بعد مرور أكثر من شهرين على ولايته الثانية، بدا واضحًا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد كثف حملة “الضغط الأقصى” على إيران، وذلك بعد أن تم قلب الشرق الأوسط رأسًا على عقب العام الماضي، ونجح في إحكام السيطرة الإسرائيلية على إيران في غزة ولبنان وسوريا. وكما يبدو، فإن الولايات المتحدة هي التي ستتولى مهمة القضاء على “النفس الأخير” لإيران عبر العراق.
ماذا يحدث؟ وكيف سيتحرك العراق بين واشنطن وطهران؟
الضغط على إيران بـ العراق
رفضت إدارة دونالد ترامب تجديد إعفاء العراق من العقوبات على وارداته من الكهرباء من إيران، وكانت تلك الإعفاءات تسمح للعراق منذ عام 2018 بدفع ثمن الكهرباء لإيران. وقد فُسِّر ذلك بأنه ضمن سياسة “الضغط الأقصى” التي ينتهجها ترامب تجاه طهران، وذلك بعد استهداف واشنطن للقطاع المصرفي العراقي؛ وهي خطوة ستنعكس على الوضع الاقتصادي الهش في الأساس، لا سيما في العام الانتخابي.

وعلق مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الخارجية، فرهاد علاء الدين، لقناة تلفزيونية عراقية محلية يوم الأربعاء الماضي، أن الإعفاء الذي ضمنته الولايات المتحدة لاستيراد الغاز الإيراني لم يُلغَ ولا يزال ساري المفعول، موضحًا أنه تم إلغاء الإعفاء على الطاقة المستوردة. وأشار إلى أن معظم محطات الكهرباء العراقية تعمل بالغاز الإيراني، حيث يتم توليد 43% من الكهرباء في العراق من إيران، مستطردًا أن الولايات المتحدة تشجع العراق على تأمين الغاز من مصادر أخرى، بحسب وكالة “رويترز”.
بينما صرح وزير الكهرباء العراقي، زياد علي فاضل، بأن التوقف المحتمل لواردات الغاز من إيران سيخفض إنتاج العراق اليومي من الكهرباء، والذي يبلغ 27 ألف ميغاوات، بمقدار الثلث. وذكر حمزة عبد الباقي، رئيس شركة “غاز الجنوب” الحكومية، لـ “رويترز”، أن العراق سيستأجر محطة عائمة للغاز الطبيعي المسال لتخفيف أثر التوقف المحتمل لواردات الغاز الإيراني.
فيما أفاد رئيس شركة “غاز الجنوب” العراقية أن بغداد تتطلع إلى قطر وعُمان كخيارات محتملة، إذا فعلت واشنطن الشيء نفسه فيما يتعلق بتجارتهما في الغاز، بعد أن تحركت الولايات المتحدة لمنع واردات العراق من الكهرباء من إيران.
وفي الأسبوع الماضي، وبناءً على طلب وزارة الخزانة الأميركية، منع البنك المركزي العراقي خمسة بنوك خاصة أخرى من الوصول إلى الدولار الأميركي، والتي كانت تُعد خطوة حاسمة في إطار حملة أوسع لتقييد وصول طهران إلى العملة الصعبة.
استراتيجية ترامب
اقتصاديًا، تحتاج إيران إلى العراق الآن أكثر من أي وقت مضى؛ فالحكومة الإيرانية تواجه ضغوطًا مالية هائلة، حيث تعاني العملة الوطنية من حالة انهيار، وترتفع أسعار السلع الأساسية يوميًا. بين يناير/كانون الثاني 2024 ويناير/كانون الثاني 2025، انخفضت قيمة الريال الإيراني بنسبة 62%، وبلغ متوسط التضخم 32%. لذا، يُعدُّ الاحتيال على العراق أحد السبل الوحيدة التي تمكّن إيران من الحصول على سيولة كافية لتوفير الخدمات الأساسية للإيرانيين، وبذلك تضمن طهران أيضًا أن يدفع العراقيون، وليس الإيرانيون، جزءًا كبيرًا من تكاليف أنشطتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ولهذا يريد ترامب، بشكل واضح، زيادة الضغوط على إيران من خلال قطع وصولها إلى النفط الخام الرخيص؛ وإلى جانب النفط، تعمل الولايات المتحدة أيضًا على تشديد قبضتها على النظام المالي العراقي في محاولة لقطع شرايين الحياة الاقتصادية لطهران، حيث يريد ترامب أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فهو يريد التحكم في الموارد الاقتصادية لإيران، والضغط عليها، لإجبارها على العودة إلى مفاوضات الملف النووي وهي مستعدة لتقديم المزيد من التنازلات.
كما يريد ترامب أن يستخدم العراق كورقة ضغط على إيران، وأن يضغط على بغداد لكبح جماح إيران وتقييد نشاط الميليشيات. وهي خطوات من شأنها، في نظر واشنطن، أن تجعل العراق أكثر استقلالية عن طهران سواء من الناحية الاقتصادية أو الاستراتيجية. والأهم، أن ترامب يريد تحقيق ذلك بدون عمل عسكري واسع النطاق، بل من خلال دبلوماسية حازمة، والتهديد بفرض عقوبات، وعمليات استخباراتية.
موقف العراق
اعتمد العراق بشكل كبير على واردات الطاقة من إيران خلال العقد الماضي، بعد الصراعات والعقوبات الدولية التي دمرت جزءًا كبيرًا من البنية التحتية للطاقة في العراق. ورغم امتلاكه أحد أكبر احتياطيات النفط في العالم، يفتقر العراق إلى مرافق معالجة الغاز الكافية وقدرة توليد الطاقة اللازمة لتلبية الاحتياجات المحلية، مما خلق وضعًا معقدًا يجعله بحاجة إلى استيراد النفط من إيران لمنع انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع، لا سيما خلال أشهر الصيف عندما تزيد درجات الحرارة بانتظام عن 50 درجة مئوية.

وما يزيد الأمر تعقيدًا هو اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق هذا العام، حيث رجَّح أن يُشكّل انقطاع التيار الكهربائي خلال أشهر الصيف القادمة ضغطًا على السوداني، الذي يُعتقد أنه يسعى لولاية ثانية.
مع حقيقة أن إيران ليست لاعبًا رئيسيًا في توريد الكهرباء مباشرةً، إذ تُصدّر في المتوسط 1.2 غيغاواط فقط إلى العراق، وهو ما يُمثّل جزءًا ضئيلاً من الطلب. ومع ذلك، يُغذّي الغاز الطبيعي الإيراني العديد من محطات توليد الطاقة في جنوب البلاد.
وبعد قرار ترامب الأخير، وصفت وسائل الإعلام العراقية هذا التطور بأنه “تحدٍّ كبير للعراق في تأمين مصادر طاقة بديلة”، مسلطةً الضوء على جهود استيراد الغاز من تركمانستان، وهو مشروعٌ عرقلته عقبات مالية ولوجستية.
وإذا فكر العراقيون في إنشاء البنية التحتية اللازمة والروابط اللوجستية، فإن ذلك سيستغرق وقتًا طويلاً، وهو ما يمنح فرصة للمفاوضين العراقيين مع واشنطن، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن واشنطن قد لا تُطبّق إجراءات عقابية إذا انتهكت بغداد العقوبات باستيراد بعض أشكال الطاقة من إيران، ولكن هذا ربما سيتوقف على موقف العراق في ملفات أخرى.
بالنسبة لبغداد، تُعدّ هذه المواجهة جزءًا من معضلة أكبر. فبينما يُعيد ترامب إحياء حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران، يجد العراق نفسه محصورًا بين حليفين قويين: واشنطن وطهران.
من جانبها، رأت محامية الأمن القومي الأميركي والمحللة الجيوسياسية إيرينا تسوكرمان، لـ “الحل نت” أن القرار الأميركي يهدف إلى إعادة تعريف دور العراق في الصراع الجيوسياسي بين واشنطن وطهران، وإلغاء الإعفاءات يُوجّه رسالة قوية – ليس فقط إلى إيران، بل إلى العراق أيضًا – مفادها أن واشنطن لم تعد مستعدة لقبول سياسة بغداد المُبهمة في الموازنة بين القوتين.
خيارات صعبة
يقود الحكومة العراقية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وإطاره التنسيقي، وهو ائتلاف متحالف بشكل وثيق مع إيران. لكن فريق السوداني قدم ثلاثة تنازلات مع المسؤولين الأميركيين في أواخر يناير/كانون الثاني الفائت:
- إلغاء مذكرة اعتقال بحق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأمره بقتل الإرهابيين في بغداد خلال إدارته الأخيرة.
- الموافقة على إطلاق سراح الباحثة في جامعة برينستون، إليزابيث تسوركوف، التي احتجزتها كتائب حزب الله، وهي ميليشيا مدعومة من إيران؛
- وإقرار تعديل حيوي للميزانية سعى إليه منذ فترة طويلة أكراد العراق، وهم شريحة من المجتمع العراقي التي لها أقرب العلاقات مع ترامب.
ولكن، نظراً لوجود 2500 جندي أميركي لا يزالون متمركزين في البلاد، والمساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية التي بلغت 430 مليون دولار هذا العام، يبدو أن السياسيين العراقيين أكثر حرصًا من المعتاد على استرضاء الولايات المتحدة، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار التحركات العراقية الأخيرة في المنطقة.
فحاول العراق تعزيز علاقته مع المملكة السعودية، حيث رحبت بغداد بدور السعودية في استضافة المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا، في فبراير/شباط الماضي. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، زار رئيس جهاز المخابرات العراقي، حميد الشطري، دمشق على رأس وفد رفيع المستوى؛ وخلال الزيارة، التقى الشطري بأحمد الشرع، قائد الإدارة السياسية الجديدة في سوريا، في زيارة مفاجئة.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني، استضاف العراق مسؤولين أتراكًا وسوريين لمناقشة الأمن الإقليمي. وفي أوائل فبراير/شباط، أعلنت تركيا والعراق وسوريا والأردن عزمها على العمل معًا لمحاربة تنظيم “داعش”. ويأتي ذلك في الوقت الذي أعلن فيه العراق أن “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة يختتم حربه ضد “داعش”.
وحول الخيارات المتاحة، رأت محامية الأمن القومي الأميركي والمحللة الجيوسياسية إيرينا تسوكرمان، لـ “الحل نت” أن أمام العراق ثلاثة خيارات رئيسية:
- الخيار الأول: التفاوض على تسوية مؤقتة – قد يحاول العراق التواصل مع واشنطن دبلوماسيًا للحصول على إعفاء جديد ومحدود أو تمديد المواعيد النهائية للتحول بعيدًا عن الواردات الإيرانية. ونظرًا للوضع السياسي الهش في العراق، قد تكون الولايات المتحدة مستعدة لتقديم فترة سماح قصيرة الأجل إذا أظهرت بغداد جهودًا حقيقية لتقليل اعتمادها على إيران.
- الخيار الثاني: البحث عن مصادر طاقة بديلة – على المدى البعيد، قد يُسرّع العراق جهوده في تنويع مصادر دخله، بالتوجه إلى حلفائه الخليجيين مثل المملكة العربية السعودية لاستيراد الطاقة وزيادة طاقته الإنتاجية المحلية، لكنها تتطلب وقتًا.
- الخيار الثالث: تحدي الضغوط الأميركية وتعزيز العلاقات مع إيران – قد تدفع بعض الفصائل الموالية لإيران داخل الحكومة العراقية نحو استمرار التجارة مع إيران عبر قنوات غير رسمية، مما يزيد من معاملات السوق السوداء ويعزز ترسيخ قبضة إيران على العراق. وهذا من شأنه أن يُعرّض العراق لخطر العقوبات الأميركية الثانوية، مما قد يُلحق ضررًا بالغًا باستقراره الاقتصادي والمالي.
كما يبدو أن العراق مقبل على مرحلة معقدة تتطلب حلولًا استراتيجية؛ فمن ناحية تقليل اعتماده على إيران، وتوازنه مع الولايات المتحدة، وذلك في ظل الاهتمام بالمصالح الداخلية العراقية وحسابات المشهد الإقليمي.
- مؤتمر “وحدة الموقف والصف” الكردي يعلن بيانه الختامي.. تفاصيل
- في ظل غياب العدالة الانتقالية.. استمرار أعمال التصفية والانتقام في سوريا
- مروان الحلبي.. طبيب الخصوبة الذي ارتقى لسُدة التعليم العالي
- رد دمشق على واشنطن تناول 5 مطالب… تفاصيل الرسالة السورية حول شروط رفع العقوبات
- تديّن أم موضة؟.. هجوم حاد من سارة نخلة على حجاب حلا شيحة “الموسمي”
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

طهران ترفض تصريحات واشنطن حول دورها في سوريا

مسؤول أميركي: لا ثقة بدمشق حتى الآن وهذه أولوياتنا في سوريا

شحنة نفط روسي تصل إلى سوريا خلال أسبوع.. هل أصبحت موسكو بديلًا لإيران؟

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟
الأكثر قراءة

واشنطن تتسلّم رد دمشق على متطلبات تخفيف العقوبات.. تفاصيل

هل تحمل زيارة وزير الخارجية الأردني لدمشق رسائل بعد حلّ “اللواء الثامن” بدرعا؟

مسؤول أميركي: لا ثقة بدمشق حتى الآن وهذه أولوياتنا في سوريا

مرهف أبو قصرة: من حقول حلفايا لوزارة الدفاع السورية.. رحلة مثيرة للجدل!

محمد البشير: من حكومتي الإنقاذ وتصريف الأعمال إلى وزارة الطاقة.. السيرة الكاملة

مباحثات أوروبية حول إمكانية تخفيف العقوبات عن سوريا
المزيد من مقالات حول في العمق

الإعلام السوري ما بعد “الأسد”.. هل نحن في مأمن؟

السودان في فخ أردوغان وأطماعه في النفوذ السياسي

العلاقات السورية الأميركية: هل ينجح الشرع في كسب ثقة ترامب؟

اختراقات تُقلق “الحوثيين”.. ما دور كتائب “العائدين” وطارق صالح؟

الهجمات الإسرائيلية في سوريا: مقايضة روسية مقابل تحجيم النفوذ التركي

تحوّل في شرعية التمثيل السوري: واشنطن تُعيد تعريف العلاقة القانونية مع دمشق

لردع تركيا.. العمليات الإسرائيلية في سوريا بداية لحرب مفتوحة؟
