نجم الدين النجم- صحافي سوري

بعد سقوط نظام عائلة “الأسد” الذي خنق السوريين جميعهم لأكثر من نصف قرن بأذرع من النار والحديد، يتطلّع الشعب السوري اليوم إلى فجر جديد تُبنى فيه الدولة على أسس العدالة والمساواة والتنمية الشاملة. ومع بداية تشكيل الإدارة السياسية الجديدة، تبرز ضرورة ملحّة لمعالجة الإرث الثقيل من التهميش والإقصاء الذي عانت منه محافظات الجزيرة السورية (الرقة ودير الزور والحسكة)، على الأقل بالنسبة لأهالي هذه المناطق.

ظلت محافظات الجزيرة السورية طوال عقود، تسكب النفط والغاز والقمح والكثير من مواردها الأخرى، في خزينة الدولة السورية، دون أي مقابل يستحق الذكر، وظلّت تعاني من أوضاع متردية تحت ظل سلطة تحترف النهب والتجهيل بقدر ما تجيد القمع والقتل.

الجزيرة السورية وضرورة وجود “تعهدات وطنية”

كما هو معروف، لم تستثمر الحكومات السورية المتعاقبة أي جزء تقريبا من هذه الثروات الكبيرة في تطوير البنية التحتية أو تحسين الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة في هذه المحافظات، بل تمّ تحويلها إلى مراكز السلطة الرئيسية، وذلك بالتوازي مع تهميش ثقافي وهوياتي تمّ فيه إقصاء الهوية المحلية للسكان، سواءً من العرب أو الكُرد أو غيرهم من المكونات العرقية والدينية، لصالح هوية سورية بلاستيكية مصطنعة، تصدرتها مراكز السلطة ذاتها باعتبارها هي سوريا وسوريا هي، وفي هذا الشأن يطول الكلام.

سياسياً، وبعد قرابة شهرين من سقوط نظام بشار الأسد، تجري المفاوضات والمباحثات بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة السياسية الجديدة بوساطات من أطراف إقليمية ودولية، للوصول إلى اتفاق بشأن كيفية عودة مناطق شمال شرقي سوريا إلى خيمة السلطة الجديدة. ستنتهي هذه المفاوضات إلى نتيجة ما في نهاية المطاف، لكن من الضروري القول إن مستقبل وحقوق الملايين من سكان الرقة ودير الزور والحسكة، لا يجب ربطها بالتحركات والتفاهمات السياسية المصلحية، بل بتعهدات وطنية من الأطراف السياسية كلها، وبدستور وطني ضامن للحقوق.

ظلت محافظات الجزيرة السورية طوال عقود، تسكب النفط والغاز والقمح والكثير من مواردها الأخرى، في خزينة الدولة السورية، دون أي مقابل- “إنترنت”

وأضيف على ذلك ضرورة الدفع باتجاه الربط مع سياسة “تمييز إيجابي” تهدف لردم هذه الفجوة التنموية الكبيرة بين المحافظات الشرقية الثلاث وبقية المناطق السورية، على أن تؤسس أيضا لترميم الصدع الهوياتي في المستقبل.

بعيدا عن الحاضر السياسي الضبابي في سوريا، وقريبا أكثر من التفكير والتعبير الاجتماعي بشأن ما نصبو إليه في مدننا وقرانا ومحيطنا القريب، أجد أن فكرة عودة الجزيرة السورية لتكون “مستعمرة” أو “شبه مستعمرة” داخل الوطن، ليست مستحيلة، ولا يجب أن يفترض سكان الرقة والحسكة ودير الزور، أن كل شيء سيسير على ما يرام لمجرد أن نظام الأسد اختفى، وأن حقوقهم سيحصلون عليها بشكل حتمي وستكون بالضرورة في حسابات الحكومات المستقبلية، بل من الواجب عليهم المطالبة بحقوقهم صراحة وبكل وضوح، وهذا ربما يبدو غريبا بعض الشيء وقد يوحي بأنها دعوة لنكون مكوّنا أو طائفة ساخطة أخرى إلى جانب الطوائف والمكونات في سوريا. 

في الحقيقة نحن جماعات سورية ملوّنة، يجمعنا شعور مختلف نتج عن جرح عميق وظلم كبير، نطلب العلاج له بشكل مختلف أيضا، وليس في ذلك ضرر أو غرابة.

سياسات “التمييز الإيجابي” كحل

أعود مجددا إلى “التمييز الإيجابي” لأقول إنه وببساطة، سياسة تهدف إلى تصحيح الاختلالات التاريخية والاجتماعية في الدولة -أي دولة- من خلال منح أولويات من نوع اقتصادي أو اجتماعي لفئة أو فئات عانت من التهميش. هذه السياسة لا نخترعها اليوم وليست جديدة على العالم، فقد تم تطبيقها في العديد من الدول لمعالجة أوجه الظلم التاريخي التي طالت فئة أو مجموعات فئات شعبية.

مثلا، بعد نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، اعتمدت السلطات اللاحقة سياسات “التمييز الإيجابي” لتمكين السود من الوصول إلى الفرص الاقتصادية والتعليمية التي حُرموا منها لعقود. 

وفي الهند، يتمّ تخصيص حصص في الوظائف الحكومية والمؤسسات التعليمية للطبقات الدنيا التي عانت من التمييز الطبقي لقرون، وكذلك الأمر في الولايات المتحدة التي تشتمل قوانينها على سياسات “تمييز إيجابي” مشابهة، لصالح بعض الفئات وخصوصا الأميركيين السود. في النرويج أيضا، يتم توجيه جزء من عوائد النفط إلى صندوق سيادي يُستخدم لتنمية المناطق الأكثر احتياجا.

هذه السياسات المرنة ساعدت في تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول، والكثير من الدول الأخرى مثل كندا والبرازيل وماليزيا وغيرها. في سوريا، يمكن أن تكون سياسة “التمييز الإيجابي” حلا أو على الأقل مشروع حل قابل للنقاش، لمعالجة التهميش الذي عانت منه محافظات الجزيرة.

الأفكار كثيرة في هذه الدائرة، ويمكن البدء بتخصيص حصة عادلة من عوائد الموارد الباطنية، مثل النفط والغاز، لتنمية المحافظات الثلاث، هل تبدو نسبة 25% جيدة؟. 

أو يمكن أيضا إنشاء صندوق تنمية خاص يُموّل من عوائد هذه الموارد، ويُستخدم في بناء البنية التحتية، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة.

أيضا، بالإمكان اعتماد سياسات توظيف تفضيلية في المؤسسات الحكومية والشركات المحلية أو الأجنبية العاملة في مجال الطاقة والإعمار والزراعة بهذه المناطق، هذا من شأنه أن يعزز عودة الحضور المنتج والفعّال لأهالي شمال شرقي سوريا في بناء مناطقهم ووطنهم.

هذا الدعم المركّز في الاقتصاد والتنمية أمر ضروري، ونحن في أمس الحاجة إليه، ولا نبالغ إذا اعتبرناه الجزء الأساس في سياسة “التمييز الإيجابي”، التي تكتمل مع الوقت بتعزيز الهوية الثقافية للمنطقة من خلال دعم التراث واللغات والثقافات المحلية بجميع ألوانها، وإشراك المكونات العرقية والدينية المختلفة في الحياة السياسية والهوية الثقافية والفنية السورية.

إن اعتماد سياسة “التمييز الإيجابي” تجاه محافظات الجزيرة السورية ليس فقط خطوة كبيرة نحو مسح ذاكرة التهميش والإقصاء، وليس فقط قفزة باتجاه العدالة والوحدة الوطنية، بل هو أيضا استثمار رابح في تأسيس قاعدة شعبية صلبة تبنى عليها البلد، تحملها وقت الشدة وتحميها من أي اضطرابات أو زلازل سياسية محتملة في المستقبل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات