تواجه جماعة “الحوثي” في اليمن سلسلةً من الاضطرابات الداخلية نتيجة عدة عوامل متداخلة، من أبرزها الانقسام المالي والنقدي؛ إذ يوجد انقسام في النظام المالي والمصرفي في اليمن، حيث تُدار المناطق الخاضعة لسلطة الحكومة المعترف بها دولياً بطريقة تختلف عن تلك الخاضعة لسيطرة “الحوثيين”.
يؤدي هذا الانقسام إلى تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى أزمة سيولة حادة في مناطق سيطرة “الحوثيين”. وتتزامن هذه الصراعات مع مشكلة أخرى، وهي طلب البنوك نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن الخاضعة لسلطة الحكومة المعترف بها دولياً. لا سيما أن التحكم في الموارد الاقتصادية والنفوذ المالي يُعدُّ العاملَ الفعلي المسيطر على مجريات الأحداث والمسؤولَ عن الانقسامات والصراعات داخل اليمن.
صراعات محافظة إب
اندلعت اشتباكات مسلحة في محافظة إب بين عناصر تابعة لميليشيا “الحوثي” التابعة لإيران، نتيجة خلافات تصاعدت حدتها خلال الفترة الأخيرة. وأكدت مصادر محلية أن هذه الاشتباكات أسفرت عن وقوع إصابات بين عناصر الميليشيا، حيث تعرّض أحدهم لإطلاق نار أدى إلى إصابته بجروح خطيرة. وأوضحت المصادر أن الخلافات اندلعت بين قيادات ميدانية تتبع الميليشيا، مشيرةً إلى أن أسبابها تعود إلى صراعات على النفوذ والموارد المالية التي تفرضها الميليشيا على المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

ويرى الصحفي اليمني سلمان المقرمي، في حديثه مع “الحل نت”، أن هناك أسباباً اقتصادية واجتماعية ومالية تغذي الصراعات الداخلية؛ من أبرزها استئثار عبدالملك الحوثي بكل موارد القوة والسلطة، وفشله في إنشاء مؤسسات لصنع القرار على مستوى الجماعة نفسها وعلى مستوى مؤسسات الدولة. ففيما يتعلق بالجماعة، أصبح كل شيء بيد عبدالملك الحوثي؛ وعلى مستوى مؤسسات الدولة، اعترف الحوثي نفسه أواخر عام 2022 بوجود صراعات وقوى وشخصيات بارزة تسعى للحصول على مناصب وإدارة محافظات. وأضاف المقرمي أن الحوثي استغرق عاماً كاملاً لتشكيل حكومة جديدة.
وعلى الصعيد الأمني، يمكن الإشارة إلى تعدد الأجهزة الأمنية كدليل على الصراعات الداخلية؛ إذ يوجد جهاز المخابرات، وجهاز مكافحة الإرهاب واستخبارات الشرطة الذي يقوده علي حسين الحوثي، نجل شقيق عبدالملك الحوثي، والذي ينافس جهاز المخابرات، إضافةً إلى جهاز مكافحة الاستقطاب المعادي بقيادة عبدالمحسن الطاووس، وجهاز الصمود الوطني بقيادة أحد أفراد أسرة الحمران، إحدى أبرز الأسر الحوثية.
كما يوجد جهاز الأمن الوقائي، المخصص نظرياً لاكتشاف الاختراقات على مستوى تنظيم جماعة عبدالملك الحوثي، إلا أنه يتمتع بصلاحيات واسعة. ويُعَدُّ تعدد الأجهزة انعكاساً مباشراً لتعدد الجماعات القوية داخل صفوف الحوثي.
صراعات القيادات الكبيرة
ذكرت مصادر إعلامية يمنية أن الاشتباكات استخدمت فيها أسلحة متوسطة وخفيفة، ما أثار حالةً من الذعر لدى السكان المحليين، الذين يعانون أصلاً من تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية. يأتي هذا الحادث في ظل تصاعد الخلافات الداخلية بين قيادات ميليشيا “الحوثي” التي باتت تشكل تهديداً مباشراً لتماسكها التنظيمي.

ويؤكد المقرمي على أن الصراعات الداخلية داخل جماعة “الحوثي” على المناصب والتجارة والعقارات والمؤسسات الإيرادية معلنة وكثيفة ومعقدة، ولا تقتصر على محافظة إب؛ لكنها تظهر بشكل جليّ فيها بسبب النشاط الإعلامي القوي لأبنائها المناهضين للحوثيين الذين يرصدون كل التطورات. وتنتشر الصراعات على مختلف المستويات (العليا والمتوسطة والدنيا). فمثلاً، شهدت الأسابيع الماضية محاولة لعزل مدير الجمارك الحوثية، وهي مؤسسةٌ إيرادية ضخمة، لكن المحاولة باءت بالفشل؛ كما فشلت عدة محاولات مؤخراً لدمج مصلحتي الضرائب والجمارك في مؤسسة واحدة.
ولتقديم صورة واضحة عن هذه الصراعات، يمكن القول إن كل قيادي “حوثي” ينتمي إلى الأسرة الهاشمية يرى نفسه الحاكم المطلق على المنطقة والمؤسسة التي يديرها، ويسعى للاستحواذ على جميع عائداتها. وقد وصلت بعض هذه الصراعات إلى مستوى اشتباكات مسلحة بين قيادات بارزة، مثل أبو عبد الله الرزامي، قائد محور همدان، وقيادة شرطة صنعاء التابعة لـ “الحوثيين”.
واندلعت الاشتباكات الداخلية “الحوثية” في معظم المحافظات، بما في ذلك صعدة وصنعاء وإب وذمار والبيضاء والجوف وغيرها. وبرأي المقرمي فإن استمرار هذه الصراعات يمزّق ويضعف قوة الحوثيين بشكل عام.
أزمة البنوك في صنعاء
على صعيد آخر، من المعلومم أن القطاع المصرفي في اليمن شهد أزمات كثيرة منذ عام 2014. إلا أنه في الأيام الماضية، أعلن البنك “المركزي” اليمني في العاصمة المؤقتة عدن تلقيه طلبات من ثمانية بنوك تجارية لنقل مراكزها من العاصمة المختطفة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الجماعة إلى عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً.
وقد وجهت ميليشيا “الحوثي” تهديداً مباشراً للمملكة العربية السعودية بتحمل تبعات أي “خطوات معادية ضد القطاع المصرفي”، حتى إن البنك “المركزي” غير الشرعي في صنعاء صرح بأنّ “السعودية ستكون مسؤولة عن أي تصعيد ضد القطاع المصرفي”، في إشارة إلى الضغوط الدولية التي دفعت البنوك إلى اتخاذ هذه الخطوة.
ويرى الصحفي اليمني سلمان المقرمي أنّ انهيار النظام المصرفي والمالي في صنعاء، وسيطرة “الحوثي” على مليارات الدولارات وترليونات الريالات اليمنية من أموال المودعين، والاستثمارات، والصكوك، وأذون الخزانة وغيرها؛ بالإضافة إلى وصول بعض البنوك إلى حالة الإفلاس وعجزها عن تسديد مرتبات بعض فروعها؛ وسيطرة نظام حوالات مصرفية حوثية على جميع الأنشطة المالية، تشكّل ملامح الأزمة الراهنة. وقد حاولت الحكومة، في وقت سابق من العام الماضي، إجبار هذه البنوك على النقل إلى عدن، ولكن المحاولة باءت بالفشل.
أما المتغير الحالي، فهو العقوبات الأميركية على بنك “اليمن والكويت”، أحد أكبر البنوك الخاصة، والتي عطّلته؛ وتصنيف واشنطن لجماعة “الحوثي” منظمةً إرهابيةً أجنبيةً مع فرض عقوبات شديدة عليها، ما اضطر بعض أكبر البنوك إلى النقل إلى عدن لتفادي الانهيار التام لعدم امتلاكها خيارات أخرى.
ومن ناحيةٍ أخرى، أثبتت تهديدات “الحوثيين” ضد السعودية العام الماضي فاعليتها في وقف نقل البنوك؛ ولذلك يسعى “الحوثيون” حالياً إلى حث الرياض على التدخل لدى واشنطن لإقناعها بعدم نقل البنوك أو فرض حصار مالي عليها.
ويعتقد “الحوثي” أنّ السعودية هي الجهة الوحيدة القادرة على إيقاف التحركات الأميركية ضد الجماعة، سواء عبر العقوبات أو غيرها؛ ويريد توريطها لأنه لا يستطيع مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، ولا يملك خيارات قوية لإجبارها على التراجع عن قراراتها.
تصفية بنوك صنعاء
ليست عملية نقل البنوك مسألةً صعبةً في حدّ ذاتها، لكن كان ينبغي أن تتمَّ في سريةٍ تامة، سواءً من حيث نقل الإمكانيات والمعدات الفنية أو نقل الموظفين المسؤولين عن العمل داخل هذه البنوك. إلا أن البيان الصادر عن البنك “المركزي” جعل هذه البنوك في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع جماعة “الحوثي”، حيث طالبت الأخيرة بإصدار بيانٍ تنفي فيه ما جاء في بيان البنك “المركزي”. وبالتالي، قد لا تتمُّ عملية النقل؛ ولهذا كان من الأفضل أن يُعلن البنك المركزي عن النقل بعد إتمامه وليس قبله، حتى تتمَّ العمليةُ بأمانٍ ويسرٍ.

ويرى “الحوثيون” في بقاء البنوك في صنعاء مسألةً سياديةً بحتةً ومصدرًا لمزايا اقتصادية لا تقبل النقاش. ومع ذلك، إذا نُقلت المقرات الرئيسية، ستظلُّ الفروعُ مفتوحةً في صنعاء، ما يسهل المحافظةَ على السيولة المالية، وبالتالي لن تواجه هذه البنوك أزمةَ العقوبات الأميركية، وفي الوقت نفسه يستطيع “الحوثي” المناورةَ بها.
هذا صحيح إذا افترضنا أن عقلية “الحوثي” عقليةٌ اقتصاديةٌ تراعي مصلحة المواطن اليمني ومصلحة رأس المال، لكن لا يمكن إغفالُ أن “الحوثي” يسعى إلى تصفية هذه البنوك، بهدف خلق نظام مالي موازٍ يمكّنه من السيطرة الكاملة عليها. كما أن نقل البنوك سيسلبه التحكمَ في سعر الصرف الوهمي الذي حاول فرضه خلال الفترة الماضية لقيمة الريال اليمني.
ويرى المقرمي أنه من المبكر جدًا الحديثُ عن نقل البنوك، إلا أنه لا شكَّ في أن “الحوثي” خسر موارد مهمة من إيرادات هذه البنوك التي ستنتقل إلى عدن وخارج مناطق سيطرته. فقد كانت هذه الإيرادات، حتى قبل اقتحام “الحوثيين” للبنوك والإشراف الصارم عليها، توفر مبالغ ضخمة للجماعة؛ إذ يحظر الحوثي منذ سنوات صرفَ أي حوالة بالدولار، محتكرًا هذا النشاط لنفسه.
وأضاف المقرمي، أن “قدرة” الحوثي على منع انتقال البنوك كبيرة، إلا أن العقوبات الأميركية أقوى. فهو يستطيع السيطرةَ على أصول البنوك في صنعاء من عقارات وشركات — فالبنوك الخاصة في اليمن تتبع في الأصل كبرى المجموعات التجارية، ولكل مجموعة بنكٌ خاص بها — كما يستطيع اعتقالَ الموظفين، وقد سبق أن فعل ذلك، وهو يسيطر فعليًا على أرصدتها وودائعها منذ سنوات.
لكن يبدو أن هذه المجموعات التجارية الكبرى تعتزم إنشاء مقرات رئيسية في عدن. ولهذا، أصدر البنك “المركزي” الشرعي في عدن، قبل أيام، بيانًا أعلن فيه أنه يعتزم مراقبة البنوك التي ستنتقل، وسيعمل على التأكد من إتمام عملية النقل.
كيفية تجاوز العقوبات
هناك نقطة في غاية الأهمية، وهي أن طلب البنوك الانتقالَ إلى عدن يعكس حجم المخاطر المصرفية داخل بيئة العمل المصرفي في المناطق الخاضعة لسيطرة “الحوثي”، مما دفع هذه البنوك إلى طلب النقل من البنك المركزي. وهنا يطرح سؤالٌ مهمٌّ: كيف يمكن للبنوك ممارسة عملها في ظل العقوبات الأميركية؟
ويرى المحلل الاقتصادي اليمني عبدالحميد الساجد، في حديثه لوسائل إعلام عربية، أنّ “العقوبات المفروضة جاءت نتيجة إعادة إدراج الحوثي على قوائم الإرهاب، لكن هناك خلطاً بين تعرض بنك أو أي شركة أو كيان لعقوبات أميركية وبين تصنيف وزارة الخزانة الأميركية الحوثيين منظمةً إرهابيةً. فمخالفة أي بنك أو كيان لمعايير الامتثال الدولية — بمعنى تقديم تسهيلات مالية أو غير مالية، مباشرةً أو غير مباشرة، للحوثيين أو لأي كيانات مرتبطة بهم — سيعرض هذه البنوك وهذه الشركات للعقوبات الأميركية”.
وبالتالي، فإن بقاء أي بنك في أي حيز جغرافي لن ينجيه من العقوبات الأميركية أو الدولية إذا استمر في خدمة “الحوثي” أو تقديم تسهيلات لمؤسسات إرهابية. وهذا يفسر سبب اختيار بنك اليمن والكويت كأحد البنوك المفروض عليها عقوبات؛ لثبوت ضلوعه في تمويل جماعة “الحوثي” وكيانات مرتبطة بها تعمل على إذكاء الصراع واستمرار الحرب وتضخيم ثروات “الحوثيين” من خلال عمليات غسيل الأموال وغيرها.
ومادام أي بنك لا يتورط بشكل مباشر في هذه الأعمال، فسيتمكن من تجاوز مسألة العقوبات. وهذا ما دفع البنوك إلى طلب تسهيل عملية الانتقال من البنك المركزي ومساعدتها في ذلك.
وإذا استمرت الاضطرابات الاقتصادية المتكررة والانقسامات الداخلية التي تنهش في جسد جماعة “الحوثي”، فلا يستبعد انحصار الجماعة، خاصةً مع العقوبات الأميركية الأخيرة وتراجع الدعم الإيراني أيضاً. فكل هذه المؤشرات تدل على قرب نهاية جماعة “الحوثي” وأنصارها.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

التوحّش الإيراني في الممرات البحرية يهدّد المصالح العربية

تحت عين «الحرس الثوري» وابتزاز العقوبات: «الكبتاغون» يزدهر في سوريا الجديدة

إيران في قلب معركة حصر سلاح “حزب الله”

الفصائل الفلسطينية في سوريا: من توظيف القضية تاريخيا للانفكاك عنها مستقبلا
الأكثر قراءة

وسط ترقب لانفراجة من واشنطن.. “المركزي السوري” يخفض سعر الدولار مقابل الليرة

وسط اتهام للمقاتلين الأجانب.. الأمن العام يفتح تحقيقا في مقتل أربعة أشخاص باللاذقية

هل تنجح قرارات المركزي الأخيرة في إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي السوري؟

هل تنتعش جيوب السوريين بعد رفع العقوبات الأميركية.. خبير يوضح

هل تبيع الحكومة الجديدة القطاع العام السوري كاملًا؟.. مستشار وزير الاقتصاد يجيب

نجوم سوريا يتفاعلون مع رفع العقوبات.. فرح وشكر من كل الأطراف!
المزيد من مقالات حول في العمق

“الإخوان المسلمون” بعد 7 أكتوبر: نحو التضييق الدولي والتفكك الداخلي

موسم زراعي كارثي في سوريا.. هل الأمن الغذائي في خطر؟

التوحّش الإيراني في الممرات البحرية يهدّد المصالح العربية

قنابل موقوتة ودروب وعرة: قلق وخوف ورعب يدفع بسوريين للهرب

مخاوف حوثية من انتفاضة نسائية مقبلة

حين يصبح الظلم قاعدة: النسوة السوريات ضحايا الانتصار والخسارة

تعيين المتشددين والأجانب على رأس الجيش.. هل يبتلع التطرف الدولة السورية؟
