزوجة البالغة التي ترفض لزوجها أن يتمتع بها، ناهيك عن أنه لا يمكن للمرأة طلب التفريق أبدا حتى لو كان زوجها مريضا أو هجرها في الفِراش، ويفرض العدّة على الطفلة التي لم تكمل التاسعة من العمر وإن لم يدخل بها زوجها، ويحرم الزوجة من الإرث في العقارات من زوجها، ويبيح الزواج المؤقت أو المنقطع.

على الجانب الآخر، يتيح التعديل وفق المذهب السّني (الحنفي)، شرعنة إبرام عقد زواج الأنثى بعمر 9 أعوام، أي شرعنة زواج الأطفال، وإباحة الزواج المؤقت، والذي يُعد جريمة في القانون العراقي الحالي، كما أن النساء تأخذ نصف حصة الإرث فقط، والنصف الآخر للأقارب الرجال، وفي حال عدم وجود أقارب رجال، يذهب النصف الآخر من الإرث للدولة، ناهيك عن أن الزوجة لو ماتت، فإن حضانة الطفل لا تذهب للأب، بل تذهب لأم الزوجة أو للخالة أخت الأم، أي لكل نساء عائلة الزوجة المتوفاة، ويمنع الأب من الحضانة.

ما ذُكر أعلاه، ليس كل شيء، بل سيبيح التعديل القانوني الجديد، الزواج خارج المحاكم عند رجال الدين والمأذونين، وهذا سيتيح الزواج الثاني وتعدد الزوجات، في وقت أن كل زواج خارج المحكمة يُعد باطلا وفق القانون العراقي الحالي، وسيجبر المحاكم على تصديق الزواج إن طلب الطرفان ذلك، وسيسلب الأم حقّ الحضانة إذا تزوجت، ويتم تسليم أطفالها لجد الأب في حال لم يكن الأب راغبا بالحضانة، وكل تلك الإباحات في التعديل الجديد، وُصفت بأنها “دعشنة للمجتمع”، وخطوة تمهيدية لتطبيق “ولاية الفقيه” في العراق، والخشية الكبيرة هي من اللجوء إلى فرض الحجاب على النساء بشكل قسري.

التعديل يخالف الدستور العراقي!

الشارع العراقي من حقوقيين/ حقوقيات وناشطين/ ناشطات ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب ناشئة وحتى برلمانيات فعل ما يجب عليه فعله، واستخدم كل أوراقه المتاحة لمنع تمرير وتعديل القانون الجديد من وقفات احتجاجية وحملات توعوية وندوات وورش حوارية ولقاءات بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لكن الأمر أكبر منه، فإقرار التعديل أمر مفروض بالقوة، قوة السلطة والسلاح والمال، ومن يعترض يتعرض للتحريض والطعن وإمكانية فقدانه لحياته، وحصل هذا يشكل فعلي مع 3 محامين ومحاميات وأكثر من ناشط وناشطة، بل وجرت معاقبتهم فقط لوقوفهم في الإعلام ضد التعديل، وبالتالي لا لوم على الشارع المدني مطلقا.

عمليا، يخالف التعديل المادة 14 من الدستور العراقي التي تنص على أن “العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”؛ لأن تعديل قانون الأحوال الشخصية المقترح يلغي فكرة المساواة للمرأة العراقية (الشيعية والسنية) في حالات الزواج والطلاق والإرث والنفقة والحضانة، فلكل مذهب أحكامه الفقهية المختلفة بما يخص حقوق المرأة، والمعلوم أن كل تشريع يجب أن يكون مستندا إلى نص دستوري لأنه الوثيقة التي تفصل في الاختلاف بشأن أي قانون.

تظاهرات في ساحة التحرير وسط بغداد رفضا لتعديل قانون الأحوال الشخصية – (إنترنت)

فعليا، يستند “الإطار التنسيقي” إلى المادة 41 من الدستور كأساس لتعديل قانون الأحوال الشخصية التي تنص على أن “العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم وينظم ذلك بقانون”، ورغم أن مقترح تعديل القانون جاء منسجما ومستندا الى نص دستوري لا غبار عليه، لكنه ضم عنصرا واحدا وهو (المذاهب)، فالعراقي حر باختيار المذهب لتنظيم أحواله الشخصية، ولم يضم بقية العناصر الاخرى (الديانات، المعتقدات، الاختيار)، لذا يفترض على المطالبين بالتعديل تحقيق كل متطلبات نص المادة الدستورية، لا اختيار عنصر واحد وترك بقية العناصر؛ لأن ذلك يعني تجزيء تطبيق النص الدستوري والإخلال به.

التعديل المستند إلى المادة 41 من الدستور، أيضا يخالف المادة نفسها في عنصر (الاختيار)؛ لأنه وفق التعديل المقترح لا حرية للمرأة في اختيار أحوالها الشخصية بحالة الزواج المختلط، أي عند (زواج امرأة شيعية من رجل سني أو زواج امرأة سنية من رجل شيعي)، إذ يفرض عليها اختيار مذهب الزوج بشكل قسري، أي يمنح الرجل حق اختيار المذهب لتنظيم أحواله الشخصية وبالمقابل يسلبه من المرأة، وبالتالي فإنه عند تشريع التعديل، سنشهد مشاكل في تطبيق الزواج المختلط، بل وحتى عدم الزواج من خارج المذهب، ولكُم أن تتخيلوا مئات قصص الحب تنتهي دون أن تثمر عن الزواج بسبب هذا التعديل.

صدى تعديل القانون تجاوز حدود العراق، ووصل إلى العالم، خاصة وأن التعديل يسيء لسمعة وموقف العراق أمام المجتمع الدولي، وينتهك كل المبادئ والحقوق الإنسانية التي يعد هو جزءا أساسيا منها عبر توقيعه عليها، ولذا فإن واشنطن طالبت بعدم التعديل، كما أن الاتحاد الأوروبي هدّد بفرض عقوبات كبيرة على البلاد في حال مرّر البرلمان التشريع الجديد، كما ذكرت ذلك “لجنة العلاقات الخارجية النيابية”، ولكن كل ذلك لم يكن له أي تأثير، فالقرار بالتعديل ثابت مهما اعتلت المواقف الرافضة، داخلية كانت أو خارجية.

أخيرا، لابد من الإشارة إلى أن المطالبة بتعديل قانون الأحوال الشخصية، ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج جذور تاريخية مرتبطة بعائلة الحكيم الدينية، إذ بدأها المرجع الديني الشيعي الراحل، محسن الحكيم، بعد إسقاط النظام الملكي، ومجيء الجمهورية إلى العراق في عام 1958 على يد عبد الكريم قاسم، ثم تكررت على يد نجله عبد العزيز الحكيم، فور سقوط نظام صدام حسين، لكن الحاكم المدني بول بريمر رفض ذلك، ثم عادت المطالبة به في أعوام 2013 و2017 و2021، وأخيرا اليوم بدعم من قبل عمار الحكيم نجل عبد العزيز الحكيم وحفيد محسن الحكيم، وبعد 66 عاما من أول مطالبة بوضع قانون الأحوال الشخصية وفق الأحكام الفقهية، بات مراد عائلة الحكيم قريبا أكثر من أي وقت مضى، لكن هذا تشريع القانون سيكون على حساب تفتيت الأسرة والأفراد المجتمع، وستدفع فاتورته المرأة العراقية بالدرجة الأساس.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات