بعد أكثر من ثمانية عقود من التحليق، تقف “السورية للطيران” -الناقل الوطني الوحيد في البلاد- أمام مفترق طرق مصيري، تحاول فيه النهوض من تحت ركام التخلّف الإداري والتقني الذي طالها، خاصة في ظل المتغيرات السياسية الأخيرة وسقوط نظام الأسد، وما تبعه من محاولات إعادة هيكلة قطاع النقل الجوي في سوريا. 

وشهد قطاع الطيران المدني السوري حالة من التدهور الكبير خلال السنوات الماضية، نتيجة تراكمات طويلة من الفساد وسوء الإدارة وغياب الدعم الفني والتقني والإهمال الكبير في صيانة الأسطول وتحديث البنية التحتية، ما أدلى إلى تغييب الناقل الوطني، وفسحت المجال أمام شركات أجنبية كان آخرها “التركية” و”القطرية”، للسيطرة على حركة الطيران من وإلى سوريا. 

تاريخ عريق.. حاضر هش

 تُعد السورية للطيران واحدة من أقدم شركات الطيران في المنطقة، حيث تأسست منذ ما يقارب 80 عاماً، وتمكّنت على مدى سنوات طويلة من ترسيخ مكانتها كشركة موثوقة تُقدّم أعلى معايير السلامة والأمان، مدعومة بأسطول متنوع من الطائرات تجاوز في فترة التسعينيات 20 طائرة، إضافة إلى طواقم جوية من أكفأ الطيارين السوريين. 

مطار دمشق الدولي – الحل نت

لكن هذا التاريخ لم يشفع لها أمام التراجع المؤلم الذي بدأ مع مطلع الألفية الثالثة، حين بدأت ملامح الإهمال تتسلل إلى المؤسسة، وتدهورت أوضاعها التشغيلية نتيجة الفساد والمحسوبيات، وسط غياب أي خطة إصلاحية جادة. 

ووفق ما أفادت صحيفة “الحرية” المحلية، بتقرير نشرته مؤخراً، فإن ما أصاب المؤسسة من ترهّل يعود إلى تغلغل الفساد في مفاصلها، حيث جرى تهميش الكفاءات وإقصاء الإدارات الرافضة للصفقات المشبوهة، وإحدى أبرز حلقات هذا التدهور تمثّلت في منح إدارة المؤسسة لشركة خاصة غير معروفة تُدعى “إيلوما”، تحت شعار “التشاركية”، بينما كانت جوهر الصفقة عبارة عن تنازلات غير معلنة لمقدّرات المؤسسة، ما أدى إلى الإطاحة بكبار مديريها. 

الصفقة التي قادها على الأرجح وزير النقل الأسبق ومعاونوه، لم تكن سوى تعبير صارخ عن حجم التواطؤ الذي ساد القطاع، في ظل غياب أي رقابة حقيقية.

تقلص الوجهات وتراجع الأسطول

في التسعينيات، كانت السورية للطيران تحلّق إلى أكثر من 50 وجهة دولية، منها عواصم أوروبية بارزة، أما اليوم، فلا يتجاوز عدد المحطات الخارجية 12 وجهة فقط. 

فضلاً عن ذلك، لا يتعدى عدد الطائرات القابلة للتشغيل طائرتين، وسط نقص حاد في الصيانة، وغياب قطع الغيار، وتعطل معظم الطائرات عن العمل. 

وتقول الصحيفة إن المؤسسة التي كانت يوماً ما رمزاً للريادة، تحوّلت إلى مثال حي على فشل التخطيط، وتآكل البنية التشغيلية، حتى بات إلغاء الرحلات أمراً معتاداً بذريعة “أسباب تشغيلية”، بينما تقوم شركات خاصة بملء الفراغ نفسه، ما يطرح علامات استفهام حول نوايا تغييب السورية للطيران لصالح القطاع الخاص. 

مرحلة جديدة وتحديات ضخمة بقطّاع الطيران

بعد سقوط نظام الأسد وأركانه، أُنشئت “هيئة الطيران المدني” لتكون الجهة المشرفة مباشرة على قطاع النقل الجوي، تحت مظلة رئاسة مجلس الوزراء، وتم بموجب ذلك نقل تبعية كل من “السورية للطيران” و”مؤسسة الطيران المدني” من وزارة النقل إلى الهيئة الجديدة. 

ويأمل السوريون أن تكون هذه الخطوة بداية لاستعادة هيبة الناقل الوطني، عبر إعادة هيكلة شاملة تشمل الأنظمة الإدارية والمالية والقانونية، والاستعانة بكفاءات محلية وخارجية. 

ورغم بعض التحركات لتحسين صورة المؤسسة، فإن التحديات الفنية تظل حجر عثرة أمام الانطلاق مجدداً، خصوصاً فيما يتعلق بجاهزية الطائرات القديمة التي ما زالت تعتمد أنظمة ملاحية تقليدية، لا تلبي معايير المطارات الحديثة. 

ففي الوقت الذي باشرت فيه الخطوط التركية تسيير رحلات منتظمة إلى دمشق، لم يُسمح بعد للطائرات السورية بالهبوط في المطارات التركية، بحجة “عدم الجاهزية الفنية”، وفق ما أوردت “الحرية”. 

وبحسب معنيين، فإن الطائرات السورية لا تستوفي معايير الطيران المدني التركي الصارمة، الأمر الذي يعكس حجم التأخر التقني في أسطول المؤسسة. 

هيمنة شركات الجوار.. وتهميش الناقل الوطني

أمام هذا الواقع، استغلت شركات الطيران التركية والقطرية الفراغ الكبير الذي خلّفه تراجع السورية للطيران، حيث باتت الرحلات الدولية من وإلى سوريا، تمرّ في الغالب عبر “ترانزيت” في اسطنبول والدوحة. 

وتشير مصادر في مكاتب الحجز إلى أن تركيا، تحديداً، استفادت من ضعف المرونة التشغيلية للسورية، لتتحوّل إلى مركز عبور رئيسي للسوريين القادمين من أوروبا إلى دمشق. 

وفي ظل غياب الدعم الكافي من الحلفاء الإقليميين مثل قطر وتركيا لتطوير قطاع الطيران السوري، تبقى فرص “السورية للطيران” بالانبعاث من جديد مرهونة بتوفير أسطول حديث من الطائرات، وإعادة تأهيل البنية التشغيلية والمطارات، وهو ما يتطلب تمويلاً حكومياً كبيراً وإرادة سياسية قوية. 

اليوم، ومع بدايات التحول السياسي، تبدو الحاجة ماسة إلى استراتيجية وطنية شاملة لإعادة الاعتبار للسورية للطيران، ليس فقط بوصفها شركة نقل، بل باعتبارها رمزاً سيادياً يجب أن يُعاد له دوره ومكانته. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات