إنَّ مسألةَ حصرِ السلاحِ في لبنان من أخطرِ الملفات وأصعَبِها، لما تمثِّله من عبءٍ ضاغطٍ على الدولة اللبنانية؛ إذ تضعُها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع “حزب الله”، الذي تسبَّب في الحروب الأخيرة التي عاشتها البلاد.

ولذلك، تعهَّدَ الرئيسُ جوزيف عون، عند توليه منصبه في كانون الثاني/يناير الفائت، العملَ على احتكارِ الدولة لامتلاك الأسلحة، وفتحِ محادثاتٍ مع “حزب الله” بشأن ترسانته العسكرية. كما كانت مسألةُ حصرِ السلاح الأساسَ الذي انطلقت منه مفاوضاتُ وقف الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

إلا أنَّ مسألةَ حصرِ السلاح لا تقتصر على الدولة اللبنانية و”حزب الله” فحسب، بل هي قضيةٌ متشابكةٌ تضمّ الدولة اللبنانية و”حزب الله” وإيران وأطرافًا دوليةً تراقب الوضع اللبناني المتداخل عن كثب؛ وهو ما يمنح تلك القضية أولويةً لدى القيادة اللبنانية.

قرار لا رجعة عنه

صرح الرئيس اللبناني جوزيف عون أكثر من مرة خلال الفترة الماضية عن رغبة الدولة في حصر السلاح، فقال لوسائل الإعلام الثلاثاء الماضي: “إن قرار حصر السلاح بيد الدولة اتُّخذ، وتنفيذه سيكون عبر الحوار بعيدًا عن أي شكل من أشكال اللجوء إلى القوة”. وأضاف: “هناك رسائل متبادلة مع حزب الله لمعالجة موضوع احتكار سلاح الدولة، وحزب الله يدرك مصلحة لبنان، والظروف الدولية والإقليمية تساهم في ذلك. نحن بحاجة إلى استراتيجية أمنية وطنية تحمي لبنان وتنبع منها استراتيجية دفاعية”. 

جنازة المسؤول العسكري المركزي الأول لـ "حزب الله" فؤاد شكر، الذي قتل في غارة إسرائيلية يوم 30 تموز/ يوليو الماضي، الضاحية الجنوبية لبيروت في 1 آب/أغسطس 2024 - أسوشيتد برس
جنازة المسؤول العسكري المركزي الأول لـ “حزب الله” فؤاد شكر، الذي قتل في غارة إسرائيلية يوم 30 تموز/ يوليو الماضي، الضاحية الجنوبية لبيروت في 1 آب/أغسطس 2024 – أسوشيتد برس

وفي مقابلة أخرى أوضح عون: “أما بالنسبة لعناصر حزب الله فهم في النهاية لبنانيون، وإذا أرادوا الانضمام إلى الجيش فيمكنهم الخضوع لما يُسمى دورات الاستيعاب، ولن يُسمح للحزب بالعمل كوحدة مميزة داخل الجيش اللبناني”. وأكد أن “قرار سحب السلاح سيُطبق في كل لبنان، لكن الأولوية للجنوب”. والحديث عن حصر سلاح حزب الله ليس جديدًا، وتأمل الدولة في إنجاح هذه الخطوة، ويفسر عون ذلك بأن الوضع الإقليمي تغيّر كثيرًا.

في تعليقها لـ”الحل نت”، قالت الخبيرة الأمنية ريتا بوليس شهوان: “تحاول الدولة اللبنانية منذ الأمس السيطرة على مراكز تخزين الأسلحة في الجنوب، وقد أعلن حزب الله أن 80% من مخازن السلاح تم تفكيكها وهي الآن تحت سيطرة الدولة. ومن ناحيةٍ أخرى، لم تعلن الدولة في خطابها عن نزعٍ أو تسليمٍ للسلاح، وإنما تنظر إلى حزب الله كمعضلة أمنية كبيرة، فهو نتاج تراكمات أمنية طويلة بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي عبر الحروب التي خاضتها البلاد وانفجرت في الحرب الأهلية عام 1975، المتعلقة بعدم قدرة الدولة على التعامل مع الواقع الفلسطيني وتطوّرت إلى كيانٍ يُسمى حزب الله”. 

لذا، تتعامل الدولة اللبنانية مع الحزب بوصفه معضلةً أمنية تشبه مرحلة فؤاد شهاب والمكتب الثاني، مع الاستناد إلى المؤسسات القائمة التي درّبتها دول صديقة على أعلى المستويات، باستثناء إيران. 

الفكرة اليوم هي حصر السلاح لا نزعُه أو تسليمه بحسب شهوان، لأن ذلك ينبع من إدراك الدولة أنها أمام معضلة أمنية بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه تواجه انعدام القدرة الدفاعية تجاه إسرائيل وعدم إمكانية وضع سياسة خارجية. ومع ذلك، لا ينفي هذا جهودها في السيطرة على الوضع وإعادة هيكلة سياساتها الداخلية والخارجية؛ لكن هذه المحاولات تبقى بسيطةً مقارنةً بالوضع الأمني الملتبس الذي تعيشه لبنان، حيث يتم التعامل مع بعض المسائل بطريقةٍ غير احترافية. مضيفة: “نحن اليوم في مرحلة حصر السلاح لا مرحلة نزعِه، لا سيما في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل ودمرتها كليًا”.

مراوغات “حزب الله”

صرّح الأمين العام لـ “حزب الله”، نعيم قاسم، برفضٍ قاطعٍ للدعوات المتزايدة لنزع سلاح الحزب، معتبرًا أن أي محاولةٍ لإزالة ترسانته هي “وهمٌ” يخدمُ المصالحَ الإسرائيلية في نهاية المطاف. ويأتي هذا الرفضُ رغم أن نزعَ سلاح الحزب يُعدُّ أحد الإجراءات الرئيسية للقرار 1701 الصادر عام 2006 عقب حربٍ سابقة مع إسرائيل، والذي يمنح قوةَ الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) والجيشَ اللبناني سلطةَ العمل والحفاظ على السلام على طول الخط الأزرق، ويُلزِمُ حزب الله بالابتعاد عن الحدود مقابل احترام إسرائيل للسيادة اللبنانية. 

وحذر قاسم من أن نزعَ سلاح المقاومة سيجعل لبنان ضعيفًا وعُزلاً، ويمهد الطريقَ لما أسماه طموحاتٍ توسعيةٍ لإسرائيل، مؤكدًا أن ترسانةَ الحزب هي ردٌّ مشروعٌ على إسرائيل وضروريةٌ لحماية سيادة لبنان.

وفي ضوء تزايد الدعوات المحلية والدولية لنزع سلاح الحزب، قال مسؤولٌ كبيرٌ في الجماعة لوكالة “رويترز” إنهم على استعدادٍ للدخول في حوارٍ مع رئيس الجمهورية بشأن ترسانتهم، شريطةَ انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وتوقّفها عن هجماتها. 

ويقول سياسيون لبنانيون إن وجودَ ترسانةٍ ضخمةٍ خارجةٍ عن سيطرة الحكومة قد جرّ لبنان من جانبٍ واحدٍ إلى صراعاتٍ متكررة، وأضعف قدرةَ الدولة على فرض سيادتها. 

وترى الخبيرة الأمنية ريتا بوليس شهوان أنه “لا يمكن تقدير حجم مخازن السلاح التي يمتلكها الحزب بدقة؛ فإسرائيل لا تستطيع الدخول بعمقٍ وعلى المدى البعيد في تحليل استراتيجية الحزب وتاريخَ تخزين الأسلحة على مدى سبعين عامًا كحد أدنى. وما دمَّرته إسرائيل من مخازنٍ خاصةٍ بحزب الله جعلها تنعمُ بأمانٍ نسبيٍ يقارب الخمسين عامًا. ورغم التفوق الاستراتيجي والعسكري الذي أظهرته، وسياسةَ الردع عبر اغتيال قيادات الصفوف الأولى والثانية والثالثة، فإن ذلك لم يمكنها من الوصول إلى جوهر العقيدة الدفاعية التي رسّخها نعيم قاسم بعد تطوّر الوجود والفكر الشيعي في لبنان”.

إيران إلى الواجهة

إن مسألة حصر سلاح “حزب الله” لا تتعلق بالحزب وحده، بل بإيران التي تقف في الخلفية داعمًا ماليًا ولوجستيًا رئيسيًا وموردًا للسلاح. فطهران تعتبر سلاح الحزب ورقةَ ضغطٍ في مفاوضاتها حول برنامجها النووي مع الأميركيين. 

عثرت قوات الجيش الإسرائيلي على أسلحة روسية حديثة في قواعد تابعة لـ”حزب الله” في لبنان- “وكالات”
عثرت قوات الجيش الإسرائيلي على أسلحة روسية حديثة في قواعد تابعة لـ”حزب الله” في لبنان- “وكالات”

وقد استنكر السفير الإيراني مجتبى أماني في تغريدة على منصة “إكس” (تويتر سابقا)، جهود نزع سلاح الحزب، واصفًا مشروعَ نزع السلاح بأنه “مؤامرة واضحة”، محذرًا من أن الدول التي تُجبر على نزع سلاحها تصبح “عُرضة للهجوم والاحتلال”، مستشهدًا بالعراق وسوريا وليبيا. وقال أماني: “إننا في الجمهورية الإسلامية ندرك خطورة هذه المؤامرة على أمن شعوب المنطقة، ونحذر الآخرين من الوقوع في فخ العدو”.

ويرى الكاتب الصحفي ناجح النجار، الباحث في العلاقات الدولية، في حديثه مع “الحل نت”، أن إيران بالتأكيد لن توافق على ترك “حزب الله” سلاحه، حتى وإن بدا أنها تتراجع إعلاميًا بسبب خسائرها الكبيرة في لبنان وسوريا تحت الضغط الأميركي والغربي. 

وأضاف النجار، أن طهران لم ولن ترغب في أن يترك “حزب الله” ترسانته، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار لبنان، وهو ما أغضب الرئاسة اللبنانية كثيرًا. لكن ذلك لا يعني أن إيران ستصرّ على دعم الحزب بلا تردد، ففي مراحل سابقة ضحّت بإحدى قيادات الحزب في لبنان، وحليفها بشار الأسد في سوريا، وإسماعيل هنية في غزة، من أجل بلورة تفاهمات حول برنامجها النووي ورفع العقوبات التي شلّت الاقتصاد وأثرت في حياة المواطنين الإيرانيين. 

ورغم تفوق “حزب الله” العسكري في الماضي، فقد بات ضعيفًا نسبيًا أمام القصف الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ولم تعد قوة حزبه كما كانت في السابق.

ومع ذلك، يتوقع النجار أن تواصل إيران دعم الحزب عسكريًا لكن بصيغة دبلوماسية خالية من التصعيد، حفاظًا على قنوات الاتصال مع واشنطن وتمرير ملفها النووي، خاصة بعد تهديدات الرئيس ترامب. وقد تضطر طهران إلى قبول تراجعٍ نسبي في دور الحزب السياسي والمعادلات الانتخابية، أو انتزاع وعودٍ مؤقتة للخروج عن أي استخدامٍ علني للسلاح. 

وترى إيران أن استمرار الحزب مسألةٌ ضروريةٌ لها في المنطقة واستدعاؤه حين الحاجة لتأجيج الصراعات، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن دعمه الحالي يمثل ملفًا ضاغطًا يؤدي إلى استمرار العقوبات عليها سواء لدعمه الحزب أو “الحوثيين” في اليمن. وبالطبع، لن تضحي إيران بنفسها ومستقبلها من أجل حماية أذرعها، وهو ما اتضح عندما تخلت عن العديد من حلفائها خلال الفترة الأخيرة.

بدورها تختتم ريتا بوليس شهوان حديثها بالقول: “إن عودة ملف حصر السلاح إلى واجهة السياسة اللبنانية جاءت نتيجة الضربات الإسرائيلية للضاحية الجنوبية؛ فإسرائيل لن تنسى أن حزب الله يملك مخزونًا كبيرًا من الأسلحة، وهو قلق أمني كبير بالنسبة لها. ولذا تسعى للتخلّص من هذه المشكلة تدريجيًا بما يحقق لها الأمان ولشعبها. ومن وجهة نظرها، لم تقدّم الدولة اللبنانية شيئًا ذا قيمة في هذا الملف إلا الخطابات، بينما تفتقر إلى أي تقدم عملي ملموس على أرض الواقع”.

في المحصلة، إذا كانت الدولة اللبنانية تسعى إلى مرحلة “صحوة سياسية”، فعليها أولًا أن تتخلص من التدخلات الإيرانية المستمرة في سياساتها، وأهمها دعم “حزب الله” وترسانته التي تشكّل عقبة كؤودًا في وجه استقرار لبنان الأمني تحت شعار “المقاومة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة