الكثير من السوريين تألموا على مر السنوات السابقة بويلات الحرب الأهلية الدامية، التي خلّفت وراءها آلاف الأشخاص المفقودين والمختفين قسرا؛ وفي محاولة لإلمام جراح هذا الصراع المأساوي، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا تاريخيا لإنشاء مؤسسة مستقلة تتكلّف بالتحقيق في مصير هؤلاء الضحايا المجهولين. 

إلا أن مفارقة مريرة تعتري هذا القرار، فالحلف الروسي، الذي ينتمي إليه روسيا والصين وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وإيران، صوّت ضد هذا القرار الإنساني الذي ينص على جلب الأمل لآلاف العائلات المنكوبة في سوريا. وهنا تثار التساؤلات حول تصويت هؤلاء الخمسة ضد مبادرة تنقذ حياة وتوفر الكثير من الإجابات المنشودة، وما الذي يكمن وراء هذا القرار المثير للجدل.

إن القرار الذي تم اعتماده بأغلبية ساحقة يظهر الاهتمام العالمي بمصير المفقودين في سوريا، فمنذ بداية النزاع، تعاني العائلات السورية من عذابات الفقدان والانتظار المرير. ولكن ما لا يمكن تفسيره والذي يثير الرهبة هو سلوك الحلفاء المقربين لروسيا الذين يواجهون أنفسهم مشاكل مشابهة بسبب الحروب الأخيرة. فما السّر وراء تصويت الدول الخمسة ضد هذا القرار الإنساني.

“الخطوة التاريخية”

بيان الاتحاد الأوروبي الذي أعرب عن دعمه لهذه المبادرة يؤكد أن إقامة مؤسسة مستقلة للتحقيق في قضية المفقودين في سوريا يُعد أمرا بالغ الأهمية وإنسانيا. ويجلب الأمل لآلاف العائلات المنكوبة التي تسعى جاهدة للعثور على أحبائها المفقودين. 

الأمم المتحدة تنشئ مؤسسة مستقلة لـ”جلاء مصير” 100 ألف سوري مفقود بموافقة 83 دولة - إنترنت
الأمم المتحدة تنشئ مؤسسة مستقلة لـ”جلاء مصير” 100 ألف سوري مفقود بموافقة 83 دولة – إنترنت

في 29 حزيران/يونيو الفائت، ونحو خطوة وصفت بـ”التاريخية” والأولى من نوعها على هذا المستوى، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بإنشاء مؤسسة دولية جديدة لاستجلاء مصير المفقودين في سوريا وأماكن وجودهم وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم.

أيّد هذا القرار 83 عضوا بالأمم المتحدة ، وصوت 11 ضده من بينها الحلف الروسي “روسيا والصين وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وإيران”، وامتنع 62 عن التصويت. حيث أجمعت الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة، على كشف مصير ما يُقدّر بنحو 100 ألف شخص في عداد المفقودين أو المختفين قسرا خلال الحرب الأهلية في سوريا.

ما لا يمكن تفسيره أن حلفاء موسكو الذين يواجهون أيضا مشكلة الأشخاص المفقودين خلال الحروب الأخيرة، صوّتوا ضد القرار في الأمم المتحدة. وهذا يعني أن الحلف الروسي لا يريد هذه الآلية التي قد تدينهم وتكشف عن دورهم ومسؤوليتهم في قضايا وجرائم حرب داخل سوريا.

المؤسسة الجديدة التي ستنسّق مع جميع الأطراف المعنية وسيكون عملها مكمّلا لجهود تحديد مصير المفقودين وستتجنّب ازدواجية المعلومات، ستلقي الضوء على الدوافع والمصالح التي تحكم سلوك روسيا وحلفائها القائم على المصالح الجيوسياسية.

هذه التكهنات جاءت بعد الكشف عن بيانات أظهرت أن حصيلة المختفين قسريا في سوريا ما لا يقل عن 111907 شخصا، بينهم 3041 طفلا و6642 سيدة، وهؤلاء لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا منذ آذار/مارس 2011 حتى آب/أغسطس 2022، والحكومة السورية مسؤولة عن قرابة 86 بالمئة منهم.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، كان قد أوصى في تقريره الصادر في آب/أغسطس عام 2022 الدول الأعضاء في الجمعية العامة بالنظر في إنشاء المؤسسة العام الماضي بوصفها حجر الزاوية، في إطار حل قضية الأشخاص المحتجزين والمختطفين والمفقودين.

رهان يصطدم بـ”3 عقبات”

قبل وصوله إلى دمشق أمس الاثنين، أشار وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى إن لجنة التنسيق العربية مع سوريا تواصل حواراتها وجهودها مع الحكومة السورية لتنفيذ التزامات “بيان عمان” الذي تبِع مؤتمر جدة، لكن مدير قسم سوريا في “معهد الشرق الأوسط”، تشارلز ليستر، دلل على فشل هذه المبادرة، بـمقتل أكثر من 38 شخصا واحتُجز أكثر من 29 شخصا، فيما اختطف 8 آخرين في شهر حزيران/يونيو الفائت، وهذا تصاعد هائل في أعمال العنف بمحافظة درعا، المجاورة للأردن، حيث تتوقع عمّان عودة اللاجئين.

الأمم المتحدة تنشئ مؤسسة للمفقودين في سوريا رغم الرفض الصيني-الروسي - إنترنت
الأمم المتحدة تنشئ مؤسسة للمفقودين في سوريا رغم الرفض الصيني-الروسي – إنترنت

بدوره الاتحاد الأوروبي وأميركا رفضوا خلال مؤتمر “بروكسل” لدعم سوريا، حملة “التطبيع” مع دمشق دون شروط، منها الحل السياسي والكشف عن مصير المعتقلين، وهذا الأمر ترفضه موسكو ودمشق في آن واحد، كون القضية تمس أشخاصا بمراكز سيادية داخل البلدين.

الأكاديمي والباحث السياسي، مايكل لورو، أوضح لـ”الحل نت”، أن هناك 3 عقبات أجبرت الحلف الخماسي في الأمم المتحدة للتصويت ضد القرار الإنساني، أولها ضلوع روسيا بجرائم حرب داخل سوريا، فضلا عن أن هذه الآلية ستسمح للمؤسسات الدولية بالانخراط في سوريا وهو ما لا تريده روسيا خصوصا بعد أن صدمتها كازاخستان في خطوة مفاجئة، بالخروج على سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعلنت نهاية مسار “أستانا” الذي تتمسك به موسكو لإحكام قبضتها على القرار السياسي في سوريا.

ليس ذلك فحسب، بل إن هذا القرار الذي يسمح للآلية الدولية بالإشراف والبحث عن مصير المفقودين داخل مؤسسات الجيش السوري، وربما قد تعمل على عودة ملف القضية السورية دوليا، بعد أن ظهرت بوادر فشل في المبادرة العربية التي تبنتها عمّان وجدّة، وفق توصيف ليستر.

علاوة على ذلك، فإن إقرار مثل هذه الآلية يمهّد لصدور مثيلاتها، وهذا ما تتخوف منه روسيا بعد انخراطها بحروب مثل ليبيا والقارة الإفريقية وحاليا في أوكرانيا، وأيضا ما يتخوف منه أيضا حلفاؤها الذين يمارسون ذات الأساليب سواء في بلدانهم أو في المناطق التي ينخرطون بها.

إن أسباب تصويت الحلف الروسي ضد قرار المفقودين في سوريا معقدة ومتعددة الأوجه، وأحد الأسباب المحتملة بحسب لورو، هو القلق من أن مثل هذه المؤسسة المستقلة يمكن أن تكشف تورط التحالف الروسي في قضايا وجرائم حرب ارتُكبت داخل سوريا. ومن خلال التصويت ضد القرار، قد يسعون إلى تجنب أي مساءلة أو إدانة عن أفعالهم أثناء النزاع.

السيادة السورية ضمن القضبان

من المرجّح أن التحالف الروسي رفض إنشاء مؤسسة مستقلة للتحقيق بمصير المفقودين في سوريا بسبب مجموعة من العوامل نوقشت منذ سنوات فيما بينهم، وقد تشمل هذه العوامل رغبتهم في الحفاظ على التأثير والسيطرة على الملف السوري دوليا، فضلا عن مخاوفهم بشأن التدقيق الدولي المحتمل والتداعيات القانونية، والإحجام عن التعاون مع المؤسسات الدولية التي يمكن أن تقوّض أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.

مظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية - إنترنت
مظاهرة لإطلاق سراح المعتقلين في السجون السورية – إنترنت

بحسب حديث لورو، فإن تفسير موقف الحلف الروسي من هذه القضية في ضوء المبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان أمر صعب. حيث يثير قرارهم التصويت ضد القرار تساؤلات حول التزامهم بهذه المبادئ. ويشير إلى أن مصالحهم الجيوسياسية والاعتبارات الاستراتيجية قد تكون لها الأسبقية على المخاوف الإنسانية في سياق الصراع السوري.

في هذا السياق، قد يكون لرفض الحلف الروسي لهذا القرار أثر ضار على جهود الكشف عن مصير المفقودين في سوريا. فمن خلال معارضة إنشاء مؤسسة مستقلة حتى ولو أُقرت بإجماع دولي، فإنهم يعرقلون التقدم نحو المساءلة والعدالة للأسر المتضررة. وقد يساهم هذا الرفض أيضا في عدم وجود توافق وتعاون دوليين في معالجة الأزمة الإنسانية في سوريا.

من المحتمل أن تشترك دول أخرى، مثل الصين وبيلاروسيا وكوريا الشمالية وكوبا وإيران، التي صوتت ضد القرار، في مصالح ومخاوف جيوسياسية مماثلة لموسكو. وقد تختلف مواقفهم ودوافعهم المحددة، لكن معارضتهم الجماعية للقرار تشير إلى تقارب المصالح في منع التدقيق الدولي والمساءلة المحتملة، تبعا لحديث لورو.

إن لغياب مؤسسة مستقلة للتحقيق في مصير المفقودين في سوريا آثار إنسانية وقانونية كبيرة وهو ما يجمع عليه 83 عضوا في الأمم المتحدة. إذ إنه يعيق القدرة على تقديم الإجابات والعدالة للأُسر المتضررة، ويديم معاناتهم، ويمنع إنشاء سجل تاريخي شامل للصراع. 

لكن في حال عرقلة عمل مثل هذه المؤسسة، يعتقد لورو أنه يمكن للمجتمع الدولي فرض آليات بديلة، مثل المحاكم الوطنية أو المختلطة، والتحقيقات الدولية، أو عمليات الحقيقة والمصالحة، لتلبية احتياجات الأُسر المتضررة وضمان المساءلة عن الجرائم المرتكبة، خارج إطار سيطرة هذه الدول التي تتحكم بقرار الحكومة السورية.

هذه الطريقة تدل على أن المجتمع الدولي يدعم العائلات السورية لضمان حقها في معرفة مصير أحبائها المفقودين، إلا أن مسألة رفض الدول الخمسة لهذا القرار الأممي والإنساني ستظل مثيرة للجدل وتحمل عواقب واسعة النطاق، وتشير إلى ضلوعهم بشكل أو بآخر في تعمّد إخفاء مصير المفقودين خلال السنوات السابقة وحتى اليوم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة